حصار تغريدات التطرف على «تويتر»

إجراءات لاكتشاف محتوى التحريض

صور لـ«تويتر» متداولة على الإنترنت (الشرق الأوسط)
صور لـ«تويتر» متداولة على الإنترنت (الشرق الأوسط)
TT

حصار تغريدات التطرف على «تويتر»

صور لـ«تويتر» متداولة على الإنترنت (الشرق الأوسط)
صور لـ«تويتر» متداولة على الإنترنت (الشرق الأوسط)

جهود مكثفة تبذلها منظمات وهيئات دولية لكشف خطابات التحريض والكراهية، خاصة ضد الإسلام والمسلمين، والمدسوسة في الفضاء الافتراضي لبعض مواقع التواصل الاجتماعي، من أبرز هذه الجهود أداة «التعلم الآلي» وهي أداة جديدة أثبتت فاعليتها في كشف هذه الخطابات المسيئة، خاصة على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، وقد طورتها منظمة «حوار أفريقيا» في جنوب أفريقيا، لفهم واستيعاب خطورة الخطاب المتطرف. وقال باحثون وخبراء في الحركات الأصولية إن «هناك إجراءات لاكتشاف المحتوى المتطرف وحصار تغريدات الكراهية على الشبكات الاجتماعية، التي تعمل بشكل كبير على نشر كراهية الإسلام والمسلمين، وأيضاً كراهية الأجانب، ولذلك فإن سلطات الدولة تقوم بمحاولات لرقابة الإنترنت للحفاظ على السلام في الفضاء الإلكتروني».
ويؤكد الخبراء لـ«الشرق الأوسط» أن «التعليم الآلي» يتمكن من تصنيف ما إذا كان المحتوى معاديا للإسلام أم لا، وما إذا كان الخوف من الإسلام قوياً أم ضعيفاً. مرصد «الإسلاموفوبيا» التابع لدار الإفتاء المصرية، قال إن «التعلم الآلي» يسعى إلى فهم أفضل لمدى انتشار وخطورة الخطاب الذي يحرض على كراهية الإسلام والمسلمين على وسائل التواصل الاجتماعي وتحديداً «تويتر»... ومثل هذا الخطاب يضر بالضحايا المسلمين، ويخلق شعوراً بالخوف بين المجتمعات المسلمة، وينتهك المبادئ الأساسية للعدالة، لذلك شرعت منظمة «حوار أفريقيا» بجنوب أفريقيا في إنشاء أداة تصنيف باستخدام «التعلم الآلي» الذي يكتشف تلقائياً ما إذا كانت التغريدات تحتوي على «الإسلاموفوبيا» أم لا.

عنف لفظي

وقال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، إنه «تم تحقيق خطوات كبيرة في استخدام (التعلم الآل)» لتصنيف الكلام الذي يحض على الكراهية بشكل عام وبقوة وعلى نطاق واسع وفي الوقت المناسب... وعلى وجه الخصوص تم إحراز كثير من التقدم لتصنيف المحتوى استناداً إلى كونه أمراً يدعو إلى الكراهية أم لا».
لافتاً إلى أن من أهم مميزات أداة «التعلم الآلي» أنها ترصد درجات شدة خطاب الكراهية ضد الإسلام والمسلمين، وهو يشمل سلسلة متصلة من الهجوم اللفظي، وتحقير المسلمين وإهانتهم والدعوة لتجاهلهم... ومن ثم رصد شدة خطاب الكراهية بدءاً من كيف يُنظر إلى المسلمين على أنهم «مختلفون»؟، إلى القول إنهم ليسوا أعضاء شرعيين في المجتمع؛ فهو يتراوح بين العنف اللفظي والدعوة إلى عزل المسلمين عن المجتمع؛ وبهذا تتمكن الأداة من تصنيف ما إذا كان المحتوى معاديا للإسلام أم لا، وما إذا كان الخوف من الإسلام قوياً أم ضعيفاً.
محاصرة تغريدات الكراهية في أفريقيا باتت مهمة، خاصة أن تنظيم القاعدة الإرهابي يستغل الأوضاع المتردية في دول القارة كي يتغلغل وينتشر بين المجتمعات، كما أسس كثيرا من الخلايا النائمة في دول أخرى بشمال أفريقيا وجنوب الصحراء. وأعلن «تويتر» في نهاية 2017 عن قواعد جديدة صارمة لمراقبة المحتوى المنشور عليه، للتقليل من كمية السلوك المسيء والمثير للكراهية... وقرر حينها وقف حسابات الذين يرتبطون بمجموعات تحتفي بالعنف أو تستخدمه لتحقيق أهدافها بشكل دائم، وأخفى الرسوم التي تحض على الكراهية.
وعرف «تويتر» رسومات الكراهية على أنها «الشعارات، والرموز، والصور، التي تهدف لإثارة العداوات والكراهية على أسس عرقية أو دينية أو النوع أو على أساس التوجه الجنسي أو الأصل القومي».
ومحا «فيسبوك»، و«يوتيوب»، و«تويتر» في نهاية 2017 أي محتوى يحض على الكراهية في الفضاء الإلكتروني، للحد من انتشار الإرهاب ووقف الهجمات الإرهابية التي انتشرت في أوروبا... وبلغت نسبة محو «فيسبوك» لرسائل الكراهية بنحو 30 في المائة، و«يوتيوب» بنحو 26 في المائة، أما «تويتر» فجاء بنسبة 31.5 في المائة.

