البيشمركة.. في مواجهة «داعش»

من جماعة تخوض حرب عصابات من جبال كردستان.. إلى قوة منظمة تقف وحيدة لمحاربة الإرهاب

البيشمركة.. في مواجهة «داعش»
TT

البيشمركة.. في مواجهة «داعش»

البيشمركة.. في مواجهة «داعش»

تخوض قوات البيشمركة الكردية منذ بداية الشهر الجاري معارك طاحنة مع مسلحي تنظيم داعش المتطرف، الذي بدأ يفرض نفوذه على مناطق واسعة في غرب البلاد وشمالها، بعد تخاذل الجيش العراقي الذي انهار أمامه إبان سقوط الموصل. فبعد أن كانت البيشمركة تحارب الأنظمة العراقية المتعاقبة وتخوض حرب عصابات من الجبال، باتت الآن في خط المواجهة الأول لمحاربة الإرهاب في العراق، وتتلقى السلاح النوعي من الغرب.. الأمر الذي قد يجعلها من القوى الرئيسة في المنطقة والإقليم بأكمله.
تتسارع دول العالم حاليا لتقديم الدعم العسكري لإقليم كردستان الذي أصبح خلال الأيام القليلة الماضية محطة لطائرات وزراء خارجية أوروبا ومسؤوليها، فبعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس إلى أربيل والإعلان عن استعداد بلاده لمساعدة الأكراد عسكريا، وصل وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير بداية الأسبوع الجاري إلى أربيل، حيث قال في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الإقليم مسعود بارزاني إن ألمانيا لن تترك الأكراد وحدهم في مواجهة «داعش»، وأكد أن بلاده ستناقش مع الإقليم احتياجات البيشمركة العسكرية ليقوموا فيما بعد بتوفيرها لهؤلاء المقاتلين.
وأعلن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اجتماع طارئ في بروكسل يوم الجمعة الماضي عن اتفاق على دعم تسليح المقاتلين الأكراد في العراق. ورحب الوزراء بقرار دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي تلبية النداء الذي أطلقته حكومة الإقليم لتزويدها بالمعدات العسكرية بشكل عاجل.
وأعلنت وزارة البيشمركة أن 130 خبيرا عسكريا أميركيا وصلوا الإقليم لتقديم المشورة العسكرية للبيشمركة في حربهم ضد «داعش»، وكشفت عن أن الخبراء الأميركيين قرروا تأسيس مطار عسكري في أربيل بعد أن أعدوا دراسة وافية عن الموضوع، لكن الوزارة نفت في الوقت ذاته وصول أي جندي بريطاني إلى كردستان.
واستطاعت قوات البيشمركة خلال الأيام القليلة الماضية بفضل تلك المعونات العسكرية أن تستعيد السيطرة على مناطق واسعة من سهل نينوى، وسيطرت على سد الموصل بعد معارك مع مسلحي «داعش» الذين تقدموا مع بداية الشهر الجاري باتجاه أربيل عاصمة إقليم كردستان.
معركة السيطرة على سد الموصل بدأت بإسناد جوي أميركي قوي، حيث شلت الطائرات الأميركية الحركة الهجومية لـ«داعش»، إضافة إلى الأسلحة الجديدة التي حصلت عليها البيشمركة والتي ساهمت في أن تستعيد هذه القوات زمام المبادرة وتبدأ هجوم استعادة المناطق التي سيطر عليها «داعش» في المدة الماضية.
يرى الدكتور عبد الحكيم خسرو أستاذ العلوم السياسية في جامعة صلاح الدين في أربيل، أن «هناك أسباب كثيرة لتحرك المجتمع الدولي للدفاع عن كردستان، منها وجود هذا العدد الهائل من النازحين واللاجئين في الإقليم، إلى جانب أن الإقليم يعد النموذج الناجح الوحيد في العراق من ناحية التعايش السلمي والدبلوماسية والإعمار». ويرى خسرو، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن معركة أربيل كانت مفتاح القضاء على «داعش» في الشرق الأوسط.
وشدد بالقول: «المجتمع الدولي يعرف أن البيشمركة هي القوات التي يمكن أن يساعدوها في فرض الأمن والاستقرار في أجزاء من العراق، وذلك بعد أن اطمأنوا إلى أنها قوات لم يصدر منها أي تمييز على أساس القومية أو الدين أو الطائفة والعرق والمذهب في المناطق التي تسيطر عليها، والدليل أننا نرى أن النازحين والهاربين من مناطق العراق الأخرى التجأوا إلى المناطق التي تسيطر عليها البيشمركة».
وحول إمكانية مشاركة البيشمركة في أي عمليات عسكرية ضد الإرهاب خارج العراق، أشار خسرو إلى أن هذا «غير معروف حاليا»، مضيفا أن «محاولات الأوروبيين إصدار قرار عن طريق حلف الناتو لمحاربة (داعش) والجهود الدولية لتأسيس حلف من عدة دول، وكذلك قرار مجلس الأمن الدولي لمحاربة هذا التنظيم المتطرف حسب الفصل السابع، كلها تشير إلى أن معركة أربيل تصبح مفتاحا لحل مشكلة الإرهاب في الشرق الأوسط، إضافة إلى أن هناك تخطيطا عاما بمشاركة قوات البيشمركة والقوات العراقية والأردنية ودول الخليج ولبنان وتركيا لبدء حملة عسكرية ضد (داعش)، إذن هنا سيناط بقوات البيشمركة واجب خاص في هذه العملية الإقليمية».
وتعد البيشمركة أو القوات المسلحة الكردية أقدم قوات مسلحة في العراق، حيث يعود تأسيسها إلى بداية القرن المنصرم، وخاضت على مداره معارك ضد الأنظمة العراقية المتعاقبة من أجل نيل الحقوق القومية للكرد في العراق.
البيشمركة تعني بالعربية «الذين يواجهون الموت» أو «تحدي الموت»، وهي قوة بنيت على أساس الإيمان بالمبادئ القومية والتضحية من أجل الحرية، وتخوض هذه القوات اليوم معركة الدفاع عن العراق والمنطقة ضد الإرهاب والتشدد، في سبيل حماية الحرية التي حصل عليها العراقيون بعد عام 2003.
* قصة البيشمركة
* الكاتب والصحافي عبد الغني علي يحيى الذي التحق منذ عام 1963 بالثورة الكردية تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن بدايات تأسيس البيشمركة وقياداتها، والثورات التي قادتها هذه القوة، وهو يشير إلى أن البيشمركة ظهرت قوة نظامية في عام 1946. ويروي يحيى حكاية البيشمركة قائلا: «سميت القوات الكردية المدافعة عن جمهورية كردستان أو (مهاباد) بقوات البيشمركة، وكان الزعيم الكردي الراحل الملا مصطفى بارزاني وزيرا للدفاع في هذه الجمهورية، وكانت الخدمة العسكرية في هذه الجمهورية تطوعية وليست إجبارية».
وتابع: «لم تتداول تسمية (البيشمركة) حتى اندلاع ثورة سبتمبر (أيلول) عام 1961 بقيادة الملا مصطفى بارزاني ضد الحكومة العراقية، وكان سكان القرى من أكثر المشاركين في تشكيلات هذه القوة، إضافة إلى عدد قليل من الجنود والضباط الأكراد الذين هربوا من الجيش العراقي والتحقوا بالثورة الكردية، من بينهم المقدم عزيز عقراوي والملازم عزيز الأتروشي وضباط آخرون».
وعن التشكيلات الأساسية لقوات البيشمركة، قال يحيى: «كانت قوات البيشمركة تتكون آنذاك من تقسيمات تبدأ من الفصيل الذي كان يسمى بالكردي (بل) والفرع (لق) والبطاليون وتنتهي بالفرقة أي (هيز)، وهي أكبر جزء من تشكيلات البيشمركة آنذاك، وكانت الفرق تحمل أسماء مناطق كردستان التي كانت توجد فيها، كفرقة حمرين وسفين وسهل أربيل وكاروخ وزاخو وعقرة وشيخان وبالك».
اعتمدت هذه القوات على مدار ثورتها في ثمانينات القرن العشرين على الأسلحة الخفيفة فقط المتمثلة ببنادق الكلاشنيكوف وقاذفات الـ«آر بي جي»، والقنابل اليدوية، لكنها بعد عام 1991 حصلت على أسلحة ثقيلة لأول مرة، حيث استولت على أسلحة القوات العراقية بعد انتفاضة شعبية اندلعت في كردستان أدت إلى خروج الجيش العراقي وتأسيس حكومة إقليم كردستان، لكن مشكلة سلاح البيشمركة لم تحل لأن الأسلحة كانت قليلة.
وفي عام 2003 وبعد أن احتلت أميركا العراق، استطاع الكرد أن يحصلوا على أسلحة الجيش العراقي في كركوك والموصل وديالى، وكانت هذه الأسلحة تتمثل في أسلحة ثقيلة من مدرعات ودبابات ومدافع هاون وراجمات ودوشكات ثنائية ورباعية، لكن هذه الأسلحة كانت قديمة وبعضها كان معطبا، ورغم مطالبات حكومة الإقليم لبغداد بتسليح البيشمركة وتدريبها بما يتواكب من تدريبات ومعدات عسكرية حديثة، باعتبار ذلك جزءا من منظومة الدفاع العراقية، فإن بغداد لم تقدم على ذلك طيلة الأعوام الماضية التي تلت سقوط نظام صدام حسين، فيما كانت واشنطن تصر على أن يكون تسليح البيشمركة عن طريق وزارة الدفاع العراقية.
وبعد أحداث الموصل في يونيو (حزيران) الماضي وما ترتب عليه من سقوط للمحافظات السنية بيد تنظيم داعش، وانهيار المنظومة الأمنية والدفاعية العراقية بالكامل، أصبحت قوات البيشمركة القوات النظامية الوحيدة في العراق لمواجهة «داعش» الذي استولى على أسلحة الجيش العراقي الحديثة والثقيلة.
يقول العميد هلكورد حكمت الناطق الرسمي باسم وزارة البيشمركة لـ«الشرق الأوسط» إن «مهمتنا الآن هي محاربة الإرهاب العالمي، فقوات البيشمركة تقاتل الآن دولة إرهابية، ومع أن العدو يمتلك أسلحة أكثر تطورا من أسلحتنا، التي استولى عليها جراء فرار الجيش العراقي، فإن قوات البيشمركة استطاعت إيقاف تقدم (داعش). ومن ثم بدأنا هجوما بريا بإسناد من الطيران الأميركي لاستعادة المناطق التي استولى عليها (داعش) خلال الأسبوعين الماضيين في سهل نينوى، واستطعنا أن نستعيد السيطرة على سد الموصل وكل المناطق والقرى التابعة لها».
وحول الدعم العسكري الدولي لكردستان قال حكمت: «هناك دول كثيرة أعلنت عن استعدادها لتزويد البيشمركة بالسلاح والتجهيزات العسكرية، منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، والنمسا والتشيك وفنلندا وكندا وبولندا وإيطاليا وأستراليا، ودول أخرى، وستقوم كل دولة بإرسال خبرائها مع الأسلحة لتدريب قوات البيشمركة على هذه الأسلحة الحديثة». وأضاف: «حتى الآن تسلمنا السلاح الأميركي والفرنسي، ونحن بانتظار وصول الأسلحة الأخرى من أصدقائنا.. أميركا أرسلت إلى الإقليم 130 خبيرا عسكريا لتوجيه المشورة لقوات البيشمركة ووضع الخطط العسكرية، وقرر هؤلاء بناء مطار عسكري أميركي في أربيل بالتنسيق بين واشنطن وأربيل وبغداد».

