العيد على الطريقة الإسبانية

شتان ما بين الاحتفالات في عهد فرانكو واليوم

العيد على الطريقة الإسبانية
TT

العيد على الطريقة الإسبانية

العيد على الطريقة الإسبانية

أوّل عهدي بإسبانيا تزامن مع الفترة التي كان نظام الجنرال فرانكو يلفظ أنفاسه الأخيرة أوساط سبعينات القرن الماضي. يومها كانت الاحتفالات بعيد الميلاد ورأس السنة على درجة لافتة من التقشـّف الذي يذكّرك بأجواء البلدان التي كانت تعيش تحت الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، والتي كان الجنرال يضمر لها شديد العداء. وكانت محطات الإذاعة وقناة التلفزيون الوحيدة يومذاك تبثّ الموسيقى الكلاسيكية والترانيم الدينية خلال فترة العيد التي كان يلتئم فيها شمل العائلات حول مائدة العشاء ليلة الرابع والعشرين من ديسمبر (كانون الأول)، لكن من غير التبادل المعهود للهدايا بانتظار السادس من الشهر التالي الذي يصادف عيد الملوك المجوس الذين اهتدوا بالنجم قاصدين بيت لحم في الجليل لتقديم البخور والعنبر لعيسى بن مريم.
لكن الناظر إلى إسبانيا اليوم تبدو له تلك الأجواء مشاهد من الماضي السحيق عندما يعاين الصخب الذي تعيشه المدن الإسبانية خلال هذه الفترة والبذخ المفرط الذي وكأنه تعويض عن سنوات القلّة التي عاشها الإسبان بعد الحرب الأهلية التي حصدت مليون قتيل وأنهكت الاقتصاد وأوصدت أبواب العالم في وجه نظام فرانكو.
جرت العادة أن يكون الديك الرومي المحشي بالجوز واللوز والكستناء والزبيب هو سيّد المائدة في عشاء الميلاد العائلي بامتياز، تمهّد له أطباق خفيفة من الحساء والخضار المسلوقة، ويعقبه مهرجان من الحلوى التقليدية التي تنفرد بها المناطق الإسبانية ويتربّع على عرشها المَلْبَن Turron الذي يعود في أصله إلى الحلويات العربية التي اشتهرت بها منطقة آليكانتي على الساحل المتوسطي إبان العهد الإسلامي في الأندلس.
اللوز والعسل والبيض هي قوام الملبن التقليدي الذي تنوّعت أصنافه وألوانه ونكهاته حتى باتت لا تحصى، وذهب كبار الطهاة والحلوانيين في التفنن بصناعته مذاهب شتّى كادت تجعل من التعرّف عليه مهمّة لا يفلح فيها سوى العارفين.
لكن السنوات الأخيرة شهدت تغييرات كثيرة على مائدة ليلة الميلاد أقصت الديك الرومي إلى مرتبة هامشيّة لم تعد تواظب على تكريمه سوى العائلات المتمسكة بالتقاليد القديمة، وفرشت السماط لأطباق اللحوم الأعلى شأناً والأسماك والمحار التي تعتبر إسبانيا قوتها العظمى في أوروبا، والتي تبلغ أسعارها مستويات قياسية خلال هذه الفترة، ما يدفع كثيرين إلى شرائها وتجميدها قبل الأعياد رأفة بالموازنات العائلية التي تخرج عن عقالها في نهاية كل عام.
ومن الطقوس التي أصبحت راسخة في التقاليد الإسبانية ليلة الميلاد مع عودة النظام الملكي في العام 1975 الرسالة المتلفزة التي يوجهها الملك مستعرضاً أحداث العام الذي يوشك أن ينقضي ومستشرفاً آفاق العام الجديد وتحدياته، والتي تبثّها جميع أقنية التلفزيون قبيل موعد العشاء.
أما عشاء رأس السنة فهو لا يخضع لأي ضوابط أو طقوس وعادات تقليدية سوى واحدة تنفرد بها إسبانيا بين كل البلدان، ولا يتخلّف أحد عن الالتزام بها والتقيّد الصارم بقواعدها مهما كلّف الأمر. إنها عادة أكل، أو بَلْع، حبّات العنب الاثنتي عشرة على وقع دقّات ساعة منتصف الليل التي تنقلها قنوات التلفزيون مباشرة من وسط العاصمة مدريد أمام برج مبنى البلدية القديم في ميدان «باب الشمس» الذي يكتظّ بآلاف المحتفلين قبل انتصاف الليلة الأخيرة من السنة بساعات. وتقضي الطقوس أن تُشفَع كلُّ حبـّة عنب تُبلَعُ مع كل دقّة ساعة بأمنية يُرجى أن تتحقق في العام الجديد، على افتراض أن طالبها سيتذكرها في اليوم التالي.
تتنوّع الأطباق الرئيسية في عشاء ليلة رأس السنة بين الأسماك واللحوم، لكن لحم صغار الضأن المشويّة في الفرن مع شرائح البطاطس المشبعة بزيت الزيتون والبصل والبقدونس والثوم، يحظى بأفضلية واضحة لما يحمل من سعرات حرارية تساعد على الصمود في وجه ساعات البرد الطويلة من الليلة الأخيرة من العام التي تبدأ عند انتصافها. أما الذين يبزغ الضحى عليهم قبل المنام، فيستعيدون بعض النشاط حول قرون الزلابية المغمّسة بالشوكولا الساخنة التي تقدّمها بعض المقاهي التي تفتح أبوابها مع ساعات الفجر الأولى.
وما إن يفتح العام الجديد أولى صفحاته حتى تكرّ سبحة الوعود القاطعة والتعهد بالانضباط والتقشّف والحِمية الصارمة تكفيراً عن مآثم النهم ومعاصي الأفراط في الطعام والاستسلام لمغريات المائدة. لكن ثمّة موعداً آخر ينتظر البطون التائبة ليضعها على محكّ الاختبار ليلة الاحتفال بعيد الملوك المجوس التي اعتاد الإسبان خلاله تبادل الهدايا التي يتداولها الآخرون ليلة الميلاد، والاحتفال به حول كعكة فاخرة محفوفة بما عجزت عنه الأيام الماضية من حلويات وسكاكر وفواكه مجففة.
أعادها المولى على الجميع سنة مباركة بالبطون الخاوية والعيون الملآنة.


