جاكوب ريس ـ موغ... النسخة البريطانية لـ«جيل الشباب» الشعبوي اليميني في الغرب

كاثوليكي أرستقراطي ثري وابن أحد رموز «عصر فليت ستريت الذهبي»

جاكوب ريس ـ موغ... النسخة البريطانية  لـ«جيل الشباب» الشعبوي اليميني في الغرب
TT

جاكوب ريس ـ موغ... النسخة البريطانية لـ«جيل الشباب» الشعبوي اليميني في الغرب

جاكوب ريس ـ موغ... النسخة البريطانية  لـ«جيل الشباب» الشعبوي اليميني في الغرب

مع أن جاكوب ريس - موغ لا يشغل حالياً أي منصب سياسي باستثناء شغله أحد مقاعد مجلس العموم البريطاني عن حزب المحافظين الحاكم، فإن كثيراً من المتابعين ينظرون إليه على أنه ظاهرة فعالة ومؤثرة في سياسات الحزب، وأحد أقوى زعماء التيار اليميني المتشدد داخل الحزب. وما يزيد في أهمية ريس - موغ أن جرأته في طرح مواقفه المحافظة المتشدّدة، لا سيما في شأن خروج بريطانيا من أسرة الاتحاد الأوروبي وموضوع الهجرة، تضعه ضمن كوكبة من الساسة الأوروبيين الذين خدمتهم الشعبوية السياسية بالتوازي مع فوز دونالد ترمب بانتخابات الرئاسة الأميركية، ونجاح تياره السياسي في فرض مواقفه نفسها على الحزب الجمهوري. الجدير بالذكر أنه كان هناك انطباع في أميركا بأن «المؤسسة الحزبية» التقليدية للجمهوريين يستحيل أن تنقلب على نفسها، وتتبنى ترشيح ملياردير لم يسبق له انتخابه لأي منصب سياسي في البلاد. اليوم، ريس - موغ ينتمي إلى جيل جديد من الساسة اليمينيين الشعبويين، الذين يبرزون باطراد في عدد من دول أوروبا، كما حصل في النمسا وإيطاليا... وقبلهما في المجر، وربما في ألمانيا أيضاً في حال تمكن وزير الصحة ينس شبان من تحسين وضعه الحالي المتخلف في المنافسة المحتدمة على زعامة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وخلافة المستشارة أنجيلا ميركل.

العلاقة الجدلية بين بريطانيا وأسرة الاتحاد الأوروبي، خصوصاً، وسياسات لندن على المسرح الدولي بصفة عامة، سلّطت الضوء خلال السنوات القليلة الماضية على وجوه سياسية راديكالية وطموحة.
هذه الوجوه برزت على حد سواءً في معسكري اليمين واليسار، ولكن إذا كان القيادي الراديكالي اليساري جيرمي كوربن - وهو أحد الأكبر سناً بينهم - قد نجح في الظفر بزعامة حزب العمال، فإن راديكاليي اليمين أخفقوا حتى الآن في انتزاع زعامة حزب المحافظين. وهذا، مع أنهم ما زالوا ناشطين في معركة نفوذ وتصفية حسابات يخوضونها ضد التيار المعتدل في الحزب الذي جاء منه كل من رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون و«خليفته» رئيسة الوزراء الحالية تيريزا ماي.
الاستفتاء الخاص بخروج بريطانيا كان محطة حاسمة في تاريخ البلاد الحديث، وأسهم بصورة كبيرة في إعادة رسم ملامح المعادلات والمطالب وصراع الهويات والمصالح في البلاد. ومع أن كثيرين رأوا في الكاتب الصحافي ووزير الخارجية السابق بوريس جونسون وزميله الكاتب الصحافي والوزير الحالي مايكل غوف «اللاعبين» الرئيسيين في معسكر اليمين المحافظ المتحمس للخروج من أوروبا، فإن جاكوب ريس - موغ كان الشخصية التي لا يستطيع أحد تجاهلها، على الرغم من مواقفها المثيرة للجدل حتى داخل هذا المعسكر.
على الأقل، كان هذا هو الانطباع قبل بضعة أسابيع. إلا أن ريس - موغ يبدو اليوم ظاهرة من العبث ألا يحسب حسابها، لا سيما مع تزايد تهديد اليمينيين الشعبويين المتشدّدين لهيمنة الأحزاب المحافظة والليبرالية التقليدية في الساحات السياسية في أوروبا خصوصاً، ناهيك بالقارة الأميركية حيث يحكم اليمينيون أكبر دولتين في «العالم الجديد»؛ الولايات المتحدة الأميركية والبرازيل.

