سارة الزعفراني... مهندسة مخضرمة تترأس حكومة تونسية أولوياتها اقتصادية

في طليعة مهامها «تحقيق العدالة للجميع»

الزعفراني
الزعفراني
TT

سارة الزعفراني... مهندسة مخضرمة تترأس حكومة تونسية أولوياتها اقتصادية

الزعفراني
الزعفراني

بعد نحو ستة أشهر من تعديل حكومي واسع شمل 22 حقيبة وزارية ورئاسة الحكومة، أعلنت رئاسة الجمهورية في تونس عن إقالة رئيس الحكومة كمال المدوري، الخبير الدولي في المفاوضات الاجتماعية والا

قتصادية، وتعويضه بوزيرة التجهيز والإسكان في حكومته سارة الزعفراني الزنزري. جاء هذا التعديل، وهو السادس من نوعه منذ يناير (كانون الثاني) 2020، في مرحلة شهدت تعقد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية التي تمر بها تونس والمنطقة، وخلال فترة عرفت تزايد انتقادات الرئيس التونسي قيس سعيّد لـ«لوبيات» اتهمها بعرقلة مشاريع الإصلاح التي أراد أن يفتتح بها عهدته الرئاسية الثانية. هذه الانتقادات أعادت إلى الأذهان تصريحات وبلاغات إعلامية رئاسية عديدة صدرت خلال الأشهر الماضية عن الرئيس سعيّد ومقرّبين منه تتهم مسؤولين كباراً في الحكومة وفي الإدارة بالسلبية والفشل وسوء التصرف في الأملاك العمومية، وأيضاً في ملفات التضخم وارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للطبقات الشعبية، بجانب ملفات أمنية عديدة، بينها تدفق آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء وتمركزهم في تونس بطريقة غير قانونية.

كشفت البلاغات الرسمية الصادرة عن قصر الرئاسة التونسية في قرطاج فور مباشرة المهندسة سارة الزعفراني الزنزري، رئيسة الحكومة الجديدة، مهامها عن أن أولوياتها ستكون في المقام الأول «تقنية» واقتصادية اجتماعية. وتشمل بالأخص إصلاح الأوضاع المالية وتحقيق العدالة للجميع، وتكريس الديمقراطية الاجتماعية والأمن الاجتماعي.

في المقابل، غضّت كل التصريحات الصادرة عن الزعفراني، فور توليها منصبها الجديد، الطرف عن مطالب النقابات والمعارضة التي تطالب بـ«الديمقراطية السياسية»، و«تنقية المناخ السياسي العام في البلاد»، و«تكريس استقلالية القضاء والإعلام» وتنظيم «حوار وطني» بين السلطات والنقابات والمعارضة.

لقد خصّص الخطاب الذي ألقاه الرئيس التونسي أمام أعضاء مجلس الأمن القومي، قبل ساعات من إقالة رئيس الحكومة السابق كمال المدوري وتعيين الزعفراني، فقرات لانتقاد المعارضة والنقابات و«اللوبيات»، التي اتهمها بـ«التآمر» على الدولة بالتزامن مع انطلاق محاكمة عشرات من المتهمين في قضايا «التآمر على أمن الدولة» وشبهات «الضلوع في الإرهاب والفساد»، بينهم عدد من زعماء أحزاب المعارضة، ووزراء، وبرلمانيون سابقون، ومحامون ورجال أعمال، ونشطاء سياسيون وحقوقيون مستقلون. وكان بين هؤلاء قادة «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة وزعيمة الحزب الدستوري عبير موسي، ورئيس البرلمان السابق راشد الغنوشي ورئيس الحكومة الأسبق علي العريّض.

أيضاً، رفض سعيّد بقوة، في المناسبة، الدعوات إلى «تنظيم حوار وطني جديد»، واتهم الداعين إليه بمحاولة «إهدار الحكومة ومؤسسات الدولة وإعادة البلاد إلى مرحلة الصراعات والمؤامرات السياسية». وقال سعيّد إن لدى البلاد برلماناً منتخباً من غرفتين وظيفته «تشريعية». واعتبر أن «الحوار يجري بداخله»، وأن دور رئيس الحكومة مساعدة رئيس الجمهورية في أداء مهماته.

رهان على «المهندسين»

على الرغم من الصبغة السياسية والسيادية لموقع رئيس الحكومة، يكرّس اختيار المهندسة ووزيرة التجهيز والإسكان لرئاستها استمرارية اعتمدها صنّاع القرار في تونس منذ 2011 عند اختيار رؤساء الحكومات. وإذا ما استثنينا هشام المشيشي، الذي ترأس حكومة تونس ما بين سبتمبر (أيلول) 2020 و25 يوليو (تموز) 2021 والذي كان خريجاً لكلية الحقوق والعلوم السياسية، فإن معظم رؤساء الحكومات الذين تداولوا على قصر القصبة، منذ انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2011، مهندسون ومن خريجي المدارس العليا للمهندسين في تونس وأوروبا.