استخدام آمن

وأشار مرصد «الإسلاموفوبيا» في مصر في تقرير له إلى أن أداة «التعلم الآلي» عرّفت خطاب الكراهية المعادي للإسلام بأنه «أي محتوى يتم إنتاجه أو مشاركته يعبر عن السلبية ضد الإسلام أو المسلمين»... وبموجب هذا التعريف، فإن «الإسلاموفوبيا» القوية تتضمن عبارات مثل «كل المسلمين برابرة»، في حين أن كراهية الإسلام الضعيفة تتضمن تعبيرات أقل حدة، مثل «المسلمون يأكلون طعاماً غريباً». لافتاً إلى أن القدرة على التمييز بين كراهية الإسلام الضعيفة والقوية لن تساعد فقط على كشف الكراهية وإزالتها بشكل أفضل؛ لكن أيضاً تُمكن من فهم ديناميات كراهية الإسلام، والتحقيق في عمليات التطرف، حين يصبح الشخص أكثر فأكثر معاديا للإسلام، وتقديم دعم أفضل للضحايا.
وأكد مرصد «الإسلاموفوبيا» أن كشف خطاب الكراهية ضد الإسلام يمثل تحدياً حقيقياً وملحاً للحكومات وشركات التكنولوجيا والأكاديميين، وللأسف، فإن هذه المشكلة لن تختفي ولا توجد حلول بسيطة؛ لكن إذا كانت هناك رغبة جادة في إزالة خطاب الكراهية والتطرف من الفضاءات على الإنترنت، وجعل منصات التواصل الاجتماعي آمنة لجميع الذين يستخدمونها، فعندئذ نحتاج إلى البدء بالأدوات المناسبة... وتوضح أداة «التعلم الآلي» الجديدة أنه من الممكن تماماً إنشاء هذه الأدوات ليس فقط لاكتشاف المحتوى البغيض تلقائياً فحسب؛ بل أيضاً بطريقة دقيقة.
من جانبه، قال الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في الحركات الأصولية، إن «رسائل الكراهية على الشبكات الاجتماعية، تعمل بشكل كبير على نشر كراهية الإسلام، وأيضاً على كراهية الأجانب».
بينما أشار الدكتور محمد الضويني، عضو مركز الأزهر العالمي للرصد والفتوى الإلكترونية، إلى «ضرورة القضاء على أسباب التطرف من خلال قصر العمل الدعوي على المتخصصين، والتواصل مع الشباب، وفتح أبواب الحوار معهم لحمايتهم من الوقوع في براثن الجماعات المتطرفة، والتحصين المبكر للأطفال والناشئة، والرد على شبهات الجماعات المتطرفة».

