أدَّت الجهود الدولية المضنية لمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط إلى كسر شوكة «داعش» بزعامة أبو بكر البغدادي، إذ إن التنظيم لم يعد يسيطر إلا على 1 في المائة من الجغرافيا التي أعلنت ما تُسمّى بأرض «الخلافة» المزعومة. غير أن هذا التراجع يقابله ارتفاع وتيرة نشاط الجماعات الإرهابية بغرب القارة الأفريقية، خصوصاً بنيجيريا... حيث تشير تقارير بحثية عديدة إلى الصعود المخيف لتنظيم «أنصارو» التابع لـ«القاعدة»، بعد أن تراجع تنظيم «بوكو حرام» في بعض دول الإقليم.
مع بداية 2019، أصبح تنظيم «أنصارو»، أكثر خطورة من تنظيم أبو بكر شيكاو، حيث بات «أنصارو»، يسيطر على مساحة شاسعة تعادل مساحة دولة بلجيكا. كما أن التنظيم يقف وراء كثير من الهجمات المميتة، في الشمال والشمال الشرقي، وقد أعطى هذا التنظيم الذي يتزعمه أبو مصعب البرناوي، أولوية قصوى لمهاجمة الجيش والشرطة والميليشيات المسلحة التابعة لهما، دون أن يعني ذلك تخليه عن مواجهة السكان، خصوصاً غير المتعاونين مع التنظيم.
ومن العمليات التي قادها هذا التنظيم مهاجمته بداية يناير (كانون الثاني) الماضي ثلاثة مراكز عسكرية شمال شرقي البلاد، مما أسفر عن عدد من القتلى. كما تحدثت منظمة العفو الدولية وعدة مصادر أمنية عن هجوم مروِّع وقع نهاية شهر يناير الماضي، بعد يوم من انسحاب الجيش من بلدة ران شمال شرقي نيجيريا، وقتل فيه 60 شخصاً على الأقل، كما شرد الهجوم نحو 40 ألف شخص، هرب 30 ألفاً منهم إلى الكاميرون.
الوضع المتردِّي
تُعدّ الهجمات المتكررة والمتصاعدة ضد الجيش النيجيري من المؤشرات الدالّة على تزايد قوة تنظيم «أنصارو». ورغم أن وسائل الإعلام وبعض المنظمات ما زالت تخلط بين تنظيم «بوكو حرام»، بزعامة أبو بكر شيكاو، والتنظيم المنشقّ عنه سنة 2015، الذي يحمل اسم «أنصارو» (أنصار)، بقيادة أبو مصعب البرناوي، ابن محمد يوسف مؤسس تنظيم «بوكو حرام». فإن جيمس بارنيت محلل في مشروع التهديدات الحرجة في معهد «أميركان إنتربرايز» المتخصص في شرق أفريقيا وحوض بحيرة تشاد، يرى أن الوقت قد حان لإدراك أن تنظيم «أنصار» هو الخطر الحقيقي الجديد، وأن هذا التنظيم على وشك إقامة «دويلة متطرفة»، جديدة ستكون دولة داخل أكبر بلد بأفريقيا.
بالنسبة للباحث، في منطقة بحيرة التشاد، جيمس بارنيت، فإن قوة التنظيم لا تعود للقدرة المتنامية على مهاجمة القواعد العسكرية، بل تنامي قدرة التنظيم على «مسك الأراضي الشاسعة»، وسيطرته على جغرافيا مترامية الأطراف. أكثر من ذلك، تحوَّل التنظيم في غياب للدولة النيجيرية، إلى سلطة إدارية، لها مؤسسات، تدير شؤون عشرات الآلاف من المواطنين، وتجمع الضرائب، كما تسيِّر التجارة والموارد الطبيعية. وهذا ما يمنح التنظيم مزيداً من ثقة السكان، لا سيما بالشمال والشمال الشرقي للبلاد.
ويبدو أن التهديد الذي يشكِّله تنظيم البرناوي لا ينحصر في الرقعة المحلية، بل يصل إلى غرب أفريقيا، وحوض بحيرة تشاد غرب القارة.
وهذا ما يعني أن الدينامية التي تتمتع بها التنظيمات الإرهابية، وتشابكها إقليمياً، يشكلان تحدياً لدول غرب القارة، وللمصالح الاستراتيجية الأميركية بالمنطقة. على الرغم من أن الولايات المتحدة تبني أكبر قاعدة عسكرية لها بأفريقيا بالنيجر القريبة.