* قوة البيشمركة

* وزارة البيشمركة لم تذكر عدد قواتها الكامل بحجة السرية العسكرية، إلا أن الشرق الأوسط علمت من مصادرها الخاصة أن عدد البيشمركة يبلغ نحو 200 ألف مقاتل، متوزعين على عدد من الفرق والألوية والأفواج، إضافة إلى قوات الكوماندوز الكردية وقوات مكافحة الإرهاب التي تخوض كلها الآن المعارك ضد تنظيم داعش. يقول حكمت إن «قوات البيشمركة لا يمكن مقارنتها بالجيش العراقي الهزيل حاليا.. ليس هناك وجود للقوات العراقية.. كما شاهدناه في الموصل، لا يملك الإرادة والقدرة، وكان يمتلك أسلحة وأعتدة عسكرية متطورة، إلا أنه لم يبد مقاومة ضد (داعش) وترك أسلحته لمسلحي هذا التنظيم الذين يستخدمونها الآن ضد البيشمركة».
وحول تدريب قوات البيشمركة، بين الناطق الرسمي باسم الوزارة أن البيشمركة تلقت تدريبات عسكرية في الإقليم، وهناك قوات من البيشمركة تلقت تدريبات خاصة بحرب الشوارع والمدن، وهي الآن تقاتل «داعش» وكان لها دور بارز في المعركة، مؤكدا أن المعركة مع «داعش» أكبر مدرسة تدريب لقوات البيشمركة في الإقليم، خاصة أنها جاءت بعد مدة طويلة لم تخُض فيها البيشمركة أي معارك.
قوات البيشمركة استطاعت بعد انسحاب الجيش العراقي من المناطق المتنازع عليها أن تحل محل هذه القوات وتحافظ على الأمن في هذه المناطق، إلا أن تأخر الدعم العسكري لها تسبب في انسحابها من بعض الأماكن، كقضاء سنجار ذي الأغلبية الإيزيدية وأقضية الحمدانية وتلكيف في سهل نينوى، إضافة إلى ناحية جلولاء في محافظة ديالى.
القائد الميداني العقيد أديب تروانشي في اللواء الأول زيرفاني، كشف لـ«الشرق الأوسط»، عن أن «الطائرات العراقية كانت سببا لانسحاب البيشمركة من سنجار لأنها لم تستجب لندائهم».
وقال تروانشي الذي كان ضمن القوة الكردية في سنجار: «استفدنا جدا من الإسناد الجوي الأميركي، أما الإسناد الجوي العراقي فلم يؤدِّ المهمة بالشكل المطلوب، كنت في سنجار، ووجهنا حينها عدة نداءات إلى سلاح الجو العراقي، لكن لم يستجيبوا لنا، لو قدمت بغداد لنا الإسناد الجوي لما حدث ما حدث من سقوط قضاء سنجار.. (داعش) تمتلك أسلحة متطورة وثقيلة».
وأضاف تروانشي الموجود حاليا في سهل نينوى: «رغم تسلحنا المتواضع فإن الإيمان بالحرية وبالقضية والمبدأ والتعايش، دفع بنا إلى صد الأعداء والدفاع عن كردستان وأهلها وحماية هذه الأرض من تدنيس (داعش)، والآن ننتظر ساعة الصفر لاستعادة كل المناطق الكردستانية».
بدوره قال ئاري هرسين رئيس لجنة البيشمركة في برلمان الإقليم لـ«الشرق الأوسط» إنه الآن موجود في الجبهة الأمامية في المعركة مع «داعش» في محور شلالات الموصل. وأضاف: «خلال وجودي بين البيشمركة اتضح لي أن أكبر سلاح تملكه هذه القوات هو المعنويات العالية، وهي التي مكنت البيشمركة من التصدي لـ(داعش). البيشمركة لا تقارن بالجيش العراقي، كان في الموصل قرابة 60 ألف جندي عراقي لكنهم لم يصمدوا أمام (داعش) وسلموه مواقعهم وأسلحتهم المتطورة دون أي مقاومة، لذا فإن البيشمركة هي أهم قوة في المنظومة الدفاعية العراقية، لكن مع الأسف الحكومة العراقية لا تولي أي اهتمام لهذه القوات، وبالعكس عاقبت بغداد البيشمركة وسلبت حقها المشروع في الدستور العراقي منذ عام 2004».
يقول أحد أفراد البيشمركة العائد من جبهات القتال في مخمور التي استعادت البيشمركة السيطرة عليها الأسبوع الماضي، لـ«الشرق الأوسط»، دون أن يكشف عن اسمه: «القتال كان عنيفا جدا في البداية، اضطررنا إلى الانسحاب لأن (داعش) كانت تمتلك سلاحا مدفعيا قويا أرغمنا على الانسحاب؛ فأسلحتنا لم تكن في المستوى المطلوب، وتمت مهاجمتنا من الخلف من لدن القرى العربية التي تحالفت مع (داعش)، لذا انسحبنا إلى مواقع قريبة من مخمور الأسبوع الماضي، وكان (داعش) يتقدم باستمرار، إلى أن بدأ الطيران الأميركي بقصف مواقع التنظيم في مخمور والكوير. الطائرات الأميركية دمرت مدفعية (داعش) وشلت حركته الهجومية تماما. حين بدأنا هجوما قويا عليهم من أربع محاور تمكنا من استعادة السيطرة على مخمور والكوير وأكثر من خمسين قرية في أطرافهما. عدونا لاذ الفرار فعلا، لكن نحن بحاجة إلى سلاح».

* قوة متعددة الأعراق

* جميع مكونات إقليم كردستان يشاركون في قوات البيشمركة، فهناك بيشمركة إيزيديون ومسيحيون وتركمان وكاكائية يخدمون في صفوف البيشمركة التي أصبحت القوة المسلحة الكردية التي تحمي كردستان والعراق من الإرهاب الذي تفشى في الجسد العراقي.



«الضبعة»... «الحلم النووي» المصري يدخل مرحلة حاسمة

جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)
جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)
TT

«الضبعة»... «الحلم النووي» المصري يدخل مرحلة حاسمة

جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)
جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)

تقف مصر على مقربة من تحقيق «الحلم النووي»، الذي راودها منذ خمسينات القرن الماضي، عقب خطوات جادة وثابتة لتنفيذ «مشروعها الاستراتيجي»، وإنشاء أول محطة لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية في مدينة الضبعة بمحافظة مطروح على ساحل البحر الأبيض المتوسط على بعد نحو 289 كيلومتراً شمال غربي القاهرة، بتمويل وتكنولوجية روسيين. وبينما يأتي المشروع في سياق خطة مصر لتنويع مصادر الطاقة ورؤيتها الاستراتيجية لامتلاك الطاقة النووية السلمية، فإن مشروع «محطة الضبعة النووية» تتجاوز أبعاده حدود الاقتصاد، لتمتد إلى السياسة والبيئة والمجتمع.

بالتزامن مع الاحتفال بالعيد السنوي الخامس للطاقة النووية، الذي يوافق التاسع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، شارك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، عبر تقنية «الفيديو كونفرانس»، في مراسم تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بمحطة الضبعة النووية، وتوقيع أمر شراء الوقود النووي، ليدخل «الحلم النووي» المصري مرحلة حاسمة.