توسعات «القاعدة»

وعن نشاط «القاعدة» في أفريقيا على حساب «داعش» مما يزيد خطاب الكراهية، أكد مراقبون أن تنظيم القاعدة يحاول الاستفادة القصوى من تراجع «داعش» واندحاره، من خلال تثبيت أقدامه في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي... ففي حين تفكك «داعش» وانحسر تأثيره في المنطقة، أقدم «القاعدة» على دمج كل من جماعة «أنصار الدين»، وجبهة «تحرير ماسينا»، و«إمارة منطقة الصحراء الكبرى»، وتنظيم «المرابطين» في جماعة هي «نصرة الإسلام والمسلمين» على يد إياد حاج غالي، الذي قدم البيعة لأيمن الظواهري.
وقال الدكتور إبراهيم نجم، إن «القاعدة» يسعى لبسط نفوذه في مناطق أفريقيا جنوب الصحراء وفق استراتيجية تستند إلى سعي التنظيم للتوسع في تحالفاته مع الجماعات المختلفة في المنطقة، والتي تنتهج آيديولوجيته وتتلاقى معه في المصالح والأهداف. مضيفاً: هدف تنظيم القاعدة أيضاً الضرب على وتر العرقية، حيث يحرص على الاحتفاظ بظهير عرقي يمثل مصدراً رئيسياً للعناصر الإرهابية التي يمكن أن تنضم إليه، كي يتخطى الخسائر التي يتعرض لها بسبب العمليات العسكرية ضده؛ مما يشكل تهديدات خطيرة لأمن واستقرار دول منطقة الساحل والصحراء، مما يضفي على الهجمات التي يشنها التنظيم طابعاً عرقياً... فضلاً عن أن التنظيم يحاول أن يرد على الهجمات التي تشن ضده بأساليب مختلفة وسريعة، خشية أن يؤثر عدم الرد على تماسكه الداخلي وإضعاف قدرته على التوسع في المنطقة، مما يدفعه إلى الاستعانة بأساليب منافسه اللدود (أي «داعش») باستخدام العمليات الانتحارية والدفع بالنساء لتفجير أنفسهن في الأسواق والتجمعات البشرية لزيادة الخسائر البشرية والمادية. بالإضافة إلى الاعتماد على الشباب، ومعظمهم غير معروفين ولديهم مهارة قتالية عالية، كما أن معظمهم من قاطني الصحراء، إضافة إلى أن تنظيم القاعدة يستعين بعناصره من الشباب للقيام بمهام «الذئاب المنفردة».

«الشباب» و«داعش»

في السياق نفسه، أكدت دراسة لدار الإفتاء المصرية أن «الصراع ما زال محتدماً بين تنظيمي القاعدة وداعش، وأنه في إطار هذا الصراع الدامي، تعهدت حركة الشباب الصومالية التابعة للقاعدة بمحو (داعش)، متهمة إياه بإثارة المشكلات (لبقية المجاهدين). ووصفت حركة الشباب مسلحي (داعش) مؤخراً بـ(السرطان) و(المرض المميت)، وأنها سوف تلاحق أي شخص على صلة بـ(داعش)».
وقالت في بيان أخير لها: «ما يطلق عليهم أعضاء (داعش) في الصومال أثاروا اضطرابات ومشكلات عدة لبقية المجاهدين - على حد وصفهم -، لا يقاتل أعضاء (داعش) من أجل الله؛ لكنهم هنا لتقسيم المسلمين»... ويعود تأسيس حركة «الشباب» الصومالية إلى عام 2004 غير أن كثافة نشاطها وتداول اسمها في الإعلام يعود إلى عام 2007.
وقالت دراسة الإفتاء إنه رغم انحسار تنظيم داعش وهزيمته في معاقله الأساسية في سوريا والعراق، فإنه يحرز تقدماً في الصومال؛ حيث باتت أعداد مقاتلي «داعش» في المناطق الصومالية كبيرة، وقام عناصره بتنفيذ سلسلة من عمليات القتل التي استهدفت رجال الأعمال في مقديشو العاصمة وما حولها. مشيرة إلى أن «داعش» في الصومال يحاكي تكتيك حركة «الشباب» لترهيب الشركات والتجار الأثرياء للحصول منهم على «إتاوات» لتمويل أنشطته الإرهابية في المنطقة.
من جهته، قال الزعفراني، إن حركة الشباب أعلنت مراراً ولاءها لتنظيم القاعدة... ويتبع عناصر حركة الشباب أساليب مشابهة لأساليب «القاعدة»، من حيث العبوات الناسفة على الطرق، أو السيارات المفخخة، والعمليات الانتحارية، والقصف المدفعي.


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.