بروفايل: محمد طاهر أيلا رئيساً لوزراء السودان ... في مواجهة عاصفة الثورة

اختير لتفكيك «الحرس القديم»

صراعات أيلا مع خصومه الحزبيين تدور عادة حول «الصلاحيات» ما يكسبه عداء رجال الحزب الأقوياء
صراعات أيلا مع خصومه الحزبيين تدور عادة حول «الصلاحيات» ما يكسبه عداء رجال الحزب الأقوياء
TT

بروفايل: محمد طاهر أيلا رئيساً لوزراء السودان ... في مواجهة عاصفة الثورة

صراعات أيلا مع خصومه الحزبيين تدور عادة حول «الصلاحيات» ما يكسبه عداء رجال الحزب الأقوياء
صراعات أيلا مع خصومه الحزبيين تدور عادة حول «الصلاحيات» ما يكسبه عداء رجال الحزب الأقوياء

حين أعلن الرئيس السوداني عمر البشير فرض حالة الطوارئ و«حل الحكومة» في 22 فبراير (شباط) الماضي، انحناء لعاصفة المظاهرات التي اندلعت في عدد من البلاد 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018، وأبدى رغبته في تكوين حكومة مهمات ذات كفاءة، لم يكن يتصور أحد أن يأتي حاكم ولاية الجزيرة السابق محمد طاهر أيلا، رئيساً جديداً للوزارة محل معتز موسى، الذي لم يكمل أربعة أشهر في المنصب. لكن البشير، بعد يوم واحد من حل الحكومة، أصدر قراراً بتعيين أيلا رئيساً للحكومة، مفجراً مفاجأة كبيرة وسط الطاقم الحاكم نفسه، ناهيك من الدهشة التي أصابت كثيرا من المراقبين، لأن الرجل عرف بأنه «خلافي» و«غير وفاقي» داخل الحزب الحاكم «المؤتمر الوطني» نفسه. بل سبق له أن خاض صراعات مع قياداته في الولايتين اللتين حكمهما وهما ولاية البحر الأحمر وولاية الجزيرة.

رغم خلافات رئيس وزراء السودان الجديد محمد طاهر أيلا مع قيادات الحزب الولائية، فمن المرجح أنه يحظى بتأييد وثقة كبيرين من الرئيس عمر البشير. إذ فاجأ الأخير الناس حين أعلن في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 دعمه اللا محدود للرجل حتى إذا قرّر الترشح لرئاسة البلاد... ووقتها ارتبك المشهد، وثار السؤال: هل ينوي البشير التخلي عن منصبه لصالح أيلا، إذا ما قرر التنحي فعلاً؟
لم يحدث أن تحدث البشير صراحة عن «خليفته»، ما عدا تلميحات هنا وهناك، من بينها حديثه في مدينة عطبرة يناير (كانون الثاني) الماضي، بعدم ممانعته من تسليم الرئاسة لـ«عسكري». يومذاك قال: «لا مشكلة إذا جاء واحد لابس كاكي، والله ما عندنا مانع». وتابع مهدداً: «أقسم بالله العظيم لو دقت المزيكا كل فأر يدخل جحره»، في أول تهديد على مستوى الرئاسة للمتظاهرين الذين يطلبون منه «التنحي»، لكنه دعماً لرجله القوي، قالها بوضوح.
والحقيقة أنه منذ إعلان البشير ثقته في أيلا بهذه الطريقة، شرعت الأوساط السياسية في دراسة المستقبل السياسي للرجل الآتي من شرق البلاد، ومدى التزام البشير بدعمه رئيساً بديلاً. لكن المفاجأة جاءت أسرع من التوقعات فأعلنه «رئيساً للوزراء» في مكان الرجل «المقرب جداً» منه، معتز موسى.
كان أيلا من بين «الترشيحات» المتداولة لتولي منصب والي (حاكم) ولاية الخرطوم، لكنه في المرسوم الذي أصدره البشير عشية حل الحكومة، أتى به إلى العاصمة في عقر وزارتها «غازياً لا والياً»، في كرسي ثالث رؤساء وزارة في حكم الرئيس البشير المستمر منذ 30 سنة.

