يقول الخبراء الأميركيون إن عشرات الشركات ترصد أماكن أصحاب الهواتف الذكية بهدف مساعدة المعلنين؛ بل وحتى مساعدة المؤسسات المالية. وتدعي أن هذا الرصد لا يتم بشكل شخصي موجه، أي إنه لا يتم التدقيق في الهوية؛ بل في أنماط السلوك.
تأملوا في جانب معهود من استخدام الهاتف الذكي لإحدى مدرّسات الرياضيات وهي ليزا ماغرين (46 عاماً) التي تقوم برحلة يومية منتظمة، تصطحب خلالها هاتفها الذكي معها؛ إذ جمع تطبيق موجود على هاتفها المعلومات حول مواقع وجودها، وتم بيعها لاحقاً دون معرفتها.
وقد كشفت قاعدة بيانات تضم أكثر من مليون هاتف في منطقة نيويورك اطلع عليها خبراء أميركيون، عن أن التطبيق سجل أماكن وجود السيدة كل نحو ثانيتين. صحيح أن هوية ماغرين لم تكن معلنة في هذه السجلات، ولكن الخبراء استطاعوا ربطها بسهولة بنقطة ظاهرة على الخريطة. وتظهر الخريطة على الهاتف عادة ملايين النقاط التي تشير إلى الطرق السريعة والأزقة وممرات الدراجات الهوائية، وكل واحدة منها تتبع مسار مستخدم هاتف جوال مجهول الهوية.
- تعقب ورصد
تعلم ماغرين ما يعلمه معظم الناس، وهو أن التطبيقات يمكنها تعقب تحركات الأشخاص. ولكن مع انتشار الهواتف الذكية وزيادة دقة التكنولوجيا، تتوسع تقنية التلصص على عادات الناس اليومية وتنمو لتصبح أكثر تطفلاً.
تسافر ليزا ماغرين يومياً وبشكل منتظم من منزلها إلى المدرسة التي تعمل فيها، وتم تسجيل موقعها أكثر من 800 مرة أثناء وجودها في صفها. كما تضمنت سجلاتها زيارة إلى عيادة الطبيب. وفي مراجعة أجراها الخبراء لبيانات سُجلت على مدار 4 أشهر، تم تسجيل موقع ماغرين أكثر من 8600 مرة، بمعدل مرة كل 21 دقيقة.
ووجد الخبراء أن 75 شركة على الأقل تلقت بيانات مواقع دقيقة من تطبيقات يشغل مستخدموها «خدمات الأماكن location services فيها لتلقي الأخبار المحلية والأحوال الجوية، وغيرها من المعلومات. يدعي كثير من هذه الشركات أنه يتعقب نحو 200 مليون جهاز جوال في الولايات المتحدة، أي نحو نصف عدد الأجهزة التي كانت تستخدم العام الماضي. إلا إن قاعدة البيانات التي اطلع عليها الخبراء، وهي عبارة عن عينة من المعلومات التي جمعت عام 2017 من قبل شركة واحدة، كشفت تنقلات الناس بتفصيل مذهل ودقيق في مسافة لا تتعدى بضعة أمتار، وفي بعض الأحيان، جرى تحديث بياناتها أكثر من 14 ألف مرة في اليوم.
تبيع هذه الشركات وتستخدم أو تحلل البيانات لتقدمها إلى المعلنين ومنافذ تجارة التجزئة وحتى المؤسسات المالية مثل «صناديق التحوط» التي تسعى إلى الاطلاع على سلوك المستهلكين. تزداد سخونة هذه السوق مع ارتفاع مبيعات الإعلانات التي تستهدف المكان الجغرافي إلى 21 مليارا هذا العام. دخلت شركة «آي بي إم» هذا المجال بشرائها تطبيقات «ذا ويذر تشانل»، وأعادت شبكة «فورسكوير» الاجتماعية تأسيس نفسها بوصفها شركة لتسويق بيانات الأماكن، ومن أبرز المستثمرين في مجال الشركات الناشئة العاملة في تجارة الأماكن «غولدمان ساكس» و«بيتر ثيل»، الشريك المؤسس في «باي بال».