بطاقة هوية

ولد جاكوب ويليام ريس - موغ يوم 24 مايو (أيار) 1969 في حي همرسميث بغرب العاصمة البريطانية لندن. أبوه ويليام ريس - موغ رئيس تحرير صحيفة «التايمز» وعضو مجلس اللوردات لاحقاً، وهو من عائلة كاثوليكية ومعروفة بميولها السياسية المحافظة. أما أمه جيليان موريس، فهي ابنة سياسي محافظ سبق له أن كان عمدة حي سانت بانكراس بلندن. جاكوب، هو الابن الرابع للعائلة بين 5 أولاد (3 بنات وولدان)، ووحدها شقيقته أنونزياتا تصغره سناً.
العائلة كانت امتلكت منزلاً ريفياً بمقاطعة سومرست بجنوب غربي إنجلترا عام 1964، وكان جاكوب الصغير جزءاً من ذلك المجتمع الريفي المسيحي المحافظ، يواظب على حضور قداس الأحد. وبعد ذلك انتقلت إلى منزل أكبر في قرية قريبة، ما زال يقيم فيه، مقسماً وقته بينه وبين بيته اللندني. أنهى جاكوب تعليمه المتوسط والثانوي في كلية إيتون، إحدى أعرق مدارس بريطانيا والعالم، ثم التحق بجامعة أكسفورد (كلية ترينيتي) المرموقة حيث درس التاريخ، ونشط في تنظيم الطلبة المحافظين، فاختير رئيساً لرابطة حزب المحافظين في الجامعة. وبعد التخرّج من أكسفورد عام 1991، انطلق جاكوب نحو عالم المال والأعمال الذي كان قد أولع به في سن صغيرة عندما تعرف إلى قيمة المال والاستثمار لأول مرة في سن العاشرة. وكانت محطته الوظيفية الأولى العمل في بنك روتشيلد للاستثمار، ولكنه انتقل عام 1993 إلى شركة لويد جورج ماناجمنت للإدارة المالية في هونغ كونغ. وإبان عمله في هونغ كونغ التقى هناك بحاكمها السابق - قبل إعادتها إلى الصين - كريس باتن، وهو سياسي محافظ بارز سابقاً ونشأت بينهما صداقة. ثم في عام 2003، عاد إلى لندن للعمل في قسم الأسواق الناشئة في الشركة، وظل يعمل فيه حتى عام 2007 عندما انتقل مع بعض زملائه لتأسيس شركة إدارة مالية خاصة بهم أطلقوا عليها اسم سومرست كابيتال ماناجمنت. وراهناً تقدر ثروته الشخصية - مع زوجته - ما بين 50 و150 مليون جنيه إسترليني.

دخول عالم السياسة

في عام 1997 خطا جاكوب ريس - موغ، في سن السادسة العشرين، خطواته الأولى في عالم السياسة عندما رشّحه حزب المحافظين للمنافسة على مقعد في دائرة سنترال فايف، باسكوتلندا، وهي دائرة من الحصون المضمونة لحزب العمال. وكما كان متوقعاً سقط في تلك الانتخابات التي حقق فيها حزب العمال انتصاراً انتخابياً كاسحاً على مستوى البلاد كلها، وحمل زعيمه توني بلير إلى منصب رئاسة الحكومة... منهياً 18 سنة من حكم المحافظين بلا انقطاع.
وكانت المحاولة الثانية لدخول البرلمان في الانتخابات العامة التالية عام 2001، وهذه المرة رشحه حزبه في دائرة ذي ريكن، بغرب وسط إنجلترا قرب حدود ويلز، غير أنه خسر مجدداً أمام نائب الدائرة العمالي بيتر برادلي. لكن هذه الهزيمة لم تفت في عضده، بل نجح في أن يصبح بين عامي 2005 و2008 رئيس رابطة حزب المحافظين في لندن وويستمنستر.