ورغم كون الولايات المتحدة الأميركية شريكاً حقيقياً لقوات الأمن النيجيرية في مواجهتها للمنظمات الإرهابية لا سيما «بوكو حرام» و«أنصارو»، فإن هناك عوائق تحول دون تحقيق النصر الذي تحقق في العراق وسوريا، رغم الجهود الكبيرة التي قامت بها نيجيريا وشركاؤها.
بالنسبة للباحث جيمس بارنيت، فإن الوضع السياسي، والأمني والعسكري الحالي بنيجيريا، لا يساعد على هزيمة الإرهاب، ولا الجماعات المسلحة العرقية الانفصالية في الجنوب وغيره. ذلك أن البلاد مقبلة على الانتخابات الرئاسية في سنة 2019، وسط صراعات عرقية وإثنية ومذهبية دينية، وتنامٍ لقوة المنظمات الإرهابية، وتأثير فعلها الإجرامي على الاقتصاد.
من جهة أخرى، تضاءل التركيز الدولي على منطقة بحيرة تشاد، مما يعيق الحكومة النيجيرية عن إعطاء الأولوية لهذه المعركة، وتوفير الموارد لها. وعليه، يمكن القول إن ارتفاع وتيرة الهجمات التي ينفِّذها تنظيم «أنصارو»، منذ الأشهر الأخيرة من سنة 2018، وبداية 2019، وما تخلّفه من مئات الضحايا شهرياً، والآلاف من النازحين. تشكّل بداية لمرحلة جديدة، تهدد بتكرار تجربة دولة «داعش» التي قضي عليها بالعراق وسوريا.
ذلك أن تنظيم برناوي بات يشكل بالفعل تهديداً إرهابياً لأبوجا، عاصمة نيجيريا، حيث خطط التنظيم في النصف الثاني من سنة 2018م، لمهاجمة السفارتين الأميركية والبريطانية، وربما لاغوس أكبر مدينة في نيجيريا. وهو ما أدى لمزيد من الاحتياطات الأمنية في المطارات منذ يونيو (حزيران) 2018، حيث توصلت المصالح الأمنية إلى أن التنظيمات الإرهابية تستهدف الطائرات التجارية.
فكرة الدولة
وبما أن التنظيم يسيطر على مساحة واسعة، وله موارد مالية وبشرية، ويحصل على السلاح في السوق السوداء، أو عبر مهاجمات القواعد العسكرية، ولأن التنظيم يستفيد آيديولوجيا من انتشار فكر «السلفية الجهادية» في أجزاء من غرب أفريقيا. فإن فكرة إقامة «الدولة الإسلامية» في هذه المنطقة ليستْ حُلماً للمجموعات الإرهابية المتطرفة فقط، بل تجد لها قاعدة شعبية كبيرة مساندة لها. وتستغل المجموعات المتطرفة، الصراعات الإثنية والدينية، والوضع الاقتصادي وضعف الدولة، لتسويق فكرة تأسيس دولة من منظور قريب من «داعش»، مما جعل غرب أفريقيا مصدراً أكبر للإرهاب العابر للحدود أكثر من أي وقت مضى.
من جانب آخر، يُمكن القول إن انقسام «بوكو حرام» سنة 2015 جعل تهديد المتشددين في شمال شرقي نيجيريا أكثر خطورة. فقد أدى استهداف تنظيم شيكاو، للمدنيين المسلمين إلى عزله عن السكان المحليين وكان عاملاً رئيسياً في تنصل «داعش» من قيادته، صحيح أن «بوكو حرام» لم يقدِّم نُظُماً للحكم على الإطلاق، ولم يمنح المجتمعات المحلية أي حافز للتعاون، كما أن شياكو يفضل المقاتلين من مجموعته العرقية، مما يخلق احتكاكاً داخلياً ويحدّ من توسع التنظيم إقليمياً، لكنّ تنظيم «أنصارو» تعلّم من أخطاء «بوكو حرام»، وتجنبَتْ المجموعة المنشقة، بشكل عام، قَتْل المدنيين المسلمين، وتبذل جهوداً حثيثة لحماية التجارة وحرية الحركة في الأراضي التي تسيطر عليها. مع تركيز شديد للهجمات ضد الجيش النيجيري، الذي يعاني من نقص في الموارد المالية والبشرية، وتقادم معداته العسكرية.
