في يوم المرأة العالمي... السعوديات يقطفن ثمار التمكين

إصلاحات شاملة عززت من دور المرأة في البلاد

الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان السفيرة السعودية في واشنطن (إ.ب.أ)
الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان السفيرة السعودية في واشنطن (إ.ب.أ)
TT

في يوم المرأة العالمي... السعوديات يقطفن ثمار التمكين

الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان السفيرة السعودية في واشنطن (إ.ب.أ)
الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان السفيرة السعودية في واشنطن (إ.ب.أ)

لم يعد هناك شيء اسمه مستحيل... هكذا يرى معظم السعوديات واقع الإنجاز النسوي مع ذكرى اليوم العالمي للمرأة، الذي يصادف اليوم الثامن من شهر مارس (آذار)، حيث تشارك المرأة السعودية نظيراتها من نساء العالم، في عهد اتفقن على تسميته بـ«قطف ثمار التمكين».
وفي حين يحتفل العالم اليوم بنون النسوة، تحتفي السعودية يومياً بالسيدات اللاتي صرن حاضرات بصورة لافتة في المواقع كافة، والمتابع للمشهد السعودي يلمس بوضوح أن المرأة صارت ركيزة أساسية في قطاعات البلاد كافة، وأن عجلة تمكينها باتت تركض بسرعة صاروخية، لتتقلد السيدات العديد من المناصب العليا هذا العام وفي أحيان كثيرة يأتي ذلك للمرة الأولى.
يأتي على رأس هذه النجاحات، تعيين الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان، في منصب سفيرة للسعودية في الولايات المتحدة، لتكون بذلك أول سفيرة في تاريخ البلاد. إلى جانب تعيينها في منصب رئيس الاتحاد السعودي للأولمبياد الخاص، تزامناً مع إعلان مشاركة السعودية في دورة الأولمبياد الخاص للألعاب العالمية 2019، المقررة إقامتها في أبوظبي خلال مارس الجاري.
فيما شاركت «تداول» السعودية أمس ، وهي شركة السوق المالية في البلاد، فعالية قرع جرس افتتاح السوق، لتعزيز المساواة بين الجنسين في بيئة العمل وبمناسبة اليوم العالمي للمرأة، وذلك بحضور سارة السحيمي، رئيس مجلس إدارة «تداول»، والمهندس خالد الحصان، المدير التنفيذي لـ«تداول». وبذلك تَنضم «تداول» إلى نحو 80 سوقاً مالية حول العالم تقيم هذه الفعالية ضمن الشراكة مع مبادرة الأمم المتحدة للأسواق المالية المستدامة، بهدف تمكين المرأة في قطاع الأسواق المالية واحتفاءً باليوم العالمي للمرأة.
وقّع المدير التنفيذي لشركة «تداول» على اتفاقية «مبادئ تمكين المرأة» كأول شركة سعودية، ليعكس التزام «تداول» بأهمية تعزيز دور المرأة في قطاع الأسواق المالية والشركات المدرجة.
ومن السياسة والرياضة والاقتصاد إلى ساحة الحراك العلمي، حصلت البروفسورة سمر الحمود، على وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى نظير إنجازاتها وتميزها في المجال الطبي والأبحاث على المستوى الدولي، وهي استشارية جراحة القولون والمستقيم في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث كأول جرّاحة سعودية تلتحق بهذه الوظيفة، وفي العام الماضي اختيرت الحمود رئيسةً للجنة العالمية لتحكيم الأبحاث العلمية في الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية، حيث تعد أول رئيس يشغل هذا المنصب من منطقة الشرق الأوسط.
تتحدث الحمود لـ«الشرق الأوسط» عن هذا التمكين النسوي السعودي قائلة: «المرأة السعودية أصبح لها دور محوري في نهضة المجتمع وتنمية الوطن، والآن أصبحت الكفاءات السعودية حاضرةً على المستوى العالمي وليس محلياً فقط، والمملكة صار لها دور محوري في اتخاذ القرار عالمياً، وهي حريصة على دعم المرأة وتعزيز مكانتها وتوليتها أعلى المناصب».
وتؤكد الحمود أن المجتمع الدولي صار يستعين بخبرات المرأة السعودية، معلقة على ذلك بالقول: «هذا يدل على الأهداف السياسية في تمكين وتعزيز أبناء وبنات الوطن»، مشيرة إلى أن نجاحات المرأة السعودية هي أكبر رد على المتشككين ممن وصفتهم بالحملات الخارجية المغرضة. وتضيف: «تكريمي بوسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى يعبّر عن تشجيع واحتضان خادم الحرمين لأبناء وبنات الوطن ودعم لمسيرتهم».