- إداري متسلط
لقد شغل أيلا من قبل عددا من المناصب الدستورية والعامة، وخلال هذه المسؤوليات، يتردد أنه يستخدم نمطا إداريا «متسلطا» في التعامل مع مرؤوسيه، بل ولا يتيح حتى لـ«قيادة الحزب» التدخل في قراراته، ما أدخلهم في صدامات معروفة ومعلنة معه في كل من بورتسودان والخرطوم، بيد أنه كان يجد السند دائماً من المركزي الحزبي والرئيس، على وجه الخصوص. إلا أن مؤيديه المقرّبين منه، يفسرون انفراده بالقرار بأنه «نوع من الكاريزما» التي يمتاز بها، فهو يمسك بالملفات كافة بقبضة حديدية، ولا يتيح إلاّ لدائرة ضيقة من المقربين منه الاقتراب من مركز القرار.
والحقيقة، أنه من الشخصيات التي يتباين الناس في تصنيفها... يحبه كثيرون، مثلما يكرهه كثيرون، وكلهم من الحزب الذي يحكم باسمه «المؤتمر الوطني». فإبان ولايته على البحر الأحمر، خاض صراعاً مريراً مع قيادات حزبية وصلت إلى حد القطيعة، فتدخل الرئيس البشير لتهدئة الأوضاع. أما المعارضون فيرون أنه نموذج فعلي للقيادات الإسلامية التي تحكم البلاد. ففي ولاية الجزيرة، خاض أيلا صراعاً مريراً مع المجلس التشريعي (برلمان الولاية)، تدخل بسببه البشير وفرض حالة الطوارئ، ومن ثم حل المجلس الولائي رغم كونه منتخباً.

- بطاقة شخصية
أبصر محمد طاهر أيلا النور عام 1951 في مدينة جبيت، بولاية البحر الأحمر في شرق السودان. وهو يتحدر من أسرة ثريّة تنتمي إلى قبيلة الهدندوة، التي تعد واحدة من أكبر مكوّنات قومية البجا المنتشرة في عموم شرق السودان وعلى الحدود المشتركة مع دولة إريتريا.
بعد دراسة الاقتصاد في جامعة الخرطوم، وبعد تخرجه مباشرة عمل في هيئة الموانئ البحرية. ثم ابتعث إلى بريطانيا، حيث التحق بجامعة كارديف للحصول على درجة الماجستير. وتولى قبيل وصول البشير للحكم، وعلى أيام العهد الديمقراطي بقيادة الصادق المهدي، سُمّي أيلا وزيرا ولائياً في شرق البلاد، قبل أن ينتقل مديراً لهيئة الموانئ البحرية بعد انقلاب الإسلاميين في 1989.
ثم في «حكومة الإنقاذ» اختير وزيراً للتجارة، ووزيراً للنقل، ثم وزيراً للاتصالات. وظل يتقلب في الوظائف حتى عاد في 2005 إلى بورتسودان والياً على ولاية البحر الأحمر التي ظل يحكمها حتى عام 2015. وبعد 2015 نقله الرئيس والياً لولاية الجزيرة وسط البلاد، بسبب خلافات بينه وبين قيادات تشريعية وحزبية تابعة للحزب الحاكم في عاصمة الولاية. وهناك تباينت حوله الآراء؛ الموالون يرونه حاسماً وإدارياً صارماً، أما مناوئوه فيصفونه بأنه «إقصائي، متفرد برأيه، لا يعمل ضمن فريق».
يقدم أيلا نفسه بأنه حرب على الفساد. ولتأكيد ذلك كتب بعيد تعيينه رئيسا للوزراء على صفحته في «فيسبوك» الكلمات التالية «لأجلكم قبلت التكليف وبكم نجتاز الصعاب، وسأضرب بيد من حديد، وحربي سأعلنها من لحظة أدائي للقسم، هي ضد الفساد والمفسدين».
ثم إنه من المسؤولين القلائل الذين يعملون على «تسويق أنفسهم» عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويحرص على علاقة تواصل مباشرة بين مؤيديه ومعجبيه، ويتابع صفحته أكثر من 50 ألفا، ويعجب بها أكثر من 60 ألفا. وفي هذا الصدد، يقول البعض إن جهده على مواقع التواصل هدفه الوصول إلى أكبر عدد من المُريدين، باعتباره خليفة محتملا للبشير.