في هذا السياق، يسجّل أن حزب «حركة النهضة» والائتلاف الحاكم بين 2011 و2014 عيَّن ثلاثة مهندسين لرئاسة الحكومة، هم على التوالي: حمّادي الجبالي (ديسمبر/كانون الأول 2011 - مارس/آذار 2013) وعلي العريّض (مارس 2013 – يناير 2014 ) والمهدي جمعة (يناير 2014 - فبراير/شباط 2015).

وإبّان حكم الرئيس الليبرالي الباجي قائد السبسي بين يناير 2015 ويوليو 2019 اختار الرئيس مهندسَين لرئاسة الحكومة، هما الحبيب الصيد لمدة سنة ونصف السنة، ثم يوسف الشاهد لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة.

فترة حكم سعيّد

كذلك، ما يلفت أن سارة الزعفراني الزنزري هي المهندسة الرابعة التي تعيّن لرئاسة الحكومة منذ وصول الرئيس قيس سعيّد إلى قصر قرطاج بعد انتخابات أكتوبر 2019.

إذ عيّن المهندس الحبيب الجملي رئيساً لأول حكومة بعد تلك الانتخابات، لكنه فشل بعد أكثر من شهرين من المفاوضات في نيل ثقة البرلمان، فسقطت حكومته وجرى تمديد عهدة المهندس يوسف الشاهد حتى أواخر فبراير 2020، وهو تاريخ تنصيب المهندس إلياس الفخفاخ رئيساً جديداً لـ«حكومة الوحدة الوطنية».

وبعد منعرج 25 يوليو 2021، والانتقال من «نظام برلماني معدّل» إلى «نظام رئاسي مركزي»، عيّن الرئيس سعيّد المهندسة نجلاء بودن رمضان رئيسة للحكومة الجديدة، التي استمرت حتى أغسطس (آب) 2023. وبعدها استعيض عن بودن بالخبير القانوني أحمد الحشّاني لمدة سنة، ثم بوزير الشؤون الاجتماعية السابق كمال المدوري لمدة ستة أشهر، قبل أن يقع الاختيار مجدداً على مهندسة «لتنسيق العمل الحكومي»، على حد تعبير الرئيس سعيّد نفسه. وهذا ما قاله أخيراً بقصر قرطاج أمام كبار كوادر الجيش والأمن وعدد من الوزراء بينهم السيدة الزعفراني نفسه، ثم على هامش موكب «تسليم المهام» في قصر الحكومة بالقصبة.

الجانب الأهم في المسار المهني والإداري والسياسي للزعفراني خبرتها الطويلة في مجال الإشراف على المشاريع الكبرى

ثاني امرأة

لم يُعرف عن سارة الزعفراني، ثاني امرأة تتولى رئاسة الحكومة التونسية، انخراطها في الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني قبل ثورة 2011 أو بعدها. وأيضاً، لا يذكر زملاؤها في الجامعة التونسية أنها كانت من بين الطلبة الذين لعبوا دوراً بارزاً في النقابات والتيارات السياسية الطلابية اليسارية أو القومية والإسلامية التي كان تأثيرها قوياً إبّان العقود الماضية.

وإذ كانت الزعفراني قد تولّت رئاسة الحكومة وهي في الـ62 من عمرها، فإن سيرتها الذاتية تبرز صبغتها «التقنية» وخبرتها الإدارية الطويلة في الإدارة التونسية، وخاصةً، في قطاع الإشراف على المشاريع الكبرى للدولة، لا سيما في وزارتي التجهيز والإسكان والأشغال العامة والنقل.

لكن من نقاط قوة الزعفراني كونها ضمن أقلية من الوزراء الذين لم يعزلهم الرئيس سعيّد، منذ تعيينها وزيرة ضمن حكومة بودن في أكتوبر 2021، على الرغم من خطورة الملفات التي كانت تشرف عليها مالياً وتقنياً وسياسياً، وبينها الإشراف على مشاريع الإسكان وتطوير البنية الأساسية في كل القطاعات وفي كامل البلاد.

وحقاً، حافظت الزعفراني على منصبها طوال فترة حكومة بودن، ثم في فترتي حكومتي أحمد الحشاني وكمال المدوري. بل، وكُلّفت أيضاً الإشراف على حقيبة النقل عند شغور المنصب في 2024.