وخلال 365 يوماً، ما بين ذكرى يوم المرأة السابق والحالي، تبدلت أحوال المرأة السعودية بصورة كبيرة، فخلالها قادت المرأة السعودية السيارة، بعد قرار خادم الحرمين بهذا الخصوص، وتبعت ذلك مجموعة من الأنظمة لتنظيم قيادة النساء للسيارات، وإقرار نظام مكافحة التحرش. وتوضح الدكتورة نجاح القرعاوي، عميدة خدمة المجتمع والتنمية المستدامة بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل بالدمام، بناءً على دراسة شاملة أجرتها، أن 66% من إجمالي النساء أظهرن رغبتهن في قيادة السيارة.
وتتحدث القرعاوي لـ«الشرق الأوسط» عن المشروع الوطني «هي تقود» الذي تزامن مع هذا الحدث التنموي، واصفةً قرار السماح للمرأة بقيادة السيارة بأنه «أتاح للباحثين فرصة مثالية بأن يسهموا في رصد وتوثيق المرحلة الانتقالية ما بين الحظر والسماح بقيادة المرأة للسيارة».
من ناحيتها، ترى مها طاهر، نائب الرئيس التنفيذي في «الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني»، أن مفهوم تمكين المرأة السعودية أصبح محقَّقاً بصورة واضحة في الآونة الأخيرة، قائلة: «في السابق كانت تُقارن المرأة الناجحة بكفاءة الرجل، لكن مؤخراً أصبحت بيئة العمل عادلة ومنصفة بصورة أكبر، ودون تمييز بين المرأة والرجل من ناحية الترقيات والأجور وأمور أخرى كثيرة».
في حين ترى الشابة السعودية نور الدباغ، مؤسسة «بنفسجيل» وهي منصة فنية تنظيمية لتبادل الأفكار، أن الآونة الأخيرة تُبشر بالخير الكثير للمرأة السعودية، وتضيف: «في القطاعات الاقتصادية الجديدة مثل قطاعي الإبداع والثقافة، نلحظ أن المرأة باتت تلعب دوراً رائداً بشغفها وشجاعتها وذكائها، وتخلق لنفسها مساحة جديدة للإنجاز والإبداع والامتياز، وهذه القطاعات صارت تحتضن الطاقات السعودية من الجنسين على حد السواء (رجالاً ونساءً)، للدفع بعجلة التنمية».
إلى ذلك، افتُتحت في الرياض، أمس، ندوة حول تمكين المرأة، نظّمتها هيئة حقوق الإنسان ومكتب هيئة الأمم المتحدة بالرياض، أكد فيها الدكتور بندر العيبان، رئيس هيئة حقوق الإنسان، أن السعودية ماضية في مسيرة تمكين المرأة وتعزيز مشاركتها في التنمية. ونوه إلى التدابير التي اتخذتها السعودية لحماية حقوق المرأة وتمكينها والتي من أبرزها مدونة الأحكام القضائية، وصدور الأمر السامي الذي أكد على جميع الجهات المعنية عدم مطالبة المرأة بالحصول على موافقة ولي الأمر عند تقديم الخدمة لها أو إنهاء الإجراءات الخاصة بها، وتقلدها مناصب مهمة، بالإضافة إلى تمكينها من الوصول إلى مراكز صنع القرار في القطاعين العام والخاص.
من جهتها، أكدت نتالي فوستيه، المنسقة المقيمة للأمم المتحدة في السعودية، خلال كلمتها في الندوة، أن منظومة الأمم المتحدة تثمّن ما قامت به السعودية في مجال تمكين المرأة، كما تقدر تعاونها مع الآليات الدولية في مجال حقوق الإنسان بصفة عامة وفي مجال حقوق المرأة بصفة خاصة، مشيرةً إلى أن المملكة قدمت تقريرها الدوري الثالث أمام مجلس حقوق الإنسان وتقريرها الجامع للتقريرين الدوريين الثالث والرابع أمام لجنة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
وشددت فوستيه على أن المنظمة تقدر الإصلاحات التشريعيَة التي اتخذتها السعودية في مَجالِ تَعزيز حقوق المرأة في السنوات الأخيرة، خصوصاً في السماح بإصدار رخص قيادة السيارات للنساء، والامتناع عن اشتراط حصول المرأة على إذن ولي الأمر الذكَر للاستفادة من الخدمات والإجراءات، إلا في الحالات التي يشترطها القانون، بالإضافة إلى قانون الحماية من الإيذاء الذي يُجرم العنف، وتعديل قانون الأحوال المدنية الذي أعطى للمرأة الحق في الحصول على بطاقة الهوية الوطنية.


مقالات ذات صلة

التويجري: الإصلاحات التشريعية مكّنت المرأة السعودية

الخليج التويجري أكدت مضي السعودية قدماً في الوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاقيات حقوق الإنسان (واس)

التويجري: الإصلاحات التشريعية مكّنت المرأة السعودية

عدّت الدكتورة هلا التويجري رئيس هيئة حقوق الإنسان السعودية، تمكين المرأة تمكين للمجتمع كونه حقاً من حقوق الإنسان، مبيّنة أن الإصلاحات التشريعية جاءت ممكّنة لها.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
يوميات الشرق تشكل النساء نسبة 33 % من فريق مفتشي البيئة وقادته في «محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية» (الشرق الأوسط)

الجولة رقم 5000 في محمية «محمد بن سلمان الملكية» بإشراف «العنقاوات»

سيّرت «هيئة تطوير محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية» الجولة رقم 5000. بإشراف أول فريق نسائي من مفتشي البيئة في السعودية، والأكبر في الشرق الأوسط.

غازي الحارثي (الرياض)
رياضة سعودية المقاتِلة السعوية خلال احتفالها بالتأهل (الشرق الأوسط)

السعودية «سمية» إلى نهائي بطولة العالم للكيك بوكسينغ

تأهلت اللاعبة السعودية سمية منشي إلى الدور النهائي من بطولة العالم للكيك بوكسينغ، والمُقامة حالياً في أوزبكستان.

«الشرق الأوسط» (الرياض )
الاقتصاد رئيسة لجنة تمكين المرأة في التعدين (تصوير: تركي العقيلي) play-circle 03:13

السعودية تعتزم إنشاء أول جمعية للمرأة في المعادن

كشفت رئيسة لجنة تمكين المرأة في التعدين رنا زمعي أن اللجنة تعمل حالياً على تأسيس اللبِنة الأولى وبناء واستكمال متطلبات تأسيس جمعية المرأة في المعادن.

آيات نور (الرياض)
يوميات الشرق رحيل رائدة الفن السعودي صفية بن زقر

رحيل رائدة الفن السعودي صفية بن زقر

غيّب الموت، أمس، رائدة الفن السعودي صفية بن زقر، التي أطلق عليها البعض اسم «موناليزا الحجاز».

عبير مشخص (جدة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)