وعد الرئيس الروسي، في كلمته حينها عبر تقنية «الفيديو كونفرانس»، التعاون القائم بين مصر وروسيا في بناء المفاعل النووي «نجاحاً بارزاً»، مشيراً إلى أن «المشروع سيوفر الكهرباء اللازمة لدعم الاقتصاد المصري المتنامي».

وقال السيسي في كلمته إنه «في ظل ما يشهده العالم من أزمات متلاحقة في قطاع الطاقة، وارتفاع أسعار الوقود الأحفوري، تتجلى بوضوح أهمية وحكمة القرار الاستراتيجي، الذي اتخذته البلاد، بإحياء البرنامج النووي السلمي، باعتباره خياراً وطنياً، يضمن تأمين مصادر طاقة مستدامة وآمنة ونظيفة، دعماً لأهداف رؤية مصر 2030».

وتقدر الطاقة الكهربائية المتوقع توليدها من محطة الضبعة النووية بنحو 4800 ميغاواط، عبر أربعة مفاعلات من الجيل الثالث من طراز VVER-1200، وهو ما يمثل 10 في المائة من إنتاج الكهرباء في مصر.

وخطت مصر أولى خطواتها الجادة نحو تنفيذ المشروع في نوفمبر 2015 بتوقيع اتفاقية مبدئية بين الرئيسين المصري والروسي لإقامة أول محطة نووية لتوليد الكهرباء، تنفذها شركة «روساتوم» الحكومية الروسية، لتتخذ مصر من يوم التوقيع عيداً وطنياً للطاقة النووية.

وبعد عامين، وتحديداً في نوفمبر 2017، تم التوقيع على العقود الرئيسية لبناء الوحدات الأربع للمحطة، بطاقة 1200 ميغاواط لكل وحدة، لتنطلق بعدها الأعمال التحضيرية والإنشائية للمشروع بتكلفة إجمالية تقدر بنحو 28.75 مليون دولار، 85 في المائة منها قرض حكومي روسي ميسّر بفائدة 3 في المائة سنوياً يبدأ سداده عام 2029، والباقي تمويل ذاتي مصري.

«تشيرنوبل» جمد الحلم

الرغبة في امتلاك الطاقة النووية السلمية «حلم راود المصريين منذ منتصف القرن الماضي»، بحسب السيسي. حيث بدأت طموحات مصر النووية بعد فترة قصيرة من اكتشاف القدرة على توليد الطاقة السلمية من الانشطار النووي. ففي أعقاب مؤتمر جنيف الأول للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، أنشأت مصر هيئة الطاقة الذرية (AEA) عام 1955. وبعد ست سنوات افتتحت مركز البحوث النووية في أنشاص وشغّلت أول مفاعل بحثي (من طراز WWR-S ) بقدرة 2 ميغاواط، بالتعاون مع «الاتحاد السوفياتي» آنذاك، لإجراء الأبحاث والتدريب وإنتاج النظائر المشعة.

وفي عام 1964 أعلنت مصر عن خطط لبناء أول محطة لتوليد الكهرباء النووية، واختارت مبدئياً موقع «سيدي كرير» في الساحل الشمالي أيضاً، لكن الظروف الاقتصادية والسياسية في المنطقة أرجأت المشروع.

وبعد حرب 1973، عاد الحلم النووي يراود المصريين وتم وضع خطة لبناء محطات نووية بقدرة 10 آلاف ميغاواط بحلول عام 2000، وخصصت منطقة «الضبعة» بعد مفاضلة بين أماكن عدة على سواحل البحر الأحمر والبحر المتوسط.

وشهدت الفترة بين 1983 و1968 المناقصة الدولية الثانية للمشروع وتلقت فيها مصر عروضاً من شركات أميركية وألمانية وسويدية. وكانت القاهرة على وشك توقيع العقد لكن «كارثة مفاعل تشيرنوبل» (أوكرانيا التي كانت آنذاك جزءاً من الاتحاد السوفياتي) في أبريل (نيسان) 1986 جمّدت الحلم.

وبعد هدوء المخاوف من المفاعلات النووية السلمية، قررت مصر إحياء برنامجها النووي عام 1999، وفي عام 2007 تم تشكيل هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء (NPPA) كهيئة مستقلة تكون مسؤولة عن تنفيذ وإدارة المشروع النووي. وأعلن الرئيس الأسبق حسني مبارك عام 2008 عن إعادة تفعيل دراسات موقع الضبعة. لكن مرة أخرى تعطّل المشروع بفعل أحداث 2011، قبل أن يعيد السيسي إحياءه بالتوقيع على اتفاق مبدئي مع روسيا عام 2015.

عوائد اقتصادية

تدخل مصر النادي النووي بطموحات اقتصادية كبيرة، مستهدفة تعزيز أمن الطاقة وتحقيق التنمية، ويقول السيسي إن المشروع «سيعزز مكانة بلاده كمركز إقليمي للطاقة، ويحدث نقلة نوعية في مسار توطين المعرفة والاستثمار في الكوادر البشرية».

رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي يشهد مراسم توقيع أمر شراء الوقود النووي في نوفمبر الماضي (مجلس الوزراء المصري)

ويعد دخول مصر إلى ميدان التطوير الصناعي والتكنولوجي للطاقة النووية من العوائد المهمة للمشروع، بحسب دراسة نشرها نائب رئيس وحدة دراسات الاقتصاد والطاقة بـ«المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية»، أحمد بيومي، العام الماضي، حيث من المتوقع أن تكون نسبة تنفيذ نحو 20 في المائة من المشروع بالتعاون مع الشركات المحلية، ومن المستهدف أن تصل نسبة المكون المحلي من 20 إلى 25 في المائة عند تشغيل المفاعل الأول في 2028، تزيد إلى 35 في المائة عند تشغيل المفاعل الرابع في 2031، كما ستتولى شركة «روساتوم» الحكومية الروسية تدريب ما يقرب من ألفي شخص من موظفي التشغيل والصيانة للعمل في المحطة.

وفقاً لهيئة الاستعلامات المصرية الرسمية، فإنه «من المتوقع أن تبلغ القيمة المضافة للمشروع في الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة الإنشاء نحو 4 مليارات دولار سنوياً». وتوفر المحطة مصدراً ثابتاً للكهرباء يعمل على مدار الساعة، ما يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري ويضمن استقرار الشبكة.

ويأتي إنشاء محطة الضبعة النووية في إطار خطة مصرية لتنويع «سلة الطاقة»، بحسب أستاذ هندسة البترول والطاقة، الدكتور جمال القليوبي، الذي يوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «مصر تسعى لأن تكون لديها مصادر متعددة من الطاقة، لا تعتمد فقط على الشق الحراري واستخدام الوقود الأحفوري». وقال: «طوال 50 عاماً كان الوقود الأحفوري مصدراً لنحو 98 في المائة من الطاقة في مصر، لكن الأمر تغيّر منذ عام 2018 مع زيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة من الرياح والشمس والهيدروجين الأخضر»، مشيراً إلى أن «محطة الضبعة مع اكتمال تشغيل مفاعلاتها قد تسهم في نحو 16 إلى 18 في المائة من الكهرباء في مصر».

وتستهدف مصر، وفقاً للتصريحات الرسمية، الوصول بمساهمة الطاقة المتجددة ضمن مزيج الطاقة إلى نحو 42 في المائة من إجمالي الطاقة بحلول عام 2030.

لا تقتصر العوائد الاقتصادية على توفير الكهرباء وتوفير جزء من فاتورة استيراد مصر للوقود الأحفوري التي تجاوزت 12 مليار دولار العام الماضي، بحسب تصريحات لوزير البترول المصري السابق، طارق الملا.

ويشير القليوبي إلى أن فاتورة استيراد الوقود لتشغيل محطات الكهرباء تبلغ نحو 50 في المائة من القيمة الإجمالية لفاتورة استيراد الوقود. وقال: «محطة الضبعة ستوفر جزءاً كبيراً من فاتورة الاستيراد، كما أن عوائدها الاقتصادية تمتد إلى مناح أخرى تتعلق بتحلية مياه البحر وإنتاج النظائر المشعة المستخدمة في عدد من الصناعات الطبية والزراعية». وأضاف: «لدى مصر خطة واضحة. خطة تؤازر الدولة اقتصادياً وتتماشى مع أهداف الدول الصناعية، عبر تحسين ملف الصناعة واستخدام الطاقة النووية في كثير من المناحي الاقتصادية».

خيار استراتيجي

يسهم مشروع الضبعة في توفير العملة الصعبة، كما يوفر نحو 6 آلاف فرصة عمل في أثناء الإنشاء، وآلاف فرص العمل في أثناء فترة التشغيل التي تمتد لـ60 عاماً. كما تعد محطة الضبعة النووية مصدراً نظيفاً وخالياً تماماً من انبعاثات الكربون، ويدعم استراتيجية مصر للطاقة 2035، بحسب هيئة الاستعلامات المصرية.

دخول مجال الطاقة النووية هو «خيار استراتيجي»، بحسب دراسة نشرها رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة بـ«مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، الدكتور أحمد قنديل، مشيراً إلى أن «الضبعة ليست مجرد محطة كهرباء»، إذ إنها تحقق أهدافاً عدة، من بينها؛ «بناء أمن طاقة مصري مستقل نسبياً عن تقلبات الأسواق العالمية للبترول والغاز الطبيعي، وتحرير جزء من الغاز المصري للتصدير أو الاستخدام الصناعي، خاصة في البتروكيماويات والأسمدة، ودعم الصناعات الثقيلة والتوجه نحو الهيدروجين الأخضر، وتوفير مصدر مستقر للكهرباء على مدى عقود».

يسهم المشروع أيضاً في تعزيز مكانة مصر الإقليمية، بحسب قنديل الذي قال: «مصر اليوم لاعب رئيسي في الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط، وقوة صاعدة في الطاقة المتجددة، وتعمل على مشروعات للربط الكهربائي مع ثلاث قارات، وحين تكتمل وحدات الضبعة، ستمتلك مصر برنامجاً نووياً سلمياً واسع النطاق، يمنحها وزناً إضافياً في معادلات الطاقة الإقليمية».

أما القليوبي فيشير إلى أن مشروع الضبعة يُدخل مصر إلى «نادي الدول الصناعية الكبرى التي تستخدم الطاقة النووية لأغراض سلمية».

أبعاد سياسية

وبينما ستسهم محطة الضبعة في تلبية احتياجات مصر من الطاقة على المدى الطويل، فإن هناك دوافع أخرى لإقدام البلاد على هذه الخطوة، من بينها «تعزيز المكانة السياسية للحكومة في الداخل وتوسيع علاقاتها الأجنبية إلى ما يتجاوز واشنطن»، بحسب مقال نشره إيريك تراجر في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» عام 2016.

أشار تراجر وقت ذاك إلى أن «المشروع يستهدف إعطاء أمل للمصريين وتعزيز الدعم الداخلي للحكومة، بعدّه مشروعاً قومياً»، كما أنه يأتي في إطار مساعي القاهرة لـ«توسيع نطاق التواصل الخارجي ليتجاوز علاقتها الثنائية بواشنطن، ما يُظهر مصر بصورة المنفتحة على العالم أجمع». وقال تراجر إن المشروع «يوطد علاقات مصر وروسيا».

وهو أمر أكده بالفعل الرئيسان المصري والروسي أخيراً، حيث قال السيسي إن المشروع «يعدّ برهاناً عملياً على أن شراكتنا لا تقتصر على التصريحات السياسية البراقة، بل تتجسد في مشروعات واقعية، تترجم إلى تنمية حقيقية، تعود بالنفع المباشر على شعبينا»، بينما أكد بوتين دعم بلاده «طموحات مصر التنموية في إطار الشراكة والتعاون الاستراتيجي الممتد بين البلدين». وقال: «هذه الشراكة مستمرة وتتجلى في ارتفاع حجم ومعدل التجارة بين البلدين، وتكثيف التعاون الصناعي، فضلاً عن مضي روسيا قدماً في إنشاء منطقة صناعية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس».

ويشير تراجر، في هذا الإطار، إلى أن المشروع يعزز نفوذ موسكو في القاهرة، ما قد يثير قلق الولايات المتحدة نظراً لاهتمام واشنطن بالاستقرار الاقتصادي في مصر وبآفاق سياستها الخارجية.