وعلى الرغم الصبغة «التقنية» لكل المسؤوليات الحكومية التي أسندت للزعفراني طوال ثلاث سنوات ونصف السنة، فإن عضويتها بمجلس الوزراء ومواكبتها ومشاركتها بمؤسسات تتدخل في كل المشاريع العمومية للدولة ولكل الوزارات، مزايا تؤهلها - حسب تقدير المتحمسين لتعيينها - لأن تلعب دوراً سياسياً كبيراً في سياق المربّع الذي يرسمه لها رئيس الدولة.

الأمن والدفاع والإدارة

تبرز السيرة الذاتية التفصيلية لرئيسة الحكومة التونسية الجديدة، وهي أم لثلاثة أولاد، أنها ولدت في العاصمة تونس في يناير 1963، ثم تزوجت من شخصية من عائلة الزنزري في منطقة الساحل، التي ينحدر منها غالبية المسؤولين في الدولة منذ عهد الرئيسين الحبيب بورقيبة (1956 - 1987) وزين العابدين بن علي (1987 - 2011).

وإذ عرفت الزعفراني باستقلاليتها ونجاحها مهندسةً عامة متخصّصة في الهندسة المدنية والهندسة الجيو - تقنية، فإن في رصيدها كذلك مشواراً أكاديمياً وعلمياً في جامعات المهندسين في تونس وألمانيا وفي مؤسسات العلوم الإدارية والأمنية والعسكرية والسياسية، بما في ذلك «معهد الدفاع الوطني» و«المدرسة العليا للإدارة» في تونس.

إذ حصلت الزعفراني عام 1989 على إجازة في الهندسة المدنية من المدرسة الوطنية للمهندسين في الجامعة التونسية، ثم على شهادة الماجستير في الهندسة «الجيو- تقنية» من جامعة هانوفر بألمانيا. وعبر مساريها العلمي والجامعي في تونس وألمانيا أتقنت 4 لغات هي العربية، والفرنسية، والألمانية والإنجليزية.

كذلك، شاركت الزعفراني في دورات تدريب إداري وأمني متقدّم عامي 2019 و2020 في الدورة الـ37 من دورات «معهد الدفاع الوطني»، التي تخصّص لتنويع خبرات نخبة من كوادر الدولة المدنيين والعسكريين والأمنيين. وحصلت عام 2019 على شهادة من «معهد القيادة الإدارية» بـ«المدرسة الوطنية للإدارة» بعد مشاركتها في برنامج تدريب خاص ب«القيادة والسياسات العمومية».

التوازنات المالية والأمن الاجتماعي

غير أن الجانب الأهم في المسار المهني والإداري والسياسي لسارة الزعفراني هو خبرتها الطويلة في مجال الإشراف على المشاريع الكبرى بقطاعات الدراسات الهندسية وبرامج الحكومات المتعاقبة منذ 1989 في مجالات البنية التحتية والتجهيز والنقل والجسور والطرقات.

وهنا نشير إلى أن رئيسة الحكومة الجديدة كانت قد رقّيت منذ يناير 2014 إلى منصب مدير عام في وزارة التجهيز والإسكان مكلفة بالإشراف على قطاع الطرقات والجسور على الصعيد الوطني. وعرفت، بحسب عدد من زملائها السابقين في الجامعة وفي الإدارة والعمل الحكومي، بـ«جديتها وحزمها وانضباطها واحترامها للقوانين».

هذا، وكشفت جلسات العمل الأولى التي عقدتها الزعفراني مع الرئيس سعيّد ومع محافظ البنك المركزي فتحي النوري ووزيرة المالية مشكاة سلامة الخالدي، ثم مع كامل فريقها الحكومي، عن أن أولويات المرحلة المقبلة هي الإصلاحات المالية وتعديل قانون البنك المركزي وتخفيض الأعباء الإدارية للحكومة والتحكم في عدد الموظفين.

كذلك، كشفت عن أن «هاجس» الرئيس سعيّد وراء تعيينها على رأس الحكومة الجديدة هو محاولة تكريس برامجه وشعاراته عن «الانحياز للفقراء وضعاف الحال» و«العدالة الاجتماعية» و«الاعتماد على الموارد الذاتية للدولة من دون اللجوء إلى الاستدانة من الخارج».