- أنماط السلوك
تقول الشركات إن مصالحها تكمن في الأنماط التي تكشفها البيانات عن المستهلكين وليس في الهويات. ولفتت إلى أن المعلومات التي تجمعها التطبيقات ليس مرتبطة باسم شخص أو رقم هاتفه، بل بهوية مميزة. ولكن الشركات التي تستطيع الوصول إلى البيانات الخام؛ كالموظفين والزبائن، فيمكنها دائماً أن تحدد هوية شخص دون موافقته. يمكنها أيضاً أن تراقب شخصاً تعرفه، من خلال تحديد موقع هاتف شخص ثانٍ يمضي وقته باستمرار في عنوان منزل الهدف؛ أو، يمكنها العمل بشكل معكوس، من خلال ربط اسم بنقطة مجهولة الهوية، والاطلاع على الأماكن التي يمضي فيها الهاتف الليالي واستخدام السجلات العامة ومعرفة من يعيش هناك.
تقول الشركات المختصة بالأماكن إنه حين يشغل المستخدمون «خدمات تحديد الموقع»، تصبح بياناتهم سهلة الاستهداف. ولكن الخبراء وجدوا أن الشروحات التي يتلقاها الناس عندما يتم حثهم على منح الإذن بتحديد أماكنهم ناقصة أو مضللة. وقد يَعد تطبيق ما المستخدمين بأن منح الإذن بالوصول إلى موقعهم قد يساعدهم في الحصول على معلومات حول حالة السير، ولكنه لا يعلمهم بأن هذه البيانات ستُشارك وتُباع. هذا الاعتراف يتم غالباً إخفاؤه في سياسة خصوصية فضفاضة.
وقال السيناتور الديمقراطي عن ولاية أوريغون رون وايدن حديثا، وهو الذي قدم اقتراح قانون للحد من جمع وبيع هذه البيانات التي لا تخضع لتنظيم أي قوانين في الولايات المتحدة: «تكشف معلومات الموقع بعضاً من أكثر المعلومات حميمية عن حياة الإنسان، كزيارات الطبيب والاجتماعات المهنية، وحتى هوية الشريك الحميم». ويضيف: «لا يمكننا أن نبقي المستهلكين غافلين عن كيفية بيع ومشاركة بياناتهم، وتركهم عاجزين عن القيام بأي شيء حيالها».
- أجهزة مراقبة متحركة
بدأ قطاع تحديد الأماكن عبر الهاتف كوسيلة لإضفاء طابع شخصي على التطبيقات والإعلانات المستهدفة للشركات القريبة، ولكن الأمر تطور ليتحول إلى عملية جمع بيانات وآلة للتحليل.
يسعى تجار التجزئة إلى الشركات التي تتعقب الزبائن للحصول على معلومات عنهم، ومعلومات عن التجار المنافسين لهم. تقول إيلينا غرينستاين، المسؤولة التنفيذية في شركة تحديد الأماكن «غراوند تروث»: «نسعى لفهم طبيعة الشخص من خلال الأماكن التي زارها والأماكن التي سيزورها، بهدف التأثير على ما سيقوم به في المستقبل».
تستطيع الشركات المالية استخدام هذه المعلومات لاتخاذ قرارات تتعلق بالاستثمار. وتعد منشآت العناية الصحية من أكثر المجالات الجذابة للتعقب، ولكنها في الوقت نفسه تشكل مصدراً للمتاعب. وقد أظهرت تحليلات الخبراء أن السجون والمدارس والقواعد العسكرية ومصانع الطاقة النووية، وحتى أمكان حدوث الجرائم، كانت في باقات البيانات التي حصلت عليها تطبيقات الرصد.
وكشفت شركة «مايتي سيغنال» للتحليلات في تقريرها لعام 2018 أن أكثر من ألف تطبيق شعبي تحتوي على برمجيات لمشاركة موقع الهاتف مع الشركات. وتبين أيضاً أن نظام «آندرويد» من «غوغل» يضم نحو 1200 تطبيق تحمل برمجيات مماثلة، مقابل 200 تطبيق في نظام «آي أو إس» iOS من «آبل».
