«النبيذة»... تلاقُح الواقع المُرّ بالخيال المجنّح

من روايات «القائمة القصيرة» لجائزة «بوكر» العربية

إنعام كجه جي وغلاف «النبيذة»
إنعام كجه جي وغلاف «النبيذة»
TT

«النبيذة»... تلاقُح الواقع المُرّ بالخيال المجنّح

إنعام كجه جي وغلاف «النبيذة»
إنعام كجه جي وغلاف «النبيذة»

تحتاج رواية «النبيذة» لإنعام كجه جي الصادرة عن «دار الجديد» ببيروت، إلى قراءة متأنية تفحص بإمعان معطيات النص السردي الذي يراهن على اللغة المجازية المتشظيّة، والحبكة القوية، والمفاهيم الفلسفية التي تأخذ طابعاً كونياً كلّما اتسعت حركة الشخصيات في أزمنة وأمكنة مختلفة لا يمكن استحضارها إلاّ بتقنية «المرايا المُتقابلة»، هذا التوصيف الدقيق الذي نستعيره من كجه جي نفسها.
ثمة أشياء كثيرة تسترعي الانتباه في هذه الرواية أهمها عنوان الرواية، وغياب الفصول التي استعاضت عنها الروائية بالأرقام، والبطولة الجماعية التي توزّعت على ثلاث شخصيات رئيسة: تاج الملوك، ووديان، ومنصور، بينما ظلت الشخصيات الآخر ثانوية تؤثث النص السردي وتدفع الشخصيات الرئيسة إلى مصائرها المتقاطعة بما في ذلك شخصية «الأستاذ»، أو الطاغية الصغير الذي ارتكب الكثير من الحماقات منذ يفاعته المبكرة حتى موته على القوات الأميركية، وأكثر من ذلك فإن نهاية الرواية ظلت مفتوحة لأنّ العاشقَين المُتيمين لم يموتا كما أراد الراوي العليم وإنما ظلاّ أحياءً كما شاءت الكاتبة مُخلدة إياهما في الذاكرة الجمعية للناس. ومثلما انطوت الرواية على مضامين جديدة نجمت عن تلاقح الواقع المُرّ بالخيال المجنّح فإن الشكل خرج عن سياقه التقليدي ليبدأ من النهاية المُفتَرضة وينطلق من جديد على شكل استرجاعات ذهنية لـ«تاج الملوك» تعيد فيها سرد الأحداث على مدى تسعة عقود حُبلى بالأحداث والتقلّبات السياسية في عدّة بلدان عربية وأجنبية تتوزّع على أربع قارات رئيسة في العالم. وأكثر من ذلك فإن الروائية استثمرت الشِّعر، واللهجة المحكيّة، والأغاني العراقية ووظّفتها في متن النص السردي المُنساب بسلاسة كبيرة، إضافة إلى عنصر التشويق الذي يدفع بالمتلقي لمواصلة القراءة والتهام الصفحات التي تُقطِّر لذة وعذوبة رغم قساوة بعض الأحداث وجروحها التي لا تندمل.
يجمع العنوان بين المعنى الحقيقي والمعاني المجازية لكلمة «النبيذة»، الصفة الثابتة للمفعول من نَبَذَ، وهي تعني هنا المنبوذة، والمتروكة، والمقصيّة، ولو تأملنا حياة تاج الملوك لوجدناها مُهملة، منسية، خصوصاً بعد أن لجأت إلى باريس لتصبح فريسة للعزلة، والتوحّد، واجترار الماضي، فقد «ظلّت العصيّة والنبيذة وعلامة الاستفهام»، أما منصور الذي شغفها حُباً فقد قال عنها: «تاجي عنقود من عنب أسود يعاند الأرجل العاصرة. نبيذها حلو، وهيمنتها على مذكراتي تضنيني». هنا يلوذ «النبيذ» بالمعنى الحقيقي وإن توارى خلف الحلاوة، والصلابة، والعناد. و«النبيذة»، في حقيقة الأمر، تحمل أصداءً من المعنيين الحقيقي والمجازي من دون أن ننسى المعاني الأخرى التي تدور في هذين الفلكين اللغويين.
تبْرع كجه جي في بناء الشخصيات الرئيسة الثلاث فقد تتبعتها بعين سينمائية توثّق كل المراحل والمواقف الدرامية المهمة التي مرّت بها كل شخصية على انفراد وأثقلتها بالعديد من المحمولات الفكرية والثقافية والفنيّة. وعلى الرغم من وجود شخصيات أخرى عديدة في الرواية فإنّ بنية النص السردي تقوم على امرأتين ورجل واحد لكل منهم خصاله، ورؤيته المحددة للحياة التي عاش تفاصيلها، والنهايات التي آل إليها.