- صراعاته الحزبية والسياسية
صراعات أيلا مع خصومه الحزبيين تدور عادة حول «الصلاحيات»، ما يكسبه عداء رجال الحزب الأقوياء، لكنه كان ينتصر عليهم بـ«الضربة القاضية»، عادة. وكما سبقت الإشارة، درج الرئيس البشير على الانتصار له، ففي صراعه مع المجلس التشريعي «برلمان الولاية»، وقيادات الحزب الحاكم، أصدر البشير مرسوما حل بموجبه المجلس التشريعي، وفرض حالة الطوارئ لصالحه. وعندما حاول الحزب الحاكم في الجزيرة «عزله» وقدم مذكرة للرئيس بهذا المعنى، حسم الرئيس الصراع لصالحه بضربة قاضية ثانية حين قال في مخاطبة جماهيرية إنه يؤيد بقاءه حاكماً للجزيرة حتى انتخابات 2020. وأضاف: «سيبقى في المنصب إلاّ إذا قدر الله ورفضه أهل الجزيرة». وهو عادة ما كان يقول عنه دائماً إنه «هديته لأهل الجزيرة». ولم تفلح كل محاولات حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الإسلامية في ولاية الجزيرة في الإطاحة بالرجل.
ولم تكن المطالبات بعزل أيلا من قبل البعض في ولاية الجزيرة حالة وحيدة، فإبان ولايته على البحر الأحمر - وعاصمتها مدينة ود مدني - نشطت حملة في 2014 لجمع «مليون توقيع» لإقالته من منصبه، وكوّنت لذلك لجنة حملت اسم «اللجنة العليا للمطالبة بسحب الثقة عن الوالي»، لكن النصر على خصومه الحزبيين، عادة ما كان يأتيه عاجلاً من القصر الرئاسي في الخرطوم. وبحسب صحيفة «الصيحة» المحلية، فإن الصراع بين أيلا وحزب المؤتمر الوطني الحاكم - والغرابة أنه كان يترأس الحزب بحكم منصبه - مرحلة عظيمة، واستخدمت فيه مختلف الأساليب، ووجهت خلاله انتقادات حادة لـ«مشاريع أيلا في مدني»، وخاصة الطرق، التي كشفت الأمطار، بحسب الصحيفة، عن وجود أخطاء هندسية لافتة في تصميمها.
ونقلت الصحيفة عن عبد القادر أبو ضريس، رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية في المجلس - وهو من المؤيدين لأيلا - أن الحملة ضد الرجل لا تتعدّى كونها «ناموسة في أذن فيل»، وأنها لا يمكن أن تؤدي إلى إزاحة الرجل، لأن المجموعة التي تشن الحملة، تعمل ضد الرجل لأنه «ضرب مصالحها». وتابع: «ما يثيرونه من إخفاقات ومخالفات مالية ضد أيلا لا تتعدّى كونها محض إشاعات وافتراءات مغرضة»، مضيفا: «كانت هناك مراكز قوى في الولاية، ضُربت بمجيء أيلا للولاية».
ويرى كثيرون في الجزيرة، أن أيلا نفذ مشاريع كثيرة خلال إدارته للولاية، وعلى وجه الخصوص، الطرق والسياحة، ويقللون من أخطاء هندسية صاحبت إنشاء طرق وأرصفة، باعتبارها أخطاء عمل، وأن تضخيم الأخطاء يقلل من العمل.
لكن مناوئي أيلا ينظرون إلى الرجل بعين السخط ويقللون منه. وفي هذا نقلت «الصيحة» عن وزير الشؤون الاجتماعية الأسبق بالولاية الحارث عبد القادر، أن أيلا «يتخذ القرارات منفرداً ولا يشاور حولها»، وهو ما أنتج أخطاء دفعت أعضاء بالمجلس التشريعي لصياغة «مخالفاته» في مذكرة قدمت له، لكنه «صم آذانه» عنها ما أدى لتفجر الصراع. ويعرف عن أيلا بحسب الحارث، أنه ينشئ فرقاً موازية موالية له في كل الوزارات يدير من خلالها العمل بعيداً عن الرقابة، وهو الشيء الذي جعل المجلس التشريعي يسقط قانون «صندوق إنفاذ التنمية» المقدم من قبله.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.