صندوق خشبي متنوع الأحجام، لطالما اجتمع المصريون في العقود السابقة حوله، مجسداً جزءاً أساسياً من الروتين اليومي لحياتهم، فكانوا يتنقلون بسعادة ومتعة كبيرة بين كنوز إذاعية لا تزال في ذاكرتهم. وفي محاولة منه لإحياء هذا التراث القديم، يعكف محمد خيري، مهندس إلكترونيات مصري على إصلاح أجهزة الراديو القديمة داخل ورشته بمدينة دمياط، (شمالي القاهرة)، إذ يأتي إليه مواطنون من محافظات عدة، ليضعوا بين يديه ما يمتلكونه من تراث، وكلهم أمل وترقب في إصلاح أجهزتهم العتيقة بعدما ذاعت شهرته في إعادة تشغيل أجهزة راديو يبلغ عمر بعضها مائة عام، إلى جانب براعته أيضاً في إعادتها إلى شكلها الأنيق القديم دون تغيير، لكيلا تفقد أصالتها وعراقتها. فيما يعتبره هو هواية أثيرة يمارسها في وقت فراغه إلى جانب عمله مهندساً في الصباح.
ويروي محمد حكايته غير المألوفة مع الراديو في حواره مع «الشرق الأوسط» قائلاً: «تعلمت من جدي إصلاح كل شيء له علاقة بالميكانيكا والإلكترونيات، رغم أنه لم يكن دارساً للهندسة، فأنا قد نشأت داخل بيت عبارة عن متحف يضم عشرات أجهزة الراديو الأنتيك، حيث كان والدي ولا يزال يهوى اقتناء هذه الأجهزة، والتي يتعدى عمرها المائة عام، من مختلف الماركات العالمية، ومن مختلف الأسر المصرية العريقة، ولفت إلى أنه حصل عليها عن طريق بيعها في مزادات أو عن طريق شرائها من أسواق مصرية قديمة».
يشير خيري إلى بعض الأجهزة العتيقة داخل بيته المدهش قائلاً: «تشبعت عيني بالأجهزة العتيقة، فعلى سبيل المثال يوجد راديو أثري، ماركة أميرسون أميركي الصنع إنتاج عام 1934. وجهاز آخر ماركة ماركوني، تحفة أثرية نادرة غاية في الجمال، ويعمل بكفاءة عالية، ويستقبل جميع الموجات». ثم أشار إلى جهاز ثانٍ، وقال: «هذا هو أول نموذج لصناعة الراديو في العالم، وهو قطعة فنية لن تتكرر، ونظر إلى جهاز راديو قديم آخر وقال: «أما هذه التحفة فهي راديو لمبات قديم ماركة (إيرميك) صناعة إنجلترا، وذلك جهاز نادر حجمه يتعدى المترين».
ويضيف محمد قائلاً: «أدركت منذ الصغر كيف أن الراديو مع كل لحظة نحرك فيها مؤشره يحرك هو عقولنا، وقد نجح أن يحركني شخصياً لأحدد اتجاهي منذ كنت في الثامنة من عمري». ويتابع: «فبعد سؤالي الدائم لأبي كيف يحتضن هذا الصندوق الصغير كل البشر الذين يتحدثون داخله كل هذه السنوات دون أن يموتوا، بل تخرج أصواتهم، ونسمع قصصهم، وحين أدركت فهم الأمور بشكل أكثر، أبلغت والدي بأنني أريد أن أصبح مهندساً، وأن أعيد إصلاح أي جهاز راديو لا يعمل، وقد كان».
يشعر محمد بالاعتزاز الشديد لما يقوم به فيقول: «وكأنني ألعب دوراً في المحافظة على تراث الإنسانية، لأن معنى أن أعيد إصلاح أجهزة الراديو العتيقة، وأن أقوم بتعليم الآخرين هذه الحرفة الصعبة، هو أنه سيتولد لدى الناس الأمل في إصلاح ما لديهم من أنتيكات، بدلاً من التفريط فيها، وهكذا نصون إرثنا التاريخي».
يوضح: «يزداد الأمر أهمية بالنسبة للراديو الأنتيك، فإصلاحه يختلف عن أي جهاز آخر، لأنه يرتبط بالتاريخ والفكر والثقافة، وأحياناً أشعر بأنني أكاد أرى المقتنيين الحقيقيين يقفون أمامي، الرجال ببدلهم الرسمية والطرابيش، والهوانم بالفساتين الأنيقة الفخمة، فهناك حديث مستمر بيننا من الصعب وصفه، فالمقتنيات ليست مجرد أشياء مرت عليها سنوات، إنما هي قصص إنسانية نادرة تتداولها الأجيال».
عرف خيري تاريخ مصر واطلع على أسرارها، وعاش صفحات عظيمة منسية من هذا التاريخ، عبر ممارسته لهذه الهواية، يقول: «ومن أكثر ما لفت نظري هو تعدد ماركات وأنواع أجهزة الراديو التي جاءت بها الأسر المصرية على نفقتها الخاصة زمان، أثناء رحلاتها إلى إنجلترا وبلجيكا وأميركا وسويسرا وفرنسا وغير ذلك، وكانت من أكثر الأنواع ارتفاعاً في السعر والقيمة، ولم يعبئوا بصعوبة نقلها، في مثل ذلك التوقيت، في ظل صعوبة السفر والملاحة، مقارنة بالوضع الراهن، وهو ما يعكس مدى تعلق المصريين بالثقافة والفن من جهة، وثراءهم وتقديرهم لكل ما هو نفيس في ذلك الوقت من جهة أخرى».
لم يحدث إلى الآن، أن وقف محمد عاجزاً أمام إصلاح أي جهاز راديو، يقول: «أحياناً يأتي إلي أحدهم براديو أنتيك في حالة مزرية لا سيما في حالة سقوطه، غير مصدق إمكانية إصلاحه، قائلاً لي أمامك مهمة مستحيلة، لكنني أفعلها، حيث يتحداني الجهاز وأتحداه، وفي النهاية أفوز بالتحدي». وللحفاظ على الراديو الأنتيك ينصح: «عدم تعرضه إلى الصدمات والرطوبة والأتربة، وتجنب سقوطه، مع الصيانة المستمرة».
عودة الأثير إلى أجهزة الراديو الأثرية
مصري ورث الشغف بها من عائلته فقرر إصلاحها
عودة الأثير إلى أجهزة الراديو الأثرية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة