«لا يُهِم إذا كانت القصة حقيقية. المهم القصص التي سيروونها بعد موتك».
يقول بات غاريت لبيلي «ذا كيد» (The Kid) في مشهد من الفيلم الجديد. «ويسترن» آخر يُضاف إلى ظاهرة أفلام الغرب الأميركي التي تعاود الظهور ولو بعدد محدود من الأعمال مقارنة بأعداد الأفلام الكوميدية والدرامية الاجتماعية أو التشويقية أو سواها من الأنواع المتوارثة.
لا يهم إذا كان بيلي ذا كيد، يقول الفيلم، ظالماً أو مظلوماً، بل ما يهم هو تلك الحكايات التي ستحوله، كما حدث في الواقع، إلى أسطورة. بعضها نظر إليه كبطل، كما تمنته السينما أحياناً، وبعضها الآخر نظر إليه كمجرم، كما حفظه التاريخ المدوَّن.
العبارة تشبه عبارة قالها صحافي اسمه ماكسويل سكوت (كارلتون يونغ)، في مشهد قرب النهاية، في فيلم جون فورد «الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس»، إذ اعتبر أن الأسطورة هي أيضاً أهم من الحقيقة: «عندما تصبح الأسطورة حقيقة... اطبع الأسطورة».
فيلم فورد سنة 1962 عُنِي بتقديم شخصية شرير من الخيال اسمه «ليبرتي فالانس» (لعبه لي مارفن) لكن «ذا كيد» يغير على شخصية ويليام بوني، الشهير بـ«بيلي ذا كيد» التي هي شخصية حقيقية، إذ وُلد صاحبها سنة 1859، في مدينة نيويورك وعاش 21 سنة قبل أن يقتله الشريف بات غاريت في منازلة تمت سنة 1881، في بلدة فورت سمر (ولاية أريزونا).
بعد موته تحول بيلي ذا كيد (الذي وُلِد باسم ثالث هو هنري ماكارتي) إلى أسطورة. حمل بعض الشبان اسمه وادعوا، كل على حدة، بأنه بيلي ذا كيد وأنه لم يمت بل هكذا قيل.
حياة بيلي لم تكن سهلة منذ البداية. مات والده وهو في الرابعة عشر من عمره. وتزوجت والدته بعد ذلك من رجل انتقل بالعائلة إلى الغرب الأميركي. في سن الخامسة عشر انتهج الجريمة لصاً، بادئ الأمر، من ثم قاتلاً عندما نشبت بينه وبين حداد البلدة معركة بالأيدي تطورت إلى استخدام السلاح. وعمل لاحقاً في مزرعة يملكها جون تنسل الذي أنقذه من حياة التشرد والجوع.
في عام 1878، تعرض رجال القانون لتنسل الذي حاول استرداد قطيع من البقر ادعى أعداء له ملكيته له، وقتلوه. هنا قرر بيلي الانتقام من الجميع، ما حوله إلى مجرم، قتل ما لا يقل عن ثمانية أشخاص، بعضهم من رجال القانون.
على جانبي القانون
«ذا كيد» الذي يخرجه فينسنت دونوفريو ويلعب دور بطولته إيثان هوك في دور غارت، وداين ديهان في دور بيلي ذا كيد، يتمحور حول تلك الفترة الأخيرة من حياة الشخصية المذكورة. لكنه يضيف إليها شخصية جديدة لم تكن مطروقة وهي من صنع الخيال. ذلك أن عنوان «الفتى» لا يشمل «بيلي ذا كيد» فقط، بل أساساً يتحدث عن فتى أصغر سناً اسمه ريو (جايك شور) كان قتل والده دفاعاً عن والدته حين كان يضربها بضراوة. عم الصبي، شقيق الأب غرانت (كريس برات)، يقرر الانتقام من ريو الذي انضم لعصابة بيلي ولو بالصدفة.
بهذه الإضافة تتسع الرقعة قليلاً. تلك التي تناولت سابقاً الحكاية بقطبيها بات وبيلي، كما أودعها في ذاكرتنا المخرج الرائع سام بكنباه في «بات غاريت آند بيلي ذا كيد» سنة 1973. هناك لعب جيمس كوبرن بقامته المديدة شخصية الشريف الصارم، وأدى كريس كريستوفرسون شخصية بيلي ذا كيد، وكلاهما أسهم إيجاباً في تحويل الحكاية إلى ملحمة تغطي مساحة أحداث كبيرة وتشمل شخصيات كثيرة بممثلين من صلب سينما «الوسترن» المتتابعين، من بينهم جاك إيلام ومات كلارك وريتشارد جيكيل وتشيل ويلز وباري سوليفن وجيسون روباردس وإميليو فرنانديز إلى جانب آخرين.
بتصوير بديع وفره جون كوكويلون (وغير متاح في هذا العمل الجديد بالحسنات ذاتها)، رمى المخرج نظرة أخرى (إلى جانب أفلام «الوسترن» المتعددة التي حققها)، حزينة على غرب ضاعت ملامحه تحت وطأة إحلال قانون المؤسسة تمهيداً لغزو الاقتصاد والصناعة. ليس أن فيلم باكنباه كان مع المجرم، لكنه كان مع رسالة من عنده تنعى الغرب الأميركي بخيره وشره.
إلى ذلك حمل مضموناً يفيد (تضامناً مع تلك الرسالة) بأن رجل القانون والرجل الخارج عن القانون وجهان لعملة واحدة تنتمي إلى داخل كل واحد من بطليه.
مخرج «ذا كيد»، فنسنت دونوفريو هو الممثل الذي قدمه ستانلي كوبريك في «سترة معدنية كاملة» ((Full Metal Jacket سنة 1978. هو المجند البدين الذي ينهال عليه مدربه بالشتائم دافعاً إياه للانتحار في نهاية القسم الأول من الفيلم. وهو يظهر في «ذا كيد» لاعباً دوراً صغيراً كشريف البلدة الطامع في قتل بيلي لاستحواذ المكافأة. لكن لا فيلم بكنباه ولا الفيلم الجديد، ولا أي من الأفلام التي دارت حول هذه الشخصية المعقدة حظيت بالكلمة الأخيرة ولا وفرت الصورة الشخصية الواحدة. على العكس تماماً نجد حكايات متعددة عن الشخصية منذ الثلاثينات، عندما قدَّم كينغ فيدور «بيلي ذا كيد» سنة 1930، من بطولة جوني ماك براون (كان أحد فرسان أفلام «الوسترن» آنذاك).
في ذلك الفيلم ينتقم بيلي من قتلة الرجل الذي أواه ورغب في إصلاحه. والانتقام في الأفلام فعل ينال مباركة المشاهدين، إذا ما كان من فعل البطل، أما إذا ما كان من فعل الشرير، فإنهم ضده.
المخرج جوزف كاين (Kane) أعاد الكرة بعد ثماني سنوات في «عودة بيلي ذا كيد» جاعلاً إياه ليس بطلاً فحسب، بل مغنياً أيضاً، كما أداه روي روجرز.
سبعون فيلماً
سنوات الأربعينات والخمسينات كانت حبلى بعشرات الأفلام التي دارت مباشرة أو على نحو غير مباشر حول شخصية بيلي. أدّاها من عام 1940 ولأكثر من مرة الممثل بوب ستيل الذي كان بدوره أحد نجوم سينما «الوسترن» قبل أن تغيب عنه الشمس، فيتحول إلى ممثل مساند.
في الواقع أحد آخر أفلامه («تشارلي فاريك» لدون سيغال سنة 1973)، لعب دور حارس مصرف من دون أن يُكتب اسمه بين أسماء الممثلين. وهو مثّل في 212 فيلماً، أغلبها من نوع «الوسترن»، لكنه في الأربعينات كان (على قصر قامته) أحد الوجوه المحبوبة، ولعب شخصية «بيلي» ما لا يقل عن دزينة من المرات في عامين فقط (1940 - 1941) قبل أن ينقلب لاعباً شخصية خيالية باسم توسون سميث في 13 فيلماً آخر.
تلك السنوات وما تلتها كانت السنوات التي حولت «بيلي ذا كيد» من قاتل إلى بطل يدافع عن الحق ويواجه الظلم، بل يبدو أقرب إلى شخصية «روبن هود» منه إلى شخصية المجرم الذي كان عليه.
الأسطورة هنا غلبت الواقع لكن كذلك فعلت عندما تناولت حياة شخصيات غرب أخرى حقيقية مثل عصابة جيسي جيمس أو شخصية توم هورن أو شخصية الثنائي بوتش كاسيدي وصندانس كيد.
هاتان الشخصيتان ظهرتا مراراً أيضاً (منفصلين غالباً) إلى أن قامت هوليوود سنة 1969 بتقديمهما كشريرين جاذبين ولطيفين ومخلصين، كل للآخر.
السيناريو (كما كتبه ويليام غولدمن) كان مفبركاً من أساسه، لكن الجمهور أحب لقاء روبرت ردفورد مع بول نيومان في فيلم واحد (تلاه لقاء آخر سنة 1973 بعنوان «The Sting» وبالمخرج ذاته جورج روي هِل).
قبل تمثيله شخصية بوتش كاسيدي سنة 1969، لعب بول نيومان نفسه شخصية «بيلي ذا كيد» في فيلم «مسدس اليد اليسرى» The Left Handed Gun)) للمخرج آرثر بن (1958). هنا اختار الفيلم تقديم شخصية بيلي كفرد قلق، ما خلع عنه سمتي البطولة والشر معاً.
أنتج 70 فيلماً خلال العقود الماضية جميعاً دارت حول هذه الشخصية، بينها عدد لا بأس به من الأفلام التي قدمتها عنصراً ثانوياً، كما الحال في فيلم حسن حافظ «فيفا زلاطا» (فيلم «الوسترن» العربي الوحيد في التاريخ كما يعتقد هذا الناقد).
لكن إذ يأتي «ذا كيد» كآخر فيلم حول «بيلي ذا كيد» (وليس آخرها)، فإنه يأتي كذلك وسط موجة تريد العودة إلى الأمس المشبع بالتاريخ.
ففي العامين الأخيرين (2017 و2018)، حقق لهوليوود أكثر من 30 فيلماً من هذا النوع، من بينها عشرة أفلام على الأقل شهدت عروضاً رئيسية (أي في صالات السينما وليس مباشرة على أسطوانات أو إلى العروض المنزلية).
هناك «المرأة تتقدم» لسوزان وايت و«المخدوع» لصوفيا كوبولا و«السبعة الرائعون» لأنطوان فوكوا (مع إيثان هوك أيضاً في البطولة) و«عداوات» (افتتح آخر دورات مهرجان دبي) و«الأخوان سيسترز» للفرنسي جاك أوديار و«أنشودة بستر سكرغز» للأخوين كووَن.
إنه التاريخ الوحيد لأميركا، وهو ما زال، كحال بيلي ذا كيد، يثير الشغف وتتناوله الآراء المختلفة بعضها معه وبعضها ضده.