واقع اللااستقرارولكن التعديل الجديد على رأس الحكومة التونسية دفع مراقبين إلى التساؤل عن حظوظ تناغم الفريق الحكومي الحالي، وما إذا كانت التعديلات ستشمل أيضاً الوزراء الذين جُدد لـ22 منهم قبل بضعة أشهر، وسط انخراط أعضاء في البرلمان الحالي وفي الأحزاب المساندة للرئيس في حملات إعلامية وسياسية وجهت انتقادات لسياسات الدولة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. وشملت تلك الانتقادات ملفات الأسعار والاستثمار والبطالة والهجرة القانونية وغير القانونية والعلاقات مع «دول الجوار»، وبالذات مع ليبيا، والجزائر، وإيطاليا وفرنسا. كذلك أعرب مراقبون عن انشغالهم وتخوفهم من هشاشة الاستقرار الحكومي منذ 2011، وبخاصة منذ 2020.

فلقد رأت دراسات وتقارير متخصصة أن «سرعة تغيير» الوزراء ورؤساء الحكومات والكوادر العليا للدولة يمكن أن تفاقم المعضلات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية والأمنية للبلاد، فضلاً عن احتمال تعطيل برامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والأمني وخطط «الإنقاذ» التي وعدت بها أطراف سياسية عديدة خلال السنوات الماضية.

وفي الوقت نفسه، نوَّه عدد كبير من الإعلاميين والساسة بإيجابية تعيين «مهندسة مستقلة» و«شخصية تكنوقراطية» على رأس الحكومة، على الرغم من تساؤلهم عن فرص نجاحها في قيادة البلاد مع رئيس الدولة في مرحلة صعّدت فيها النقابات والمعارضة تحرّكاتها الاحتجاجية، بالتزامن مع انطلاق مسلسل محاكمة المتهمين في قضايا التامر على امن الدولة بحضور مراقبين دوليين.


مقالات ذات صلة

سعيّد: تونس لن تكون معبراً أو مقراً للمهاجرين

شمال افريقيا مهاجرون في صفاقس بعد تفكيك مخيمهم (أ.ف.ب)

سعيّد: تونس لن تكون معبراً أو مقراً للمهاجرين

«هؤلاء المهجّرون لم يكونوا أقلّ بؤساً في السابق، ولم تكن هذه الظاهرة موجودة بهذا الحجم، وإن كانوا اليوم يبحثون عن مواطن آمنة فلأنّهم ضحيّة نظام اقتصادي عالمي».

«الشرق الأوسط» (تونس)
شمال افريقيا مهاجرون في صفاقس (أ.ف.ب)

الرئيس قيس سعيد ينفي أي اتفاق مع الاتحاد الأوروبي على ترحيل تونسيين

بحلول الثاني من أبريل (نيسان)، أفادت المنظمة الدولية للهجرة بأنها نفَّذت 1740 عملية عودة طوعية، بعد نحو 7000 عملية العام الماضي.

«الشرق الأوسط» (تونس)
شمال افريقيا شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس (الشرق الأوسط)

تفكيك شبكات فساد وغسل أموال تنشط في مجال النقل الخاص بتونس

لم تُورد وزارة الداخلية أسماء الشركات المعنية غير أن مصدراً مطلعاً أكد أن من بين الشركات المشمولة بالقرار «بولت»، ومقرها إستونيا، الناشطة في كثير من دول العالم.

«الشرق الأوسط» (تونس)
شمال افريقيا شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة تونس (الشرق الأوسط)

نصف المهندسين المسجلين في تونس هاجروا من البلاد

يقدر «المرصد الوطني التونسي للهجرة» عدد المغادرين سنوياً بأكثر من 35 ألفاً. وتمثل دول الاتحاد الأوروبي ودول الخليج وكندا، وجهات رئيسية للمغادرين.

«الشرق الأوسط» (تونس)
شمال افريقيا وزير الاتصالات التونسي السابق منتصر وايلي (متداولة)

تونس: الحكم بسجن وزير اتصالات سابق بتهمة «فساد مالي»

قرّرت دائرة الاتهام المختصة بالنظر في قضايا الفساد المالي لدى محكمة الاستئناف بتونس العاصمة إصدار بطاقتي إيداع بالسجن في حق الوزير السابق منتصر وايلي، وشخص آخر

«الشرق الأوسط» (تونس)

المفاوضات الروسية ــ الأوكرانية تواجه مأزق اختلاف الأولويات

لقطة لجلسة المفاوضات الأخيرة في اسطنبول (آ ب)
لقطة لجلسة المفاوضات الأخيرة في اسطنبول (آ ب)
TT

المفاوضات الروسية ــ الأوكرانية تواجه مأزق اختلاف الأولويات

لقطة لجلسة المفاوضات الأخيرة في اسطنبول (آ ب)
لقطة لجلسة المفاوضات الأخيرة في اسطنبول (آ ب)

