أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب

يقودها الفرنسيون في الساحل... وحضور قوي «غير معلن» للأميركيين

أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب
TT

أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب

أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب

عندما كانت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها يوقفون عملياتهم العسكرية ضد ما يسمى تنظيم «داعش» في سوريا والعراق ويستعدون أيضاً للانسحاب من أفغانستان، تلك الساحة السابقة لحرب شرسة ضد الإرهاب بدأت منذ عمليات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، عندما كان كل ذلك يحدث وتخبو جذوة الحرب العالمية على الإرهاب في الشرق الأوسط، توجهت الأنظار نحو القارة الأفريقية على أنها المركز الجديد لهذه الحرب.
-

تعد أفريقيا واحدة من أكثر مناطق العالم فقراً، كما تنتشر فيها الأمية بمعدلات مهولة، ويعاني كثير من سكانها من انتشار أمراض قاتلة مثل الملاريا والإيدز وفيروس إيبولا، ومع انتشار الفقر والمرض والجهل تصبح أفريقيا بيئة خصبة لنمو وانتشار التنظيمات الإرهابية، خصوصاً إذا أضفنا لما سبق انتشار الظلم الاجتماعي وغياب الديمقراطية وتغلغل الفساد في أغلب الدول، وانعدام أفق بالنسبة للشباب الذين يشكلون الغالبية العظمى من سكان القارة.
ولكن في المقابل تشكل القارة البِكرُ ساحةً للصراع بين القوى العالمية بحثاً عن موطئ قدم في قارة لا تزال خصبة للاستثمار، وبحثاً عن نصيب من ثرواتها الهائلة التي لا تزال نائمة تحت باطن الأرض، كالنفط والغاز واليورانيوم والذهب، كل ذلك يجعلها في مرمى التنظيمات الإرهابية الساعية لضرب المصالح الغربية، خصوصاً أن هذه التنظيمات تستغل موقع القارة على ممرات تهريب المخدرات من أميركا الجنوبية نحو أوروبا، للدخول في شبكات التهريب من أجل تمويل أنشطتها الإرهابية.
مئات المقاتلين الأجانب فروا من ساحة المعارك الطاحنة في سوريا والعراق خلال السنوات الأخيرة. ويقول تقرير جديد صدر مطلع شهر مارس (آذار) الحالي عن مركز التفكير الأميركي حول الأمن «ستراتفور»، إن عدداً كبيراً من هؤلاء المقاتلين توجه نحو القارة الأفريقية، ويشير التقرير إلى أن أفريقيا هي «الساحة الجديدة للحرب على الإرهاب».
يوضح التقرير أن في العام الماضي كان هنالك «تزايد ملحوظ» في أعداد المقاتلين الأجانب الذين دخلوا الأراضي الأفريقية والتحقوا بجماعات متشددة تسعى جميعها إلى إقامة دويلات للتطرف على غرار ما قام به «داعش» في سوريا والعراق، ويشكل هؤلاء المقاتلون «خطراً حقيقياً» على القارة السمراء.
كثير من الدول الأفريقية أخذت هذه التحذيرات على محمل الجد، وضاعفت من إجراءاتها الأمنية في المطارات ونقاط العبور الحدودية، لمنع عبور أي مقاتل محتمل داخل أراضيها، وتم وضع كثير من الجنسيات ضمن قائمة «سوداء» يتم التعامل مع مواطنيها بحذر شديد، على غرار ما قامت به الحكومات في السنغال وموريتانيا وغينيا، بينما فضلت دول كثيرة أخرى تعزيز مستوى التعاون الأمني مع تركيا، البلد الذي يشكل محطة عبور رئيسية لنسبة كبيرة من المقاتلين الأجانب، بعد الخسائر الكبيرة التي تتعرض لها الجماعات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط.
قد لا تكون أفريقيا بالاهتمام ذاته الذي تحتله منطقة الشرق الأوسط ضمن الأجندات العالمية، بصفتها منطقة حيوية في مجال إنتاج ونقل الطاقة بشكل عام والنفط بصفة خاصة، ولكن تبقى القارة الأفريقية واحدة من أهم المناطق الحيوية في العالم، ولا تزال ثرواتها «غير مكتشفة» ما جعلها محط أنظار كثير من الشركات العالمية المختصة في مجال التنقيب عن النفط والغاز، في إطار البحث عن بديل لمنطقة الشرق الأوسط المزدحمة، كما أن منطقة شمال وغرب أفريقيا المهددة بالإرهاب هي امتداد للأمن القومي في القارة الأوروبية التي لا تبعد عن عواصمها سوى مئات الكيلومترات.
لذا فإن عوامل كثيرة تجذب القوى العالمية لخوض الحرب على الإرهاب في أفريقيا، وإن كانت هذه القوى تنخرط في هذه الحرب بمستويات متفاوتة حسب مصالحها، ومناطق وجود هذه المصالح، فعلى سبيل المثال تركز الولايات المتحدة الأميركية أنشطتها ضد الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي القريبة من مضيق باب المندب الفاصل بين البحر الأحمر والمحيط الهندي، وهو واحد من أكثر المناطق أهمية من الناحية الاستراتيجية، وله تأثير كبير في حركة الملاحة العالمية، وتستخدم الولايات المتحدة قاعدتها العسكرية في جيبوتي (توصف بأنها أكبر قاعدة عسكرية لطائرات الدرون في العالم) لمواصلة الضغط على «حركة الشباب» و«داعش» في الصومال.
في غضون ذلك، تفضل قوى عالمية أخرى خوض الحرب على الإرهاب في مناطق أخرى من القارة، على غرار فرنسا التي تخوض منذ أكثر من 6 سنوات حرباً شرسة ضد «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الذي ينشط في منطقة الساحل الأفريقي، وهي منطقة نفوذ حيوي بالنسبة لفرنسا وتوجد بها مصالح فرنسية كبيرة، من أبرزها مناجم اليورانيوم في شمال النيجر.
دول أوروبية أخرى كثيرة تخوض الحرب على الإرهاب في أفريقيا، إما بالتحالف مع الفرنسيين أو الأميركيين، بينما يتزايد بقوة النفوذ الروسي والصيني في القارة، وهو نفوذ اقتصادي في البداية، ولكنه يتجاوز ذلك ليصبح نفوذاً أمنياً وعسكرياً مع توقيع اتفاقيات التعاون الأمني والعسكري مع الحكومات المحلية لمحاربة «الإرهاب».
منذ أن بدأ كثير من مناطق القارة الأفريقية يقع تحت براثن الجماعات المتشددة، كان كثيرون يتوقعون أن القارة تحتاج لسنوات حتى تحتل صدارة الاهتمام فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب، بينما تشير الأرقام إلى أن أفريقيا قد تحولت بالفعل إلى مركز لهذه الحرب، وهي الآن في قلب الإعصار وفي صدارة الاهتمام الدولي، ذلك ما يؤكده تقرير صادر مطلع العام الحالي عن المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية.
ويقول المركز في تقريره الجديد إن «الحرب العالمية ضد الإرهاب في أفريقيا» تجري على 4 جبهات رئيسية هي: الصومال، وحوض بحيرة تشاد، والساحل (وسط مالي والمناطق الحدودية)، ومصر، ويزيد المركز الأفريقي معززاً هذه المعطيات بأرقام تكشف أن عدد الجماعات المتشددة قد تضاعف في أفريقيا خلال العام الماضي (2018)، وهي زيادة تعود في أغلبها إلى عمليات انشقاق وتصدع في صفوف هذه الجماعات.
وقال المركز إن 13 دولة أفريقية واجهت خلال العام الماضي هجمات إرهابية يومية، فيما تراجع عدد ضحايا الإرهاب في القارة بنسبة 12 في المائة بالمقارنة مع حصيلة الضحايا خلال عام 2017، وبنسبة 50 في المائة بالمقارنة مع الحصيلة في عام 2015، ويعود هذا التراجع الكبير إلى انخفاض معدل هجمات جماعة «بوكو حرام» في شمال نيجيريا، التي انخفض عدد ضحاياها العام الماضي بنسبة 35 في المائة، كما تقلص عدد القتلى الذين أسقطتهم حركة الشباب الصومالية بنسبة 15 في المائة، أما «داعش» فقد تراجع عدد ضحاياه بنسبة 21 في المائة.
خلال العام الماضي، تراجعت الهجمات الإرهابية التي شنتها «بوكو حرام» بنسبة 25 في المائة، بينما تضاعفت 3 مرات الهجمات التي شنتها «الدولة الإسلامية في أفريقيا الغربية»، وهي جماعة منشقة عن «بوكو حرام» أعلنت عام 2015 مبايعة «داعش»، وسحبت البساط بشكل شبه كامل من تحت التنظيم القديم «بوكو حرام»، رغم أنها لا تزال تحمل اسمه في كثير من الأحيان، وقد شن هذا التنظيم خلال العام الماضي 83 هجوماً إرهابياً، بزيادة كبيرة بالمقارنة مع العام قبل الماضي (2017) الذي شن فيه التنظيم 27 هجوماً فقط، فيما ارتفعت حصيلة قتلى التنظيم بنسبة 58 في المائة.
أما «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب» وحلفاؤه الذين ينشطون في منطقة الساحل والصحراء، فقد سجلوا أكبر نسبة زيادة في العمليات الإرهابية خلال العام الماضي، حين تضاعفت هجماتهم من 144 هجمة خلال 2017 لتصل في 2018 إلى 322 هجمة، فيما تضاعف عدد الضحايا من 366 قتيلاً خلال عام 2017 ليصل في 2018 إلى أكثر من 611 قتيلاً، كما زاد «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب» وحلفاؤه من اتساع الرقعة الجغرافية التي ينشطون فيها، لتشمل بالإضافة إلى شمال ووسط مالي، مناطق من بوركينا فاسو والنيجر.