مقالات ذات صلة

تخطي وجبة الإفطار في الخمسينات من العمر قد يسبب زيادة الوزن

صحتك تناول وجبة إفطار متوازنة ودسمة يساعد على إدارة السعرات الحرارية اليومية (رويترز)

تخطي وجبة الإفطار في الخمسينات من العمر قد يسبب زيادة الوزن

أظهرت دراسة حديثة أن تخطي وجبة الإفطار في منتصف العمر قد يجعلك أكثر بدانةً، ويؤثر سلباً على صحتك، وفقاً لصحيفة «التليغراف».

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق رهاب الموز قد يسبب أعراضاً خطيرة مثل القلق والغثيان (رويترز)

وزيرة سويدية تعاني «رهاب الموز»... وموظفوها يفحصون خلو الغرف من الفاكهة

كشفت تقارير أن رهاب وزيرة سويدية من الموز دفع المسؤولين إلى الإصرار على أن تكون الغرف خالية من الفاكهة قبل أي اجتماع أو زيارة.

«الشرق الأوسط» (ستوكهولم)
صحتك رجل يشتري الطعام في إحدى الأسواق الشعبية في بانكوك (إ.ب.أ)

دراسة: 3 خلايا عصبية فقط قد تدفعك إلى تناول الطعام

اكتشف باحثون أميركيون دائرة دماغية بسيطة بشكل مذهل تتكوّن من ثلاثة أنواع فقط من الخلايا العصبية تتحكم في حركات المضغ لدى الفئران.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق خبراء ينصحون بتجنب الوجبات المالحة والدهنية في مبنى المطار (رويترز)

حتى في الدرجة الأولى... لماذا يجب عليك الامتناع عن تناول الطعام على متن الطائرات؟

كشف مدرب لياقة بدنية مؤخراً أنه لا يتناول الطعام مطلقاً على متن الطائرات، حتى إذا جلس في قسم الدرجة الأولى.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق قطع من الجبن عُثر عليها ملفوفة حول رقبة امرأة (معهد الآثار الثقافية في شينغيانغ)

الأقدم في العالم... باحثون يكتشفون جبناً يعود إلى 3600 عام في مقبرة صينية

اكتشف العلماء أخيراً أقدم قطعة جبن في العالم، وُجدت ملقاة حول رقبة مومياء.

«الشرق الأوسط» (بكين)

حزن في مصر لرحيل «القبطان» نبيل الحلفاوي... رجل «الأدوار الوطنية»

نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)
نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)
TT

حزن في مصر لرحيل «القبطان» نبيل الحلفاوي... رجل «الأدوار الوطنية»

نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)
نبيل الحلفاوي في لقطة من مسلسل «رأفت الهجان» (يوتيوب)

سادت حالة من الحزن في الوسطين الفني والرسمي المصري، إثر الإعلان عن وفاة الفنان نبيل الحلفاوي، ظهر الأحد، عن عمر ناهز 77 عاماً، بعد مسيرة فنية حافلة، قدّم خلالها كثيراً من الأدوار المميزة في الدراما التلفزيونية والسينما.

وكان الحلفاوي قد نُقل إلى غرفة العناية المركزة في أحد المستشفيات، الثلاثاء الماضي، إثر تعرضه لوعكة صحية مفاجئة، وهو ما أشعل حالة من الدّعم والتضامن معه، عبر جميع منصات التواصل الاجتماعي.