لم يتوقع أي طرف من الفاعلين الرئيسيين في الصراع الروسي الغربي، في أوكرانيا وحولها، اختراقات كبرى في جولة المفاوضات المباشرة الأولى من نوعها منذ ثلاث سنوات. إذ ذهبت الوفود إلى إسطنبول، تسبقها سجالات حادة حول مستوى التمثيل، وأجندة الحوار المنتظرة، وسقف التقدم الذي قد يسمح للبعض بالحديث عن نجاح محدود. ومع أن الضغط المباشر الذي مارسته إدارة الرئيس دونالد ترمب على الطرفين الروسي والأوكراني لعب دوراً حاسماً في انعقاد الجولة الخاطفة، لكنها لم تستمر سوى ساعتين. وأثمرت اتفاقاً محدوداً على تبادل الأسرى، وتفاهماً على العودة إلى طاولة المفاوضات بـ«ورقتي عمل»، يحدد كل طرف فيها رؤيته لآفاق السلام. بيد أن هذه النتيجة ليست كافية لإعلان انطلاق مسار السلام في أسوأ أزمة سياسية وعسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، زلزت أوروبا ورمت بثقلها على العالم كله.

لقد اتضح أن وعود الرئيس دونالد ترمب الانتخابية بوقف الحرب الأوكرانية في 24 ساعة، لم تكن خيالية فقط، بل عكست تجاهلاً مريعاً لأبعاد الصراع وتعقيداته الكثيرة.

كذلك أظهر اللقاء المحدود مستوى التباعد، الذي خلقته الحرب خلال السنوات الثلاث الماضية بين الروس والأوكرانيين، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على صعيدي البُعدين النفسي والإنساني أيضاً، لدرجة أن الوفدين اللذين يتقن كلاهما جيداً اللغة الروسية تكلما بالإنجليزية عبر مترجمين.

ثم إن الأهم من ذلك برز مع اتضاح مستوى التباين في أولويات الطرفين، إذ مقابل «شروط بوتين» للوصول إلى تسوية شاملة ونهائية، التي وصفها الأوكرانيون بأنها «تعجيزية»، هدفها إحباط أي تقدم محتمل، أصرّ الجانب الأوكراني على التمسك بورقة الهدنة المؤقتة التي تحظى بدعم أوروبي كامل.

شروط بوتين

بوتين كان قد أعلن قبل أسبوع أنه مستعد لمفاوضات «من دون شروط» رداً على طلب مُلِحّ من جانب قادة أوروبيين، وبدعم أميركي، بإعلان هدنة مؤقتة لمدة شهر، ولكن في الواقع جرت جولة المفاوضات بشروط وضعها بوتين بنفسه. فهو حدّد «الخطوط الحمراء» التي لا يمكن تجاوزها عند التطرق إلى أي حوار مباشر مع الأوكرانيين، أولها أنه لا كلام مسبقاً عن هدنة، وأي وقف لإطلاق النار يجب أن يكون نتيجة الحوار، وليس مقدمة له.

أيضاً، بوتين اختار مكان وزمان عقد المفاوضات. وبالذات، في إسطنبول في القصر الرئاسي الذي استضاف المفاوضات قبل 3 سنوات، ليقول للأوكرانيين: رفضتم عروضاً سابقة هنا، والآن تعودون للمكان ذاته وأنتم أضعف ونحن أقوى. لكن شروط بوتين، التي يمكن وصفها بأنها تشكل «استراتيجية التفاوض» الروسية لا تقتصر على ذلك.

إذ إن المفاوضات الحالية تنطلق من المكان نفسه الذي توقفت فيه المفاوضات في مارس (آذار) 2022، ولكن مع مراعاة التغيرات الميدانية التي وقعت خلال السنوات الثلاث الماضية.

المغزى الواضح أنه لا مكان للكلام عن تراجع روسيا عن ضم 4 مقاطعات أوكرانية، فضلاً عن ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، والاحتمال التفاوضي قد يتعلق بالحدود الإدارية لهذه المقاطعات فقط، التي لا تسيطر عليها روسيا بشكل كامل عسكرياً. والمقصود أن هامش المناورة يراوح عند خطوط التماس الحالية، وتستحيل تماماً العودة إلى حدود عام 1991 عندما أعلنت أوكرانيا استقلالها بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي.

الشرط الثاني الرئيسي لبوتين اتضح مع رفض أي وجود لأوروبا على طاولة الحوار. وتمسك وزير الخارجية برفض التكلم مع الأوروبيين الذين يواصلون «السعي إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بموسكو». وهذه العبارات أوضحتها لاحقاً الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، عندما قالت إن موسكو ترفض بحزم مشاركة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا في المفاوضات، انطلاقاً من مواقف هذه العواصم في الدعم العسكري لكييف.