عضوية البرلمان

وأخيراً، بعد المحاولتين الفاشلتين، ضمن ريس - موغ ترشيح حزبه له في دائرة مضمونة للمحافظين، بجانب كونها في مقاطعة سومرست حيث بيته الريفي. وبالفعل في عام 2010 خاض وربح معركة المقعد النيابي لدائرة شمال شرقي سومرست. واحتفظ بالمقعد في انتخابات عامي 2015 و2017.
آيديولوجياً. وكما سبقت الإشارة، يعتبر ريس - موغ في أقصى يمين حزب المحافظين، وهو عضو في جماعة «كورنرستون غروب» الحزبية ذات التوجهات التقليدية المتشددة قومياً واليمينية المحافظة اقتصادياً.
وهذا الموقع الآيديولوجي الصريح جعله أحد الساسة المحافظين الأكثر تمرداً على النهج التوافقي المعتدل لرئيس الوزراء المحافظ السابق ديفيد كاميرون، والأكثر إزعاجاً له. ولقد عارض حكومة كاميرون في عدد من سياساتها من زواج المثليين إلى التدخل العسكري في سوريا. كذلك عرف عنه إتقانه تعمد الإرباك وإضاعة الوقت بالخطب الطويلة والمداخلات اللجوجة، واللماحة والظريفة غالباً.
في موضوع خروج بريطانيا من أسرة الاتحاد الأوروبي، كان ريس - موغ ليس فقط من كبار مؤيدي الخروج، بل والتحالف من أجل هذا الهدف مع «حزب استقلال المملكة المتحدة» الذي جعل مغادرة أوروبا محور وجوده.
وفي هذا السياق، يجدر التذكير بأن كاميرون كان من دعاة البقاء داخل أسرة الاتحاد، لكنه في ضوء ارتفاع شعبية «حزب استقلال المملكة المتحدة» في استطلاعات الرأي، وخشيته من التسبب بشق حزب المحافظين، تعهد بإجراء استفتاء شعبي على الخروج... مع أنه كان مضطراً لذلك. وكانت، النتيجة أن تيار الخروج ربح الجولة، فاستقال كاميرون، وورثت رئيسة الوزراء الحالية تيريزا ماي الأزمة بكل تعقيداتها وتداعياتها.
جاكوب ريس - موغ لم يكتفِ في ذلك الاستفتاء الذي أجري عام 2016 بأن شارك بحماسة وانتظام في الحملات الشعبية - رغم مظهره النخبوي وتصرفاته الأرستقراطية - في الشارع والميادين العامة، بل انضم لاحقاً إلى جماعة الضغط المتشددة التي أطلقت على نفسها اسم «الخروج يعني الخروج»، وأيضاً «المجموعة الأوروبية للأبحاث» المناصرة للخروج والمناوئة للتكامل الأوروبي.
وبما يخص ميوله القومية المتشددة، تشير الصحافة البريطانية إلى مناسبات كثيرة صدرت فيها عن ريس - موغ مواقف مثيرة للجدل، كما صدرت عنه تصريحات تدل على نمط تفكيره «الرجعي» الذي يقلق كثيرين من الليبراليين واليساريين، بل حتى المحافظين المعتدلين. ومنها، على سبيل المثال، أنه انتقد ديفيد كاميرون، عندما كان كاميرون زعيماً لحزب المحافظين، لأنه كان يسعى إلى زيادة لرفع نسبة الأقليات العرقية في قوائم ترشيحات الحزب للانتخابات، وكانت حجة ريس - موغ أن اعتماد حصة ثابتة للأقليات العرقية «سيعقد اختيار المرشحين الأكثر أهلية من الناحية الفكرية والثقافية»، وأن «95 في المائة من البريطانيين من البيض، ولا يجوز أن تختلف تركيبة قوائم المرشحين عن حقيقة نسيج البلاد ككل».
أيضاً في مايو 2013، شارك وألقى خطاباً في حفل العشاء السنوي لـ«مجموعة بريطانيا التقليدية» اليمينية المتطرفة التي تدعو إلى إعادة غير البيض من البريطانيين إلى بلدانهم الأصلية. واللافت أنه بعد ذلك العشاء، قال إنه على الرغم من تلقيه معلومات عن توجهات «المجموعة» وأفكارها قبل أن يشارك، فإنه شارك لكنه «ليس عضواً فيها وليس مؤيداً لها».

بعد استقالة كاميرون

نتيجة استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي التي أدت إلى استقالة كاميرون، فتحت الباب على مصراعيه أمام التيار الحزبي المناوئ لأوروبا كي يستقوي بذريعة «الخيار الديمقراطي» لتسريع إنجاز الخروج. ولدى فتح باب التنافس لخلافة كاميرون على زعامة الحزب، وبالتالي، رئاسة الحكومة، أعلن جاكوب ريس - موغ في البداية تأييده ترشيح وزير الخارجية السابق بوريس جونسون، ولكن عندما اختار جونسون أن يعزف عن الترشح حوّل تأييده لمرشح آخر من معسكر «الخروج» هو مايكل غوف. ثم، عندما خرج غوف من حلبة المنافسة، أيد الوزيرة آندريا ليدسون (من المعسكر نفسه) وكانت المنافسة الأخيرة لتيريزا ماي، قبل أن تقرر بدورها الانسحاب أمام ماي.
غير أن صعود ريس - موغ داخلياً في بريطانيا، يستحق أن ينظر إليه في سياق آخر، يتصل بالمتغيرات الدولية.
وكلها حتى اللحظة تسير لمصلحة صعوده السياسي. إذ إنه يبرز بين المرشحين المستقبليين لزعامة حزب المحافظين في الفترة التي ترتفع فيها أسهم اليمين الشعبوي في أماكن كثيرة من أوروبا، وكذلك في الولايات المتحدة.
وحقاً، عرف عن جاكوب ريس - موغ أنه لفترة ما في عام 2016 كان مناصراً لدونالد ترمب، مع أنه حاول النأي عنه لاحقاً. ثم، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 التقى ستيف بانون، المخطط الاستراتيجي السابق في البيت الأبيض كي يبحث معه إمكانات التعاون بين جماعات اليمين في بريطانيا وأميركا وفرص نجاح تعاونها.
كل هذا، يوحي بأن ريس - موغ «مشروع زعيم» جديد لحزب المحافظين البريطاني، مع أن ترشحه، ومن ثم فوزه، بسبب عداوة خصومه له، قد يهدد وحدة الحزب... أو على الأقل رقعة جذبه المطلوبة لفوزه في الانتخابات، وتولي الحكم.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.