ولكي نُحيط القارئ علماً بثيمة النص لا بد من المرور على هذه الشخصيات تباعاً وأولاها «تاج الملوك» ابنة أمير خان إيمانلو الذي طلّق زوجته زينة السادات قبل شهرين من ولادتها لكن عبد المجيد الشريفي سيمنحها اسمه بعد أن يتزوج أمها لتصبح تاجي عبد المجيد التي تتخذ من الصحافة مهنة لها، وتشرع بكتابة المقالات السياسية والثقافية، مستفيدةً من نصائح الناس المقرّبين إليها، وسوف تغدو في لمح البصر رئيسة تحرير مجلة «الرحاب» التي يدعمها الباشا نوري السعيد، ويُسدي إليها النصائح، ويوجهها في كتاباتها السياسية التي تؤازر النظام الملكي، كما التقت مع عبد الإله، الوصيّ على العرش وحاولت التقرّب إليه لكنّ جهودها ذهبت أدراج الرياح. لم يدم شهر العسل طويلاً مع نوري السعيد، فبعد اتفاقية بورتسموث تعطلت الصحف، وتوقفت أحزاب المعارضة عن أنشطتها المألوفة، وزُجّ بالقادة الوطنيين في المعتقلات، عندها قلبت تاجي ظهر المجن للباشا وشاركت في المظاهرات التي نظمتها الأحزاب الوطنية، فتوقفت «الرحاب» عن الصدور، وأصدر أحد القضاة حُكماً بالإعدام على الناشط السياسي «فهد»، وبينما كانت تاجي تفكر بالذهاب إلى أخوالها في طهران إن ضاقت بها السُبل جاءها الخلاص على يد السفير الباكستاني غضنفر علي خان الذي قدّم لها دعوة من حكومته للعمل في راديو كراتشي. وهناك ستلتقي الفلسطيني منصور البادي وتحبه، لكنه سرعان ما يغادر إلى كاراكاس بعد أن تتزوج شقيقته من مهندس يعمل بالتجارة في فنزويلا، لكنه لا يستطع الفكاك من حبها، حيث يقول: «ما زلت مشدوداً إليها كعصفور مربوط بخيط رفيع إلى بنصرها». لم يتحمل مجتمع كراتشي المحافظ تفتّحها وحريتها، لذلك عادت إلى إيران، وما إن تعرّفت على فرهاد الذي ينتمي إلى سلالة السلطان علي فتح شاه حتى سرت بينهما منذ اليوم الأول كهرباء خفيّة أفضت بها إلى السرير فحملت منه طفلة، لكن الأب البيولوجي توارى عن الأنظار فيما سافرت تاجي إلى باريس وسوف تتزوج من ضابط فرنسي يكبرها سناً مقابل أن يمنح اسمه لابنتها.
حين يسافر منصور البادي إلى كاراكاس يتزوج مرتين، ويصبح مستشاراً للرئيس تشافير لكن قلبه يظل معلّقاً بتاجي التي تخلت عن كل شيء وظلت وفيّة لهذا الحُب الذي لم ينطفئ أواره منذ زمن طويل. وفي خضم هذه العلاقة العاطفية المتقدة تظهر شخصية «وديان» عازفة الكمان التي أحبت يوسفَ وارتبطت به على أمل الزواج، لكن «الأستاذ» نجل الديكتاتور عرّضها لموسيقى إلكترونية رجّت دماغها ثم أولج شيئاً حاداً في أذنيها أفقدها السمع فأصبحت صمّاء عاجزة عن التواصل مع الآخرين. يتم ترشيحها مع خمسة فنانين من قِبل السفارة الفرنسية في بغداد للسفر إلى باريس حيث تتلقى العلاج، ويستقر الطبيب المختص على تزويدها بالسمّاعات لتبدأ حياتها من جديد، فتتواصل مع تاج الملوك في علاقة حميمة هي أقرب إلى علاقة الأم بابنتها، تستمع بإمعان لقصصها الكثيرة التي تجمع بين التجسس، والمغامرات العاطفية، والتمرّد، ومحاولات تأكيد الذات التي تتشوّف إلى الحرية المطلقة.
تعتمد حبكة الرواية على اللقاء الأخير الذي يُفتَرض أن ترتّبه «وديان» بين تاجي ومنصور عند نافورة العرائس، ولكنه ما إن رآها جالسةً هناك كأي عجوز عجفاء متصابية تنتظر وحيدةً بين الشباب والسائحين حتى أخلفَ وعده وانسحب إلى فندقه ثم غادر باريس ليتأكد لنا كقرّاء أنّ منصور خذلها مرتين، الأولى في أيام الصبا والشباب، والثانية في أيام الوهن والذبول، ليسدل الستار على هذه الحكاية ويحتفظ بصورة تاجي وهي في ذروة عنفوانها وجمالها الذي كان يلوي أعناق الرجال. أما «وديان» التي رممت نفسها قليلاً فقد أدركت أنها عازفة مُحبَطة فلا غرابة أن تغيّر بوصلتها إلى الاتجاه المعاكس للموسيقى، وبدلاً من أن تحفّز موهبتها الموسيقية الثاوية في أعماقها المتوهجة غطّت رأسها بوشاح وبدأت تتردد على حلقات حوار الأديان، وتبحث عن فتاوى في حُكم سماع الموسيقى. مات «الأستاذ» رغم سطوته في الحياة لأنه طارئ عليها، لكنّ العاشقَين لم يفارقا الحياة كما تمنّى الراوي العليم وإنما ظلا خالدَين يستعيدان ذكريات الماضي في بلدان الشتات البعيدة.