أما الشركة الأكثر إنتاجاً فكانت «ريفيل موبايل» ومقرها كارولاينا الشمالية. تملك هذه الشركة برمجية لجمع بيانات الموقع في 500 تطبيق، غالبيتها مختصة بنشر الأخبار المحلية. وقال متحدث باسم «ريفيل» إن شعبية هذا الرمز أظهرت أنه ساعد مطوري التطبيقات في تحقيق مكاسب الإعلانات وحصول المستهلكين على خدمات مجانية.
ولتقييم ممارسات مشاركة المواقع، دقق الخبراء في 20 تطبيقاً رجح باحثون من قلب هذا المجال أن معظمها يشارك بياناته. وفي النتائج، تبين أن 17 منها يرسل البيانات نفسها لنحو 70 شركة. ويعد «ويذر باغ» WeatherBug لأخبار الطقس على «آي أو إس» iOS، أحد هذه التطبيقات، وقد شارك البيانات نفسها مع 40 شركة تقريباً.
- جني الأرباح
إن هذه التطبيقات تشكل عصب الاقتصاد الجديد المبني على بيانات الموقع. ويستطيع مطورو التطبيقات جني المال من خلال بيع البيانات بشكل مباشر، أو من خلال مشاركتها عبر الإعلانات التي تفرض بدلاً مالياً في المقابل. وكشفت رسائل عرض تابعة لمطوري التطبيقات أن شركات بيانات الموقع تدفع بين نصف سنت وسنتين للمستخدم في الشهر.
وتعد الإعلانات المستهدفة الاستخدام الأكثر شيوعاً للبيانات حتى اليوم. تتحكم شركتا «غوغل» و«فيسبوك»، اللتان تسيطران على سوق الإعلانات المتنقلة، بالإعلانات التي تعتمد على الموقع أيضاً. تجمع الشركتان البيانات من تطبيقيهما، وتزعمان أنهما لا تبيعان البيانات؛ بل تحتفظان بها لهما لإضفاء طابع شخصي على خدماتهما، وللإعلانات التي تستهدف الترويج عبر الإنترنت، ومعرفة ما إذا كانت الإعلانات تساهم في زيادة مبيعات المتاجر التقليدية. وكشفت «غوغل»، التي تتلقى معلومات مواقع محددة من تطبيقات تستخدم الخدمات الإعلانية، أنها عدلت تلك البيانات للتقليل من دقتها.
أما الشركات الصغيرة، فتتنافس على ما تبقى من السوق وتعمل في بيع البيانات والتحليلات للمؤسسات المالية. عدّت شركة «أوبيماس» للأبحاث السوقية أن هذا القسم من الصناعة صغير ولكنه يشهد نمواً، ومن المتوقع أن تصل قيمته إلى 250 مليونا في السنة بحلول 2020.
قد تفرض مصلحة «آبل» و«غوغل» التجارية عليهما الحفاظ على رضى المطورين، ولكن كلتيهما اتخذت الخطوات اللازمة للحد من جمع بيانات الموقع. فوفقاً لآخر تحديثات «آندرويد»، تعمل التطبيقات غير المستخدمة على جمع البيانات «مرات قليلة في الساعة الواحدة»، بدل جمعها بشكل متواصل.
أما «آبل»، فأبدت صرامة أكبر، وفرضت على التطبيقات تبرير تفاصيل جمع البيانات في رسائل تعرضها للمستخدم. ولكن تعليمات «آبل» لكتابة هذه الرسائل لا تذكر تسويق أو بيع البيانات، بل أموراً أخرى كالحصول على «أوقات التنقل المقدرة». وكشف متحدث باسم الشركة عن أن «آبل» تسمح للمطورين باستخدام البيانات لتقديم الخدمة المتصلة مباشرة بالتطبيق، أو لخدمات الإعلانات التي تلبي شروط «آبل» فقط.