وفي هذا الإطار، يرى مستشار «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، الدكتور عمرو الشوبكي، أن «مصر حريصة ومنفتحة على قوى وأقطاب أخرى دون المساس بالعلاقة الاستراتيجية مع واشنطن»، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن «القاهرة لديها علاقات تجارية واقتصادية وسياسية مع روسيا والصين».

وبالفعل أكد عضو «المجلس المصري للشؤون الخارجية»، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفير رخا أحمد حسن، أن «هذا المشروع يربط مصر وروسيا بعلاقات في قطاع مهم للغاية ولسنوات طويلة مقبلة». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «المشروع يحقق أهدافاً اقتصادية وسياسية عدة تتراوح ما بين توفير الكهرباء وتنمية الكوادر الوطنية إلى تعزيز المكانة الإقليمية والدولية».

وهنا يلفت الشوبكي إلى أن «حرص مصر على امتلاك الطاقة النووية السلمية - إضافة إلى أهميتها الاقتصادية - نابع من رغبتها في تأكيد حضورها في الملفات الكبرى». وقال: «الدول التي تمتلك وتستخدم الطاقة النووية السلمية لديها مكانة وتأثير وحضور دولي».

وتؤكد مصر حقها في امتلاك الطاقة النووية بموجب «معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية» التي وقّعت عليها عام 1968 وصدّقت عليها عام 1981. وتعوّل القاهرة على القيمة الاستراتيجية لمشروع الضبعة، ووفق السيسي فإن «المشروع سيضع مصر في موقع ريادي، على خريطة الاستخدام السلمي للطاقة النووية».

«المحطة النووية»... عشر سنوات على طريق التنفيذ

طوال أكثر من نصف قرن سعت مصر إلى امتلاك محطة لاستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، لكن الأحداث السياسية والظروف الاقتصادية وكارثة مفاعل تشرنوبل عام 1986 وقفت في طريق «الحلم النووي» المصري لعقود، حتى أعيد إحياء المشروع بخطوات عملية لإنشاء محطة الضبعة النووية. وفيما يلي أبرز المحطات:

- 1955 أنشأت مصر هيئة الطاقة الذرية (AEA).

-1961 افتتاح مركز البحوث النووية في أنشاص وتشغيل أول مفاعل بحثي.

- 1964 اختيار موقع سيدي كرير على ساحل البحر المتوسط لبناء أول محطة لتوليد الكهرباء النووية، (لم ينفذ).

- 1983 مناقصة دولية لإنشاء المحطة.

- 1986 كارثة تشيرنوبل... توقف المشروع.

- 2007 تشكيل هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء (NPPA).

- 2008 استئناف البرنامج النووي السلمي، وإعادة تفعيل دراسات موقع الضبعة.

- 2015 توقيع الاتفاق المبدئي مع روسيا (روساتوم).

- 2017 توقيع العقود النهائية للمشروع.

- 2018 بدء إعداد البنية التحتية للموقع وإنشاء الرصيف البحري التخصصي لاستقبال المعدات الثقيلة.

- 2022 أصدرت هيئة الرقابة النووية والإشعاعية (ENRRA) إذن إنشاء الوحدة النووية الأولى.

- 2024 تركيب مصيدة قلب المفاعل.

- 2025 تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى.


روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا

روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا
TT

روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا

روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا

تطلب الأمر شاباً مفعماً بالحياة ومليئاً بالأمل لهزيمة اليمين المتطرف في هولندا. فقد نجح روب يتن، السياسي الشاب الذي لم يدخل بعد عقده الأربعين، بإعادة حزب «الديمقراطيين 66» الليبرالي الوسطي الذي تأسس عام 1966، إلى واجهة الحياة السياسية في هولندا وقاده إلى تحقيق أفضل نتائج له منذ تأسيسه. ورغم أن الحزب لم يفز فعلياً بالانتخابات التي جرت نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بل تعادل مع حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة خيرت فيلدرز، فإن النتائج تعدّ فوزاً للديمقراطيين وخسارة لأقصى اليمين؛ وبتحقيق كلا الحزبين 26 مقعداً من أصل 150 داخل البرلمان، يكون الديمقراطيون قد ضاعفوا مقاعدهم بـ3 مرات تقريباً من 9 مقاعد في الانتخابات التي سبقت إلى 26 مقعداً، فيما خسر حزب الحرية 11 مقعداً وانخفض تمثيله من 37 نائباً إلى 26 نائباً. ورغم أنه ما زال غير واضح ما هي الأحزاب التي قد تشارك في الائتلاف الحاكم، فمن المؤكد أن حزب الحرية سيكون خارج الحكم. إذ تعهدت الأحزاب الأخرى بعدم العمل مع خيرت فيلدرز من جديد بعد تجربة الحكم الأخيرة التي لم تدم أكثر من 11 شهراً.

أثبت روب يتن (38 عاماً) أن هزيمة أحزاب أقصى اليمين ممكنة، ليعطي فوز حزبه في الانتخابات العامة في هولندا، أملاً للكثير من الأحزاب الأوروبية الوسطية التي تكافح هي نفسها للبقاء أمام مد اليمين المتطرف الذي يلف القارة العجوز. يتن نفسه هلل فور صدور النتائج بأن هولندا «أغلقت فصل خيرت فيلدرز»، متعهداً بالعمل على تشكيل «ائتلاف متين يقود هولندا إلى الأمام». وأضاف أن فوز حزبه أثبت أن «الأحزاب الوسطية أظهرت أنه من الممكن هزيمة الأحزاب الشعبوية وأقصى اليمين». وقاد يتن حملة انتخابية شعارها «التغيير والإيجابية» مستعيناً بشعار باراك أوباما «يمكننا التغيير»، في إشارة إلى استبدال حزب معتدل باليمين المتطرف. ولاقت إيجابيته صدى لدى الناخبين الهولنديين الذين يبدو أنهم تعبوا من السلبية التي طبعت الحياة السياسية منذ الانتخابات التي سبقت أن أوصلت حزب الحرية إلى الطليعة ولكن من دون فوز كاسح، ما يعني أن فيلدرز لم يكن قادراً على الحكم بمفرده، وعجز عن إقناع الأحزاب الأخرى التي شكلت معه الحكومة مشترطة ألا يترأسها هو شخصياً، باعتماد سياسته المتطرفة حول الهجرة، وهو ما تسبب في النهاية بانهيار الحكومة. ونقلت وسائل إعلام هولندية إحصاءات تشير إلى التأييد الواسع لتولي يتن رئاسة الحكومة بين مؤيدي الأحزاب اليمينية. ونقلت شبكة أخبار «آر تي إل» الهولندية عن أحد الناخبين قوله إنه «لا يوافق دائماً على سياسات الديمقراطيين ولكن روب يتن رجل (عادي) يمكنه أن يؤدي وظيفة تمثيل البلاد بشكل جيد». وقال عن فيلدرز إنه لو تولى رئاسة الحكومة فإن الأمور «لن تنجح معه وإنه سيريد على الأرجح أن يمرر سياسته، وفي حال لم ينجح بذلك فسينسحب مرة جديدة».