مقالات ذات صلة

الانفعال بين علم النفس والأدب

كتب توماس ديكسون

الانفعال بين علم النفس والأدب

كتاب صغير عن موضوع كبير. ففي نحو 150 صفحة من القطع الصغير، تحت عنوان «تاريخ الانفعالات: مدخل بالغ الإيجاز»

د. ماهر شفيق فريد
كتب غلاف موت صغير

لماذا تتغيّر عناوين روايات في الترجمة؟

كان لترجمة الدكتورة، مارلين بوث، رواية جوخة الحارثي «سيدات القمر» دور في تقوية اهتمام صغير لديّ؛ الاهتمام بتغيّر، أو ضياع العناوين الأصلية لبعض الروايات العربية

د. مبارك الخالدي
ثقافة وفنون الطفولة المهدرة والشباب الضائع في «ليالي الرقّة الحمراء»

الطفولة المهدرة والشباب الضائع في «ليالي الرقّة الحمراء»

صدرت حديثاً عن منشورات رامينا في لندن رواية «ليالي الرقّة الحمراء» للروائيّ الكرديّ السوريّ آلان كيكاني.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

لم أحسب، وأنا أقلب الصفحات الأولى من رواية ليلى المطوّع «المنسيون بين ماءيْن»، أنني سأقضي أياماً حافلةً بالدهشة والمتعة والذهول، وأنا مأسور بهذا الكتاب.

أمين صالح
كتب فرتجوف كابرا

رؤية موحّدة للحياة في سياق علاقات تفاعلية معقّدة

عندما وقعتْ عيني على نسخة إلكترونية من كتاب «الطاوية والفيزياء الحديثة» لم أتأخّرْ في قراءته على الفور

لطفية الدليمي

بلدة ألمانية تحمل اسم المغنية الأميركية تايلور سويفت مؤقتاً

أليشاني ويستهوف إحدى المعجبات بتايلور سويفت تحمل لافتة «سويفتكيرشن» (أ.ب)
أليشاني ويستهوف إحدى المعجبات بتايلور سويفت تحمل لافتة «سويفتكيرشن» (أ.ب)
TT

بلدة ألمانية تحمل اسم المغنية الأميركية تايلور سويفت مؤقتاً

أليشاني ويستهوف إحدى المعجبات بتايلور سويفت تحمل لافتة «سويفتكيرشن» (أ.ب)
أليشاني ويستهوف إحدى المعجبات بتايلور سويفت تحمل لافتة «سويفتكيرشن» (أ.ب)

سيحتل محبو تايلور سويفت مدينة غيلسنكيرشن الألمانية؛ إذ ستؤدي المغنية الأميركية 3 حفلات في المدينة ضمن «جولة العصور» الغنائية.

ولترحب المدينة بعشرات الآلاف من عشاق المغنية الأميركية، أطلقت على نفسها، بشكل مؤقت بالطبع، «سويفتكيرشن» في حين تستعد لاستضافة الحفلات الثلاث أيام 17 و18 و19 يوليو (تموز)، وفقاً لـ«وكالة الأنباء الألمانية».

وكشفت أليشاني ويستهوف، إحدى المعجبات بتايلور سويفت، عن اللافتة التي تحمل اسم المدينة الجديد، الذي يمكن ترجمته بتصرف إلى «كنيسة سويفت»، يوم الخميس.

واقترحت ويستهوف الاسم الجديد على العمدة كارين ويلغه، التي قبلت الاقتراح وشكرتها على «فكرتها الجيدة».

المغنية الأميركية تايلور سويفت خلال جولتها الغنائية في دبلن عاصمة آيرلندا (د.ب.أ)

وزيّنت صورة لتايلور سويفت باللون الوردي اللافتة التي استقرت في وسط المدينة. وقال ماركوس شواردتمان، المتحدث باسم المدينة، لـ«وكالة الأنباء الألمانية»: «إن لافتات أخرى سيجري نصبها في أماكن متعددة من مدينة غيلسنكيرشن خلال الأيام المقبلة».

وتعد غيلسنكيرشن من البلدات الفقيرة في ألمانيا، وكانت سابقاً تعتمد على استخراج الفحم، لكن وضعها تدهور بعد التراجع عن الاعتماد على الفحم بصفته مصدراً للطاقة. وتشتهر المدينة بسبب فريقها لكرة القدم شالكه، وكذلك ملعبها الكبير الذي يجذب كل فترة مؤثرين مثل تايلور سويفت.

خلال وجود سويفت في المدينة ستزيح الستار عن حجر يحمل اسمها في ممر المشاهير في غيلسنكيرشن، الذي يضم أسماء شهيرة، مثل المدرب رودي أساور.

وخلال أيام الحفلات ستنظم المدينة حفلات كاريوكي في الهواء الطلق. وأكد شواردتمان أن المدينة تحضر مفاجآت لمحبي تايلور سويفت، لكن تبقيها سراً في الوقت الحالي.

وبيعت كل تذاكر الحفلات التي ستقام في استاد «شالكه» الذي يسع 70 ألف متفرج. وستؤدي سويفت حفلات أخرى في هامبورغ وميونيخ ضمن جولتها الغنائية.