ويأتي هذا في وقت لا يركز فيه المجتمع الدولي على تهديد المتطرفين في نيجيريا، كما كان في عام 2015. ورغم أن الدول الغربية قدمت مساعدة أمنية لنيجيريا فور انتهاء عمليات الاختطاف، التي تمت سنة 2014، مما يشير إلى اهتمام أوسع بمكافحة الإرهاب في المنطقة، لا سيما بعد نشر الولايات المتحدة 300 جندي في الكاميرون بعد إعلان «بوكو حرام» مبايعته لـ«داعش» سنة 2015. غير أن التقارير تفيد بأن الولايات المتحدة برمجت تقليص قواتها في المنطقة، غرب أفريقيا، في أفق عام 2019.
وفي ظل هذا الوضع، يعمل تنظيم أبو مصعب البرناوي، بشكل سريع، على تسريع توسيع سيطرته على المناطق الريفية، واستعادة الأراضي التي احتضنها «بوكو حرام»، إما عن طريق التفاوض أو المواجهة المسلحة. وبما أن التنظيم يحقق مكاسب كبيرة على المستوى الميداني، فقد شجعه ذلك على طرد الجيش النيجيري من مناطق مختلفة، مركزاً على شمال شرقي نيجيريا، وهي المناطق التي تكون فيها قوات الجيش والأمن ضعيفة. وقد هاجم التنظيم أكثر من ثماني عشرة قاعدة، منذ منتصف عام 2018، واستولى على المعدات والمركبات والرهائن.
ويرى، الباحث المتخصص في قضايا الأمنية لبحيرة التشاد جيمس بارنيت، أن هذا التفوُّق القتالي أدى بدوره إلى نزوح مئات الجنود النيجيريين شمال شرقي البلاد، حيث يواجهون عمليات انتشار موسعة، ومعدات غير كافية، ورواتب مخجلة. وهو ما يؤدي إلى سهولة استيلاء التنظيم على بلدان ومناطق في شمال شرقي نيجيريا، أواخر عام 2018، وسيصبح قريباً قوياً بما يكفي للاحتفاظ بها. رغم أن هذا السيناريو يصعب تصديقه فإن التنظيم قادر على تحقيقه.
أضف إلى ذلك أن مجتمعات منطقة بحيرة تشاد عانت من نتائج الصراع، ومن المرجّح أن يذعن كثير منها لاحتلال تنظيم «أنصارو» مقابل إنهاء القتال. ومع وجود مناطق موسعة، يستغلها التنظيم، في شمال شرقي نيجيريا من شأنه أن يعزز شرعية «أنصارو»، ويسمح له بتوجيه الهجمات عبر نيجيريا، وضد المصالح الغربية في المنطقة.
قد يستفيد التنظيم من سلوك قوات الأمن النيجيرية التي أصبحت أكثر عنفاً مما كانت عليه قبل أربع سنوات. ومن تركيز الجيش أكثر على جنوب شرقي نيجيريا بسبب وجود النفط، وأهميته الاقتصادية. كما أن الحكومة تعاني من شح الموارد، وازدياد طلبات السكان، الشيء الذي دفعها لتبني رد عسكري على عُنف المزارعين في عام 2018. كما أن الحرب الأهلية الناشبة في الكاميرون المجاورة ستكون تحدياً جديداً لنيجيريا وقواتها المسلحة.
بكلمة، يبدو أن هذا الوضع العام يساعد أبو مصعب البرناوي، على المضي قدماً في تأسيس «دويلة متشددة» في الشمال الشرقي لنيجيريا، أكبر تجمُّع بشري واقتصادي بأفريقيا. وبالإضافة للعوامل المذكورة أعلاه، فإن الاضطرابات وعدم الاستقرار بدولة الكاميرون المجاورة، تسهل الحركة وتجنيد مزيد من العناصر للقتال. ويشير إلى ذلك رئيس أركان الدفاع الجنرال رينيه كلود ميكان حين قال: «عام 2019 سيشهد نضال الكاميرون من أجل الوحدة الوطنية وسلامة الأراضي». وأضاف أن «جماعة (بوكو حرام)، وهي جماعة إرهابية إسلامية مقرها نيجيريا تجنّد مرة أخرى مقاتلين في الكاميرون وتهاجم حدودنا الشمالية. وفي الوقت نفسه، قام الانفصاليون الذين يقاتلون لإنشاء دولة تتحدث الإنجليزية بتجنيد مرتزقة من دول مجاورة لزعزعة استقرار الكاميرون».
* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس