أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب

يقودها الفرنسيون في الساحل... وحضور قوي «غير معلن» للأميركيين

أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب
TT

أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب

أفريقيا مسرحاً للحرب على الإرهاب

عندما كانت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها يوقفون عملياتهم العسكرية ضد ما يسمى تنظيم «داعش» في سوريا والعراق ويستعدون أيضاً للانسحاب من أفغانستان، تلك الساحة السابقة لحرب شرسة ضد الإرهاب بدأت منذ عمليات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، عندما كان كل ذلك يحدث وتخبو جذوة الحرب العالمية على الإرهاب في الشرق الأوسط، توجهت الأنظار نحو القارة الأفريقية على أنها المركز الجديد لهذه الحرب.
-

تعد أفريقيا واحدة من أكثر مناطق العالم فقراً، كما تنتشر فيها الأمية بمعدلات مهولة، ويعاني كثير من سكانها من انتشار أمراض قاتلة مثل الملاريا والإيدز وفيروس إيبولا، ومع انتشار الفقر والمرض والجهل تصبح أفريقيا بيئة خصبة لنمو وانتشار التنظيمات الإرهابية، خصوصاً إذا أضفنا لما سبق انتشار الظلم الاجتماعي وغياب الديمقراطية وتغلغل الفساد في أغلب الدول، وانعدام أفق بالنسبة للشباب الذين يشكلون الغالبية العظمى من سكان القارة.
ولكن في المقابل تشكل القارة البِكرُ ساحةً للصراع بين القوى العالمية بحثاً عن موطئ قدم في قارة لا تزال خصبة للاستثمار، وبحثاً عن نصيب من ثرواتها الهائلة التي لا تزال نائمة تحت باطن الأرض، كالنفط والغاز واليورانيوم والذهب، كل ذلك يجعلها في مرمى التنظيمات الإرهابية الساعية لضرب المصالح الغربية، خصوصاً أن هذه التنظيمات تستغل موقع القارة على ممرات تهريب المخدرات من أميركا الجنوبية نحو أوروبا، للدخول في شبكات التهريب من أجل تمويل أنشطتها الإرهابية.
مئات المقاتلين الأجانب فروا من ساحة المعارك الطاحنة في سوريا والعراق خلال السنوات الأخيرة. ويقول تقرير جديد صدر مطلع شهر مارس (آذار) الحالي عن مركز التفكير الأميركي حول الأمن «ستراتفور»، إن عدداً كبيراً من هؤلاء المقاتلين توجه نحو القارة الأفريقية، ويشير التقرير إلى أن أفريقيا هي «الساحة الجديدة للحرب على الإرهاب».
يوضح التقرير أن في العام الماضي كان هنالك «تزايد ملحوظ» في أعداد المقاتلين الأجانب الذين دخلوا الأراضي الأفريقية والتحقوا بجماعات متشددة تسعى جميعها إلى إقامة دويلات للتطرف على غرار ما قام به «داعش» في سوريا والعراق، ويشكل هؤلاء المقاتلون «خطراً حقيقياً» على القارة السمراء.
كثير من الدول الأفريقية أخذت هذه التحذيرات على محمل الجد، وضاعفت من إجراءاتها الأمنية في المطارات ونقاط العبور الحدودية، لمنع عبور أي مقاتل محتمل داخل أراضيها، وتم وضع كثير من الجنسيات ضمن قائمة «سوداء» يتم التعامل مع مواطنيها بحذر شديد، على غرار ما قامت به الحكومات في السنغال وموريتانيا وغينيا، بينما فضلت دول كثيرة أخرى تعزيز مستوى التعاون الأمني مع تركيا، البلد الذي يشكل محطة عبور رئيسية لنسبة كبيرة من المقاتلين الأجانب، بعد الخسائر الكبيرة التي تتعرض لها الجماعات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط.
قد لا تكون أفريقيا بالاهتمام ذاته الذي تحتله منطقة الشرق الأوسط ضمن الأجندات العالمية، بصفتها منطقة حيوية في مجال إنتاج ونقل الطاقة بشكل عام والنفط بصفة خاصة، ولكن تبقى القارة الأفريقية واحدة من أهم المناطق الحيوية في العالم، ولا تزال ثرواتها «غير مكتشفة» ما جعلها محط أنظار كثير من الشركات العالمية المختصة في مجال التنقيب عن النفط والغاز، في إطار البحث عن بديل لمنطقة الشرق الأوسط المزدحمة، كما أن منطقة شمال وغرب أفريقيا المهددة بالإرهاب هي امتداد للأمن القومي في القارة الأوروبية التي لا تبعد عن عواصمها سوى مئات الكيلومترات.
لذا فإن عوامل كثيرة تجذب القوى العالمية لخوض الحرب على الإرهاب في أفريقيا، وإن كانت هذه القوى تنخرط في هذه الحرب بمستويات متفاوتة حسب مصالحها، ومناطق وجود هذه المصالح، فعلى سبيل المثال تركز الولايات المتحدة الأميركية أنشطتها ضد الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي القريبة من مضيق باب المندب الفاصل بين البحر الأحمر والمحيط الهندي، وهو واحد من أكثر المناطق أهمية من الناحية الاستراتيجية، وله تأثير كبير في حركة الملاحة العالمية، وتستخدم الولايات المتحدة قاعدتها العسكرية في جيبوتي (توصف بأنها أكبر قاعدة عسكرية لطائرات الدرون في العالم) لمواصلة الضغط على «حركة الشباب» و«داعش» في الصومال.
في غضون ذلك، تفضل قوى عالمية أخرى خوض الحرب على الإرهاب في مناطق أخرى من القارة، على غرار فرنسا التي تخوض منذ أكثر من 6 سنوات حرباً شرسة ضد «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الذي ينشط في منطقة الساحل الأفريقي، وهي منطقة نفوذ حيوي بالنسبة لفرنسا وتوجد بها مصالح فرنسية كبيرة، من أبرزها مناجم اليورانيوم في شمال النيجر.
دول أوروبية أخرى كثيرة تخوض الحرب على الإرهاب في أفريقيا، إما بالتحالف مع الفرنسيين أو الأميركيين، بينما يتزايد بقوة النفوذ الروسي والصيني في القارة، وهو نفوذ اقتصادي في البداية، ولكنه يتجاوز ذلك ليصبح نفوذاً أمنياً وعسكرياً مع توقيع اتفاقيات التعاون الأمني والعسكري مع الحكومات المحلية لمحاربة «الإرهاب».
منذ أن بدأ كثير من مناطق القارة الأفريقية يقع تحت براثن الجماعات المتشددة، كان كثيرون يتوقعون أن القارة تحتاج لسنوات حتى تحتل صدارة الاهتمام فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب، بينما تشير الأرقام إلى أن أفريقيا قد تحولت بالفعل إلى مركز لهذه الحرب، وهي الآن في قلب الإعصار وفي صدارة الاهتمام الدولي، ذلك ما يؤكده تقرير صادر مطلع العام الحالي عن المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية.
ويقول المركز في تقريره الجديد إن «الحرب العالمية ضد الإرهاب في أفريقيا» تجري على 4 جبهات رئيسية هي: الصومال، وحوض بحيرة تشاد، والساحل (وسط مالي والمناطق الحدودية)، ومصر، ويزيد المركز الأفريقي معززاً هذه المعطيات بأرقام تكشف أن عدد الجماعات المتشددة قد تضاعف في أفريقيا خلال العام الماضي (2018)، وهي زيادة تعود في أغلبها إلى عمليات انشقاق وتصدع في صفوف هذه الجماعات.
وقال المركز إن 13 دولة أفريقية واجهت خلال العام الماضي هجمات إرهابية يومية، فيما تراجع عدد ضحايا الإرهاب في القارة بنسبة 12 في المائة بالمقارنة مع حصيلة الضحايا خلال عام 2017، وبنسبة 50 في المائة بالمقارنة مع الحصيلة في عام 2015، ويعود هذا التراجع الكبير إلى انخفاض معدل هجمات جماعة «بوكو حرام» في شمال نيجيريا، التي انخفض عدد ضحاياها العام الماضي بنسبة 35 في المائة، كما تقلص عدد القتلى الذين أسقطتهم حركة الشباب الصومالية بنسبة 15 في المائة، أما «داعش» فقد تراجع عدد ضحاياه بنسبة 21 في المائة.
خلال العام الماضي، تراجعت الهجمات الإرهابية التي شنتها «بوكو حرام» بنسبة 25 في المائة، بينما تضاعفت 3 مرات الهجمات التي شنتها «الدولة الإسلامية في أفريقيا الغربية»، وهي جماعة منشقة عن «بوكو حرام» أعلنت عام 2015 مبايعة «داعش»، وسحبت البساط بشكل شبه كامل من تحت التنظيم القديم «بوكو حرام»، رغم أنها لا تزال تحمل اسمه في كثير من الأحيان، وقد شن هذا التنظيم خلال العام الماضي 83 هجوماً إرهابياً، بزيادة كبيرة بالمقارنة مع العام قبل الماضي (2017) الذي شن فيه التنظيم 27 هجوماً فقط، فيما ارتفعت حصيلة قتلى التنظيم بنسبة 58 في المائة.
أما «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب» وحلفاؤه الذين ينشطون في منطقة الساحل والصحراء، فقد سجلوا أكبر نسبة زيادة في العمليات الإرهابية خلال العام الماضي، حين تضاعفت هجماتهم من 144 هجمة خلال 2017 لتصل في 2018 إلى 322 هجمة، فيما تضاعف عدد الضحايا من 366 قتيلاً خلال عام 2017 ليصل في 2018 إلى أكثر من 611 قتيلاً، كما زاد «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب» وحلفاؤه من اتساع الرقعة الجغرافية التي ينشطون فيها، لتشمل بالإضافة إلى شمال ووسط مالي، مناطق من بوركينا فاسو والنيجر.

بوركينا فاسو تشهد أخيراً أكبر عدد من الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل، وأصبحت توصف بأنها الحلقة الأضعف من بين دول الساحل، إذ تضاعف عدد الهجمات الإرهابية على أراضيها، وهي هجمات في أغلبها من تنفيذ مقاتلين تابعين لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب» وآخرين من «تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى»، وقد ارتفعت هذه الهجمات من 34 هجوماً خلال 2017 لتصل العام الماضي إلى 136 هجوماً.
أما في منطقة شمال أفريقيا، فقد بقيت أنشطة تنظيم «داعش» على حالها خلال العام الماضي، إذا لم تشهد أي زيادة أو نقصان بالمقارنة مع 2017، فيما تمثل الهجمات التي يشنها «تنظيم داعش في سيناء» نسبة تتزايد، حيث شن التنظيم في سيناء 283 هجوماً من أصل 344 هجوماً شنتها جميع فروعه في القارة.
اللافت في الإحصائيات الصادرة عن المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية، هو ارتفاع وتيرة الهجمات الإرهابية التي شنها تنظيم «داعش» في شمال موزمبيق، الذي يطلق عليه محلياً «تنظيم الشباب»، وشن هذا التنظيم الصاعد خلال العام الماضي 55 هجوماً راح ضحيتها 164 قتيلاً.


مقالات ذات صلة

أنقرة تتحرى مع بغداد عن مسيّرة «أُسقطت» في كركوك

شؤون إقليمية موقع سقوط المسيّرة التركية في كركوك (إكس) play-circle 00:24

أنقرة تتحرى مع بغداد عن مسيّرة «أُسقطت» في كركوك

أكدت تركيا أنها والعراق لديهما إرادة قوية ومشتركة بمجال مكافحة الإرهاب كما عدّ البلدان أن تعاونهما بمشروع «طريق التنمية» سيقدم مساهمة كبيرة لجميع الدول المشاركة

سعيد عبد الرازق (أنقرة:)
أفريقيا وزير الخارجية الروسي رفقة وزيرة خارجية السنغال في موسكو (صحافة سنغالية)

على خطى الجيران... هل تتقرب السنغال من روسيا؟

زارت وزيرة خارجية السنغال ياسين فال، الخميس، العاصمة الروسية موسكو؛ حيث عقدت جلسة عمل مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أعقبها مؤتمر صحافي مشترك.

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية تركيا تعدّ وجودها العسكري في سوريا ضماناً لوحدتها (إكس)

تركيا: لا يجب التعامل مع أزمة سوريا على أنها مجمّدة

أكدت تركيا أن الحل الدائم الوحيد للأزمة السورية يكمن في إقامة سوريا تحكمها إرادة جميع السوريين مع الحفاظ على وحدتها وسلامة أراضيها.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا تحسين إقبال تحمل صورة لابنها آصف إقبال الذي قُتل مع آخرين في هجمات مميتة لمسلحين انفصاليين في بلوشستان 27 أغسطس 2024 (رويترز)

باكستان: موجة من الهجمات الإرهابية تهز بلوشستان المضطربة

لقي ما لا يقل عن 38 شخصاً مصرعهم في عدة هجمات في مقاطعة بلوشستان منذ الأحد، فيما يبدو أنه جزء من حملة شنها انفصاليون مسلحون في المنطقة.

كريستينا غولدبوم (واشنطن - إسلام آباد) كريستينا غولدبوم
أوروبا نانسي فايزر وزيرة الداخلية والشؤون الداخلية الألمانية تشارك في الجلسة الخاصة للجنة الشؤون الداخلية في «البوندستاغ» بشأن هجوم السكين في زولينغن وترحيل اللاجئين إلى أفغانستان (د.ب.أ)

ألمانيا تفتح باب الترحيل إلى أفغانستان وسوريا وتبعِد 28 مخالفاً إلى كابل

بدأت تداعيات اعتداء زولينغن الإرهابي في ألمانيا الظهور بخطوات عملية تتخذها الحكومة الألمانية، بعضها قد يكون حتى مثيراً للجدل.

راغدة بهنام (برلين)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.