في نهايات عام 1968 قام الجيش اللبناني بمحاصرة مخيم صبرا وشاتيلا في بيروت بالدبابات وقوات كثيفة، وأنذر المقيمين في المخيم بضرورة تسليم أسلحتهم قبل غروب اليوم نفسه، مهددا باقتحام المخيم لنزع هذا السلاح إذا لم يمتثل الفلسطينيون.
كنت في هذه الفترة مراسلا للإذاعة المصرية في لبنان، واتصل بي السفير المصري آنذاك إبراهيم صبري، وأبلغني أن الرئيس جمال عبد الناصر أرسل برقية غير مشفرة يطلب إبلاغها لرئيس الجمهورية اللبنانية شارل حلو، والبرقية تطلب، بعبارات أقرب ما تكون إلى الإنذار، ضرورة «فك الحصار المضروب على المخيم في موعد أقصاه مساء هذا اليوم».
وطلب مني السفير أن أتصل بالقيادات الفلسطينية وأطمئنهم حتى لا يبادروا بأي تحرك مستفز. وبالفعل قمت بالاتصال بالأستاذ شفيق الحوت رئيس مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وأبلغته بأمر البرقية وطلب السفير أن يمارس الفلسطينيون أقصى درجات ضبط النفس حتى لو تعرضوا لأي استفزاز.
قبل الغروب، سحب الجيش اللبناني دباباته وأبقى عددا من جنوده على مقربة من المخيم، واتصلت بعدد من الصحف اللبنانية وأبلغتها أن الأزمة قد انتهت. وفي صباح اليوم التالي عقد في القاهرة اجتماع لبناني - فلسطيني، تم فيه التوقيع على «اتفاق القاهرة» الذي ينظم العلاقة بين الفلسطينيين والسلطات اللبنانية.
هدأت الأمور لبضعة أشهر ثم بدأت المناوشات من جديد، هذه المرة بين بعض الأحزاب الرافضة للوجود الفلسطيني بلبنان، والفلسطينيين. وفي صباح أحد الأيام تم إطلاق خمسة صواريخ على مكتب منظمة التحرير بشارع المزرعة، فدمرت المكتب وأصيب عدد من العاملين. وصلت إلى هناك بعد فترة وجيزة من الهجوم لأجد شفيق الحوت وسط حشد من الصحافيين يجيب عن أسئلتهم مؤكدا أن الشباب تمكنوا من معرفة هوية من أطلقوا الصواريخ وأنهم ينتمون إلى أحد الكيانات الحزبية اللبنانية الناشطة آنذاك.
طلبت من الأستاذ شفيق أن نلتقي على انفراد. ناشدته أن يصحح تصريحه للصحافيين، ويركز اتهامه على المخابرات الإسرائيلية واستخدامها عملاء لبنانيين، دون تحديد هويتهم أو انتمائهم، تلافيا لحدوث أي اشتباكات بين الفلسطينيين وبعض القوى السياسية اللبنانية.
استجاب الأستاذ شفيق وسجلت له تصريحات بهذا المعنى، وأرسلتها إلى القاهرة، فأذيعت في الإذاعة المصرية. واتصلت بوكالة الأنباء الوطنية اللبنانية وأبلغتها الخبر بالصيغة المتفق عليها، وعممت بدورها الخبر.
في المساء اتصل بي السفير المصري ليبلغني أنه نقل إلى المسؤولين اللبنانيين تفاصيل ما جرى بيني وبين شفيق الحوت وأنهم ثمنوا هذا الجهد الذي جنب البلاد أزمة جديدة.
وأبلغني أن وزير الإعلام اللبناني آنذاك الأستاذ عثمان الدنا يقيم احتفالا محدودا بالوزارة لي، وفي الاحتفال تكرم رئيس الجمهورية اللبنانية بمنحي وسام الأرز بدرجة فارس، تقديرا لما رآه من جهد لمحاصرة الأزمات اللبنانية - الفلسطينية. وقام وزير الإعلام اللبناني بتقليدي الوسام.
لقد كنت، وما زلت، أعتقد أن ما فعلته آنذاك كان عملاً مهنيا وأخلاقيا، لأنني استطعت من خلاله أن أحول دون وقوع أضرار بالغة بالمصلحة الوطنية العليا، وخصوصاً أن ذلك حدث بدوافع ذاتية محضة، وليس من خلال إملاءات سلطوية.
واليوم، وبعد نصف قرن من هذه الوقائع، أجد نفسي منفتحاً لتلقي إجابات كثيرة ومختلفة عما إذا كان تصرفي بالتدخل في فحوى الأخبار وصياغتها بطريقة تخالف الواقع كان مقبولا، أم كان عملاً مخالفا للقواعد المهنية؟
* إذاعي وكاتب مصري