بوركينا فاسو تشهد أخيراً أكبر عدد من الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل، وأصبحت توصف بأنها الحلقة الأضعف من بين دول الساحل، إذ تضاعف عدد الهجمات الإرهابية على أراضيها، وهي هجمات في أغلبها من تنفيذ مقاتلين تابعين لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب» وآخرين من «تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى»، وقد ارتفعت هذه الهجمات من 34 هجوماً خلال 2017 لتصل العام الماضي إلى 136 هجوماً.
أما في منطقة شمال أفريقيا، فقد بقيت أنشطة تنظيم «داعش» على حالها خلال العام الماضي، إذا لم تشهد أي زيادة أو نقصان بالمقارنة مع 2017، فيما تمثل الهجمات التي يشنها «تنظيم داعش في سيناء» نسبة تتزايد، حيث شن التنظيم في سيناء 283 هجوماً من أصل 344 هجوماً شنتها جميع فروعه في القارة.
اللافت في الإحصائيات الصادرة عن المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية، هو ارتفاع وتيرة الهجمات الإرهابية التي شنها تنظيم «داعش» في شمال موزمبيق، الذي يطلق عليه محلياً «تنظيم الشباب»، وشن هذا التنظيم الصاعد خلال العام الماضي 55 هجوماً راح ضحيتها 164 قتيلاً.


مقالات ذات صلة

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