هنا يقول مقرّبون من الكرملين إن بوتين يرفض أي مشاركة لأوروبا في جولات التفاوض، وإن عرضه للمفاوضات اقتصر على قبول رعاية تركية أميركية.

طبعاً، يدرك الكرملين أن الحضور الأوروبي سيكون مطلوباً في مرحلة لاحقة عند التطرق إلى ملفات الأمن في أوروبا وقضايا التسلح في إطار اتفاقية سلام شاملة، لكن رفض المشاركة الأوروبية حالياً هدفه الضغط لتقليص الدعم العسكري لأوكرانيا، ورفض أفكار أوروبية حول هدنات مؤقتة يمكن استخدامها لتسريع عمليات التسليح وإعادة تأهيل الجيش الأوكراني. وأيضاً، رفض الحضور الأوروبي مرتبط بأهمية إفشال أي افكار قد تؤسس لاحقاً لطرح فكرة وجود قوات حفظ سلام أوروبية في أوكرانيا، وهو أمر ترفضه موسكو بشكل قاطع.

الشرط الثالث المهم لبوتين هو ضمان موضوع حياد أوكرانيا المستقبلي، ورفض إعادة تسليح جيشها. وهنا يقول الرئيس الروسي إنه يريد وثيقة مكتوبة وموقعة بهذا الشأن. وهذا يتعارض مع المطالب الأوروبية بضمانات أمنية مستقبلية، ومع تعهدات أميركية بمواصلة حماية مصالح أوكرانيا.

الخطاب التفاوضي الصارم للروس، الذي تجسد في الجلسة الخاطفة، بمطلب انسحاب القوات الأوكرانية من المناطق التي ضمّتها روسيا ولم تنجح لتاريخه في السيطرة عليها عسكرياً بالكامل، تعاملت معه أوكرانيا وأوروبا بأنه مطلب للاستسلام. وأصرّت على أولوية الهدنة المؤقتة لتمهيد الطريق لأي جولات تفاوضية حقيقية في المستقبل.

الرئيس الروسي فاديمير بوتين (آ ب)

تباين أولويات مع واشنطن

لكن تباين الأولويات لم يظهر في الشقّ المتعلق بالعلاقة الروسية الأوكرانية، والرؤية المطروحة لشكل التسوية المحتملة فقط. بل ظهر أيضاً في آلية تعامل كل من موسكو وواشنطن مع ملف التسوية ومع أولويات الحوار الروسي الأميركي كله. واتضح هذا مع انطلاق جولة المفاوضات. ففي حين ركّز ترمب على أهمية عقد لقاء سريع «يدفع عملية السلام في أوكرانيا»، فضّل الكرملين التأكيد على ضرورة «إطلاق تحضيرات وإعداد دقيق لقمة شاملة تبحث كل الملفات المطروحة على الطاولة، وبينها الوضع في أوكرانيا».

وجاء ردّ الكرملين سريعاً على دعوة ترمب لعقد لقاء عاجل مع بوتين. فأعرب الرئيس الأميركي عن قناعته بأن «العالم سيصبح أكثر أماناً خلال أسبوعين إلى 3 أسابيع» بمجرد ترتيب اللقاء المنتظر مع بوتين. لكن الكرملين رأى أن «مثل هذه اللقاءات يتطلب تحضيراً واسعاً وإعداداً دقيقاً»، وبدا أن التباين بين الطرفين ينحصر برؤية كل طرف للأهداف المتوخاة من القمة المنتظرة طويلاً. وفي حين ركّز ترمب على ملف أوكرانيا وقضايا الأمن، رأى الكرملين وجوب أن تكون القمة شاملة، وتناقش كل الملفات المطروحة على أجندة الطرفين.

أكثر من ذلك، وجّهت موسكو رسالة مباشرة لترمب بأن حضوره الشخصي عملية التفاوض «ليس ضرورياً، بل قد يأتي بنتائج عكسية». وقلّل روديون ميروشنيك، سفير المهام الخاصة في الخارجية الروسية، من أهمية تدخل ترمب بشكل مباشر في ملف التسوية في أوكرانيا. وأوضح السفير المكلف بإدارة ملف «الانتهاكات وجرائم نظام كييف» أن موسكو «تثمن عالياً رغبة إدارة الرئيس الأميركي بحلّ الصراع في أوكرانيا سلمياً، لكننا نحتاج إلى تفاصيل ومناهج عملية وعمل دؤوب وجادّ، ونحن مستعدون لهذا العمل».

كذلك علق على قول إنه «من دونه لن ينجح شيء»، بالتأكيد على أنه «يمكن إجراء المفاوضات ببساطة من دون مشاركة ترمب. ولم تكن مشاركة ترمب الشخصية متوقعة، طبعاً، لأن هذه مبادرة روسية. إنها مفاوضات عمل يجب أن تُشكّل موقفاً موحداً، وأن تجد خيارات تسوية، وتصنفها، وتضعها على الورق، وتبلوِر مشاريع. مثلما حدث مع جولة المفاوضات السابقة في 2022، عندما ظهرت وثيقة معيّنة وقّع عليها الطرفان بالأحرف الأولى. ولذا، فإن فريقي التفاوض حالياً مدعوان لإنجاز هذه المهمة».

مكالمة هاتفية حاسمة

خلف هذا السجال، تظهر فكرة أميركية رفضها الروس بشدة. فواشنطن عملت لدفع «تسوية إلزامية» بطريقة ترمب، أي عبر ترتيب لقاء رئاسي أولاً، يجمع بوتين وترمب، ثم بوتين وترمب وزيلينسكي، ربما بحضور الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ما يضع إطاراً تفاوضياً إلزامياً يسبق شروط الطرفين.

لقاء من هذا النوع كان ليمنح دفعة جدية للجهود المبذولة، ويضع العملية التفاوضية على مسار لا رجعة فيه. لكن الكرملين فضّل التريث لحين اتضاح الملامح الأولية للعملية التفاوضية، بعد أن يقدم الجانبان الروسي والأوكراني رؤيتيهما لشكل الحوار وأولويات كل طرف فيه.

أمر مهم هنا، أن بوتين لو ذهب فعلاً إلى إسطنبول، فسيذهب للقاء ترمب وإردوغان، وليس للجلوس على طاولة مفاوضات مع زيلينسكي. ولقد عكس تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف، الذي وصف كلام زيلينسكي عن ضرورة حضور بوتين اللقاء، أن مستوى الفهم الروسي للعلاقة مع الرئيس الأوكراني حالياً «مثير للشفقة».

لذا، حرص ترمب بعد الجولة التفاوضية مباشرة على إجراء اتصال هاتفي حاسم مع بوتين. وسبق الاتصال تلميحات أميركية لتدابير محددة، بينها الموافقة على رزمة عقوبات قاسية اقترحها أعضاء في الكونغرس، من شأنها وضع قيود صارمة على الأطراف والبلدان التي ما زالت تنتهك العقوبات الحالية وتتعامل مع روسيا. وأيضاً لوّحت واشنطن بانسحاب أميركي من العملية التفاوضية إذا فشلت جهودها الحالية. هذا التطور دفع بوتين للموافقة على فكرة «الهدنة المؤقتة» بشروط محددة. على رأسها؛ إعداد مذكرة تفاهم توضح آليات الهدنة المقترحة، وطريقة التعامل مع الرقابة عليها.

هذه المناورة وُصفت في كييف بأنها محاولة لكسب الوقت والمماطلة. لكن ترمب تمسك بها، ودعا الطرفين الروسي والأوكراني إلى بدء المفاوضات فوراً، ومن دون وسطاء، للتوصل إلى تفاهم في هذا الشأن. ولاحقاً، أعلن وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، أنّه يتوقع أن تعرض روسيا «خلال أيام» شروطها لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار مع أوكرانيا، معتبراً أنّ هذه الخطوة ستسمح لواشنطن بتقييم مدى جدّية موسكو في سعيها للسلام.

أوروبا متحفظة

في المقابل، بدا الموقف الأوروبي أكثر تحفّظاً وتشكيكاً بنيّات موسكو. وأقرّ الاتحاد الأوروبي رسمياً الحزمة السابعة عشرة من العقوبات على موسكو، مستهدفاً 200 سفينة من أسطول «الشبح». وأيضاً هاجم كيريل دميترييف، رئيس صندوق الاستثمار المباشر الروسي، والمفاوض الاقتصادي الرئيس مع واشنطن، هذا القرار بالقول: «يبذل السياسيون ووسائل الإعلام الغربية جهوداً جبارة لتعطيل الحوار البنّاء بين روسيا والولايات المتحدة».

روبيو قال إن ترمب يعارض حالياً فرض عقوبات جديدة خشية امتناع روسيا عن المجيء إلى طاولة المفاوضات. وأبلغ مصدر مطلع «رويترز» أن ترمب اتصل بزعماء أوكرانيا وأوروبا إثر مكالمته مع بوتين وأخبرهم بأنه لا يريد فرض عقوبات الآن، بل إتاحة الوقت للمباحثات.