اغتيال مخرج... وإحراق مدرسة إسلامية

ويأتي فوز يتن على اليمين المتطرف وصعوده السريع وهو ما زال في عقده الثلاثين، متناغمين مع دخوله عالم السياسة في سن فتيّة أيضاً وهو في الـ17 من العمر. بداية قصته في السياسة كانت مرتبطة أيضاً باليمين المتطرف؛ ففي عام 2004 شكل اغتيال المخرج السينمائي تيو فان غوخ على يد متطرف هولندي من أصل مغربي، لحظة مفصلية تسببت بتداعيات دفعت بيتن إلى دخول عالم السياسة. وكان إحراق مجموعة من الشبان المنتمين إلى اليمين المتطرف لمدرسة ابتدائية تعلّم الدين الإسلامي في بلدته في أودن، سبب توجهه إلى النضال ضد اليمين المتطرف. وقال مؤخراً عن بداياته إن الشبان الذين أحرقوا المدرسة كانوا من رفاقه في فريق كرة القدم وكان يعرفهم جيداً، ولكنه أراد أن يُظهر صورة مختلفة للعالم وأن بلدته ليست مجرد مكان مليء بشبان «لا يعرفون ماذا يفعلون».وبقي كفاح يتن ضد اليمين المتطرف أساسياً خلال مسيرته السياسية. وحتى في الحملة الانتخابية التي قادها، اعتمد يتن استراتيجيات تستهدف اليمين المتطرف، مثل جعله العلم الهولندي محورياً خلال الحملة، وقوله إنه يريد «استعادته» من اليمين المتطرف الذي غالباً ما يستخدم العلم. ولم يتردد كذلك بجعل مسألة الهجرة التي أوصلت فيلدرز للفوز في الانتخابات التي سبقت، محورية خلال حملته. ورغم ليبراليته، وارتباطه بلاعب هوكي محترف أرجنتيني سيعقد قرانه عليه العام المقبل، فقد أكد للناخبين أنه سيعتمد سياسة هجرة متشددة تجاه المرفوضة طلباتهم وسيعتمد حداً أقصى لأعداد المهاجرين. ويبدو أن تعهداته هذه لاقت تجاوباً من الناخبين، إذ أكد لاحقاً متحدث باسم حزبه أن 7 في المائة من ناخبي حزب الحرية صوتوا هذه المرة للديمقراطيين.

وحتى قبل الانتخابات وبدء الحملات الانتخابية، كان يتن يدعو لاعتماد سياسة هجرة جديدة في هولندا والخروج من عباءة الاتحاد الأوروبي. وروّج لاعتماد نظام مبني على النظام الكندي ينقل البحث والبت بطلبات اللجوء إلى خارج دول الاتحاد الأوروبي ورفض استقبال من يصلون خارج هذا النظام إلى هولندا.

تشديد قوانين الهجرة

ودعا كذلك إلى مراجعة المعاهدات الدولية الخاصة باللاجئين «لكي تعكس الواقع الجديد» في خلاف للسياسة التي كان يعتمدها الديمقراطيون. ونقلت عنه وسائل إعلام هولندية قوله إن «قانون الهجرة المعتمد حالياً لم يعد صالحاً، علينا أن ننتقل من هجرة تتحكم بنا، إلى هجرة نحن نتحكم بها، ليس فقط بسبب مواطنين هولنديين قلقين من الأعداد الوافدة ولكن أيضاً للأشخاص الذين يهربون من العنف والملاحقة». وبحسب خطة يتن، فإن هولندا لن تقبل إدخال لاجئين إلا أولئك الذين يتقدمون للحصول على لجوء من خارج الاتحاد الأوروبي ويتم قبولهم. ويعدّ أن نظاماً كهذا سيساعد على وقف طرق التهريب الخطيرة وينقذ أرواحاً.وحالياً، يتم إدخال بعض اللاجئين إلى أوروبا عبر نظام شبيه تعتمده الأمم المتحدة لتوزيع اللاجئين ولكن أعداد هؤلاء قليلة جداً مقارنة بالذين يدخلون بشكل غير قانوني ويتقدمون بطلبات لجوء. ويريد يتن توسيع هذا النظام بشكل كبير لكي يصبح الطريقة الأساسية لاستقبال اللاجئين في هولندا. ولكنه يعي أن هذه الخطط تستغرق وقتاً طويلاً. وحتى ذلك الحين، وفي المرحلة القصيرة المدى يطالب بقوانين أشد لطالبي اللجوء الذين يعدّون عبئاً، خاصة أولئك القادمين من دول مصنفة «آمنة» أي لا خوف من ملاحقات بحق القادمين منها الذين لا يتمتعون أصلاً بحظوظ كبيرة في الحصول على لجوء. ومن أقواله عن هؤلاء إن «الذين يأتون ويتسببون بمشاكل ولا يتوجب عليهم أن يكونوا هنا، يجب أن يتم إرسالهم إلى ملاجئ مغلقة، ويفهموا أنهم يدخلون بلداً بقيم ليبرالية، وإذا كانوا لا يحترمونها فسيخسرون بعض الحقوق».

في المقابل يروّج يتن لاندماج أفضل لطالبي اللجوء الناجحين ويدعو إلى إدخالهم في صفوف تعلّم اللغة «منذ اليوم الأول» ومساعدتهم في العثور على وظيفة «بأسرع وقت ممكن». وقبل الانتخابات ومنذ ترأسه حزبه عام 2023، حذّر بأن إبقاء الأشخاص على نظام الإعانات من دون دمجهم في المجتمع وسوق العمل «مؤذ لهم وللمجتمع بشكل عام، ويغذي الإحباط لدى الهولنديين». ويعدّ يتن أن على الأحزاب الوسطية أن «تقود الخطاب السياسي عوضاً عن أن تترك ذلك للأحزاب اليمينية المتطرفة».