ونعى رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي الفنان الراحل، وقال في بيان: «كان الفقيد قامة فنية شامخة؛ إذ قدّم عبر سنوات إبداعه الطويلة أعمالاً فنية جادة، وساهم في تجسيد بطولات وطنية عظيمة، وتخليد شخوص مصرية حقيقية خالصة، وتظلّ أعماله ماثلة في وجدان المُشاهد المصري والعربي».

الفنان الراحل نبيل الحلفاوي (حسابه على «إكس»)

وعبّر عددٌ من الفنانين والمشاهير عن صدمتهم من رحيل الحلفاوي. منهم الفنانة بشرى: «سنفتقدك جداً أيها المحترم المثقف الأستاذ»، مضيفة في منشور عبر «إنستغرام»: «هتوحشنا مواقفك اللي هتفضل محفورة في الذاكرة والتاريخ، الوداع لرجل نادرٍ في هذا الزمان».

وكتبت الفنانة حنان مطاوع: «رحل واحدٌ من أحب وأغلى الناس على قلبي، ربنا يرحمه ويصبّر قلب خالد ووليد وكل محبيه»، مرفقة التعليق بصورة تجمعها به عبر صفحتها على «إنستغرام».

الراحل مع أحفاده (حسابه على «إكس»)

وعدّ الناقد الفني طارق الشناوي الفنان الراحل بأنه «استعاد حضوره المكثف لدى الأجيال الجديدة من خلال منصات التواصل الاجتماعي، حيث اعتاد أن يتصدّر الترند في الكرة والسياسة والفن»، مشيراً في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الحلفاوي رغم موهبته اللافتة المدهشة وتربيته الفنية الرّاسخة من خلال المعهد العالي للفنون المسرحية، لم يُحقّق نجوميةَ الصف الأول أو البطل المطلق».

وعبر منصة «إكس»، علّق الإعلامي اللبناني نيشان قائلاً: «وداعاً للقدير نبيل الحلفاوي. أثرى الشاشة برقِي ودمَغ في قلوبنا. فقدنا قامة فنية مصرية عربية عظيمة».

ووصف الناقد الفني محمد عبد الرحمن الفنان الراحل بأنه «صاحب بصمة خاصة، عنوانها (السهل الممتنع) عبر أدوار أيقونية عدّة، خصوصاً على مستوى المسلسلات التلفزيونية التي برع في كثير منها»، لافتاً في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «السينما خسرت الحلفاوي ولم تستفِد من موهبته الفذّة إلا في أعمال قليلة، أبرزها فيلم (الطريق إلى إيلات)».

حنان مطاوع مع الحلفاوي (حسابها على «إنستغرام»)

وُلد نبيل الحلفاوي في حي السيدة زينب الشعبي عام 1947، وفور تخرجه في كلية التجارة التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي تخرج فيه عام 1970، ومن ثَمّ اتجه لاحقاً إلى التلفزيون، وقدّم أول أعماله من خلال المسلسل الديني الشهير «لا إله إلا الله» عام 1980.

ومن أبرز أعمال الحلفاوي «رأفت الهجان» عام 1990 الذي اشتهر فيه بشخصية ضابط المخابرات المصري «نديم قلب الأسد» التي جسدها بأداءٍ يجمع بين النبرة الهادئة والصّرامة والجدية المخيفة، بجانب مسلسل «غوايش» و«الزيني بركات» 1995، و«زيزينيا» 1997، و«دهشة» 2014، و«ونوس» 2016.

مع الراحل سعد أردش (حسابه على «إكس»)

وتُعدّ تجربته في فيلم «الطريق إلى إيلات» إنتاج 1994 الأشهر في مسيرته السينمائية، التي جسّد فيها دور قبطانٍ بحريّ في الجيش المصري «العقيد محمود» إبان «حرب الاستنزاف» بين مصر وإسرائيل.

وبسبب شهرة هذا الدور، أطلق عليه كثيرون لقب «قبطان تويتر» نظراً لنشاطه المكثف عبر موقع «إكس»، الذي عوّض غيابه عن الأضواء في السنوات الأخيرة، وتميّز فيه بدفاعه المستميت عن النادي الأهلي المصري، حتى إن البعض أطلق عليه «كبير مشجعي الأهلاوية».

نبيل الحلفاوي (حسابه على «إكس»)

ووفق الناقد محمود عبد الشكور، فإن «مسيرة الحلفاوي اتّسمت بالجمع بين الموهبة والثقافة، مع دقة الاختيارات، وعدم اللهاث وراءَ أي دور لمجرد وجوده، وهو ما جعله يتميّز في الأدوار الوطنية وأدوار الشّر على حد سواء»، مشيراً في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «لم يَنل ما يستحق على مستوى التكريم الرسمي، لكن رصيده من المحبة في قلوب الملايين من جميع الأجيال ومن المحيط إلى الخليج هو التعويض الأجمل عن التكريم الرسمي»، وفق تعبيره.