تزامناً، أعلنت أوكرانيا أنها ستطلب من الاتحاد الأوروبي الأسبوع المقبل بحث خطوات جديدة كبيرة لعزل موسكو، تشمل مصادرة أصول روسية وفرض عقوبات على بعض مشتري النفط الروسي. وستُقدم وثيقة أوكرانية إلى التكتل الذي يضم 27 دولة لاتخاذ موقف مستقل أكثر صرامةً بشأن فرض العقوبات في ظل الضبابية التي تكتنف دور واشنطن مستقبلاً. وستشمل الوثيقة المتضمنة 40 صفحة من التوصيات، دعوات لتبني تشريع «يسرِّع» مصادرة الاتحاد الأوروبي أصول الأفراد الخاضعين للعقوبات وإرسالها إلى أوكرانيا. ويمكن حينئذٍ للخاضعين للعقوبات المطالبة بتعويضات من روسيا.

عموماً، تظهر تحركات اللاعبين الأساسيين مستوى التباين في الأهداف والآليات المقترحة لتسوية الصراع، وتؤكد صعوبة التوصل إلى تدابير سريعة لوقف الحرب وإطلاق عملية سياسية جادة.

الضغط العسكري ومسار المفاوضات

في غضون ذلك، بدا أن الاستعدادات الجارية لتسريع وتيرة المفاوضات وتقريب احتمال إعلان «هدنة مؤقتة» تمهد الطريق لمفاوضات السلام النهائية، تجري بالتزامن مع تصعيد الطرفين الروسي والأوكراني استعداداتهما لتصعيد ميداني في حال فشلت جهود التهدئة الحالية.

كييف تزعم أن موسكو تواصل حشد آلاف الجنود على طول الحدود بالقرب من منطقتي سومي وخاركيف، مع توقع محاولة توغل واسعة في المنطقة. ووفق خبراء عسكريين، وضعت موسكو خططاً لإنشاء «منطقة عازلة» على طول الحدود مع المنطقتين اللتين شكَّلتا نقطة انطلاق مهمة للقوات الأوكرانية التي هاجمت كورسك ومناطق مجاورة ونجحت الصيف الماضي في السيطرة على أجزاء واسعة من المقاطعة الروسية، قبل نجاح الروس في طرد القوات الأوكرانية منها قبل أسابيع بعد معارك ضارية استمرت لأشهر.

وتشير مصادر أوكرانية إلى أن بوتين قد يضع بين أهدافه، في حال انهارت جهود الهدنة، محاولة فرض سيطرة مطلقة على مدينة خاركيف، التي تقول السردية الروسية إنها بين أبرز «المدن الروسية» في أوكرانيا الحالية.

وكان بوتين قد زار قبل يومين منطقة كورسك للمرة الأولى منذ إعادة فرض سيطرة الجيش الروسي عليها الشهر الماضي. والتقى حاكمها بالإنابة ألكسندر خينشتين، وممثلي منظمات تطوعية. ونقل بيان الكرملين عن خينشتين قوله إن «عملية لإزالة الألغام» تجري حالياً في منطقة كورسك، حيث «تُزال عشرات العبوات الناسفة يومياً».

هذا، وبثّ الكرملين صوراً للقاء بين بوتين ومتطوعين، حول طاولة كبيرة وهم يتناولون الشاي والسكاكر. واقترح إنشاء متحف مخصص «للأحداث التي وقعت في منطقة كورسك خلال 2024 و2025 من أجل الحفاظ على ذكرى ما جرى هنا، وذكرى بطولة المدافعين عنا»، وهي فكرة حظيت بدعم بوتين.

أيضاً، أعلن الرئيس الروسي خلال الزيارة خططاً لإعادة الإعمار في المنطقة. وتجول في محطة الطاقة النووية «كورسك 2» قرب المدينة، مذكّراً بـ«ذراع روسيا النووية الطويلة» إذا تعرض أمنها ووجودها لخطر أو تهديد.

في المقابل، تقول مصادر روسية إن أوكرانيا تؤدي دورها بتحضيرات لتصعيد عسكري في حال فشل جهود التهدئة. ووفق تقارير، فإن كييف تواصل تجهيز أفواج من طائرات مسيَّرة حديثة لمهاجمة المدن الروسية. ويبدو أن الضغط العسكري من الجانبين يواكب مسار التحضير للمفاوضات، إذ تبادلت موسكو وكييف ضربات جوية خلال اليومين الماضيين، وشنّت مسيَّرات أوكرانية هجمات قوية على موسكو ومدن أخرى خلال الأيام الأخيرة، بينما تعرضت مدن أوكرانية لهجمات صاروخية ومدفعية مكثفة في الفترة نفسها.