حل أزمة السكن... بناء جزيرة جديدة

سياسة الهجرة هذه التي يروج لها يتن منذ ترأسه حزبه، قد تكون أكسبته أصواتاً من اليمين واليمين المتطرف، ولكن الأصوات الأخرى التي نجح بإضافتها لحزبه جذبها من خلال خطاب أوسع يتناول مخاوف الناخبين بشكل مباشر من قضايا تتعلق بالسكن التي كانت أيضاً من القضايا الأساسية في الانتخابات الهولندية. فهولندا، مثل الكثير من الدول الأوروبية، تعاني من نقص 400 ألف وحدة سكنية ما يؤدي إلى رفع دائم في أسعار العقارات والسكن ما يزيد من العبء على السكان. ورغم أن كل الأحزاب التي خاضت الانتخابات جعلت من مسألة البناء أساسية في معركتها، فإن طروحات الديمقراطيين كانت الأكثر ثورية. وفيما كانت الأحزاب الأخرى تقترح إغلاق مطارات للبناء على أراضيها، أو توسيع مجمعات موجودة أصلاً، اقترح يتن بناء جزيرة جديدة على أرض مغطاة حالياً بالمياه، في بلد ربعه يقبع تحت مستوى البحر. وتعهد ببناء مدن جديدة تضم 60 ألف وحدة سكنية مع مساحات خضراء ومياه وأماكن ترفيه.

ما إذا كان سينجح بتحقيق أي من طروحاته تلك، إن كانت المتعلقة بالهجرة أو تلك المتعلقة بالسكن، غير واضح ومرتبط بالائتلاف الذي سينجح بتشكيله في النهاية والخطط التي يتفق عليها مع الأحزاب الأخرى. ولكن على الأقل هي خطط طموحة لاقت صدى لدى الناخبين وأوصلت من قد يصبح أصغر رئيس حكومة في هولندا إلى رأس السلطة. والواقع أن صعوده السريع وهو في سن يافعة، دفع البعض للتشكيك بقدراته أحياناً.

أما سياسته الأخرى، فهي مناقضة تقريباً لسياسات فيلدرز واليمين المتطرف في هولندا المشكك في الاتحاد الأوروبي وفي التأييد الأوروبي لأوكرانيا ومعاداة روسيا. ويعدّ يتن مؤيداً للاتحاد الأوروبي ولدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا. وعندما كان وزيراً للطاقة في حكومة مارك روته التي سبقت حكومة فيلدرز، دفع يتن بسياسة طاقة لا تعتمد على الغاز الروسي. وقد خدم في حكومة روته الرابعة وزيراً للمناخ والطاقة بين عامي 2022 و2024. ودخل يتن البرلمان الهولندي للمرة الأولى عام 2017 وكان متحدثاً باسم كتلته عن المناخ والطاقة. وفي عام 2018 انتخب زعيماً للكتلة النيابية للديمقراطيين ليصبح أصغر زعيم للكتلة في تاريخ الحزب. وفي عام 2020 انتخب حزبه الدبلوماسية المخضرمة سيغريد كاخ لزعامته في معركة لم يترشح فيها يتن. ولكنه لم ينتظر كثيراً، إذ وجد فرصة سانحة بعد استقالة كاخ في صيف عام 2023 وانتخب لزعامة الحزب.

اقرأ أيضاً


هولندا... حكومات ائتلافية منذ الحرب العالمية الثانية

Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY
Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY
TT

هولندا... حكومات ائتلافية منذ الحرب العالمية الثانية

Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY
Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY

> منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحكم هولندا حكومات ائتلافية مكونة من حزبين أو أكثر في أحيان كثيرة، بسبب القانون الانتخابي المعتمد الذي يجعل من المستحيل على حزب واحد أن يفوز بالأغلبية. وطغى مارك روته وحزبه حزب «الشعب للحرية والديمقراطية» المحافظ الليبرالي، على الحياة السياسية في السنوات الـ14 الأخيرة تقريباً. فهو ترأس 4 حكومات متتالية بين العامين 2010 و2024، ضم معظمها أكثر من حزبين، حتى استقالته عام 2023 وانتقاله ليصبح أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو). وحظيت حكومته الأولى التي كانت حكومة أقلية وشكَّلها مع حزب «نداء الديمقراطية المسيحي»، بدعم من حزب «الحرية» اليميني المتطرف من دون أن يشارك الأخير في الحكومة.

ولكن الحكومة لم تدم أكثر من عامين بعد خلافات مع خيرت فيلدرز الذي سحب دعمه لها، مما أدى إلى سقوطها. وشكَّل روته حكومته الثانية التي ضمت 4 أحزاب بينها حزب «العمال»، مما سمح لها بأن تحكم طوال فترة ولايتها لخمس سنوات، وكانت الأكثر استقراراً في تاريخ هولندا الحديث. وشكَّل روته حكومته الرابعة عام 2017 لتحكم لمدة 3 سنوات، وضمت 4 أحزاب ولكنها سقطت مبكراً بعد تداعيات أزمة كورونا. وكانت الحكومة الأخيرة التي شكَّلها روته من 4 أحزاب عام 2022، الأقصر عمراً، واستغرق تشكيلها وقتاً قياسياً وصل إلى 299 يوماً، ولكنها انهارت سريعاً بعد خلافات حول الهجرة، ولم تحكم فعلياً أكثر من عام ونصف، ولكنها بقيت حكومة تصريف أعمال لنصف عام إضافي.

وفي عام 2024، حقق حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة فيلدرز فوزاً تاريخياً، ولكن فيلدرز نفسه لم يصبح رئيس حكومة بسبب اشتراط الأحزاب الأخرى التي وافقت على دخول الائتلاف الحكومي معه، على تعيين شخصية أخرى. وتوافقت الأحزاب في النهاية على ديك شوف لرئاسة الحكومة التي ضمت 4 أحزاب من بينها حزب «الحرية» الذي خاض تجربته الأولى في الحكم، ولكنه سرعان من انسحب من الحكومة في صيف العام الجاري بعد خلافات مع الأحزاب الأخرى حول سياسات هجرة متشددة ومخالفة للقانون أراد تطبيقها.