روني الطرابلسي... شخصية يهودية تشكّل أحد المعالم البارزة في حكومة تونس الجديدة

رجل أعمال ناجح ألقيت عليه مسؤولية إنعاش قطاع السياحة

روني الطرابلسي... شخصية يهودية تشكّل أحد المعالم البارزة في حكومة تونس الجديدة
TT

روني الطرابلسي... شخصية يهودية تشكّل أحد المعالم البارزة في حكومة تونس الجديدة

روني الطرابلسي... شخصية يهودية تشكّل أحد المعالم البارزة في حكومة تونس الجديدة

أدت الحكومة التونسية الجديدة برئاسة يوسف الشاهد، اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي بعدما صوّت لفائدتها نحو ثلثي أعضاء البرلمان في أعقاب جلسة عامة صاخبة وصراعات بين رأسي السلطة التنفيذية من جهة، والأحزاب والنقابات من جهة أخرى انطلقت منذ مطلع العام الحالي.
إلا أن ممثلي المعارضة اليسارية والقومية في البرلمان التونسي وخارجه شنّوا حملة كبيرة على الحكومة الجديدة، وعلى رئيسها الشاهد وحلفائه، وعلى رأسهم قادة حزب «حركة النهضة» الإسلامي بسبب وزير السياحة الجديد روني الطرابلسي، وهو مواطن يهودي تونسي - فرنسي استثمر في قطاعي النقل الجوي والسياحة بين فرنسا والبلدان المغاربية.

يُعتبَر روني (أو رينيه) الطرابلسي، الذي عُيّن وزيراً جديداً للسياحة في تونس، أول يهودي يعيّن في منصب حكومي في البلاد، منذ عام 1958. وتعود شهرة الطرابلسي وشقيقه إيلي في عالم المال والأعمال منذ ربع قرن لكونهما ابنَي جوزيف بيريز الطرابلسي، رئيس الجالية اليهودية في جزيرة جربة بجنوب تونس، ورئيس تظاهرة الاحتفال السنوي بالحج اليهودي الدولي إلى كنيس الغريبة القديم الشهير. وجدير بالذكر، أن تظاهرة «الغريبة» تعد أبرز تظاهرة ثقافية دينية وسياحية من نوعها؛ إذ يزور الكنيس القديم في جزيرة جربة، سنوياً، آلاف اليهود من كل أنحاء العالم.

- دور سياسي منذ 2002
ولقد بلغت هذه التظاهرة الأوج في أواسط التسعينات من القرن الماضي، بعد التوقيع على اتفاقية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية في أوسلو وواشنطن، ومن ثم، سماح السلطات التونسية لطائرات إسرائيلية آتية من مطار بن غوريون (اللد) بأن تحط مباشرة في مطار جربة - جرجيس الدولي. وكانت طليعة الزائرين مجموعة قوامها زوّار إسرائيليون غالبيتهم من أصول تونسية ومغاربية، بينهم سليفان شالوم، الذي كان في حينه وزير الخارجية الإسرائيلي، وهو متحدّر من أصول تونسية.
وبرز روني، النجل الأكبر لجوزيف الطرابلسي، بعد الهجوم الانتحاري على كنيس الغريبة في خلال شهر أبريل (نيسان) 2002، عندما تصدر مع والده في وسائل الإعلام التونسية والدولية مَن ساندوا السلطات التونسية في جهودها للحد من الآثار السلبية على الهجوم الانتحاري. وكان ذلك الهجوم قد تسبب في سقوط أكثر من 20 قتيلاً وعشرات الجرحى غالبيتهم من السياح الألمان.

- تسويق سياحي
هذا، وحرصت الحكومات التونسية المتعاقبة منذ تلك العملية الإرهابية على ضمان تأمين كبير لموسم الحج لكنيس الغربية في شهر مايو (أيار) من كل عام، وبخاصة في الفنادق التي يقيم بها سياح يهود أو إسرائيليون. وكان روني الطرابلسي وشقيقه إيلي على رأس المؤسسات السياحية التي كلفتها السلطات بالتسويق للتظاهرة، وجلب السياح اليهود من العالم أجمع، بمن فيهم مئات من حاملي الجنسية المزدوجة الفرنسية - الإسرائيلية والتونسية - الإسرائيلية. ولئن كان الطرابلسي، على غرار غالبية يهود تونس منذ 60 سنة، من بين المقيمين بصفة دائمة في فرنسا، ومن حاملي جوازات مزدوجة، فإنه ووالده تميّزا بأنشطتهما السياسية المكثفة منذ عهد الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي.

- علاقات مميزة
ولعل ما يستحق الإشارة، أن روني وشقيقه إيلي ووالدهما كانوا من بين المقربين إلى النظام التونسي السابق وربطتهما علاقات سياسية ومصالح بأغلب رموزه ومسؤوليه. وكانوا دائماً يتصدرون الوفد الذي يرافق رئيس الحكومة ووزراء السياحة خلال زيارتهم إلى المعالم الدينية اليهودية في كامل البلاد، وبخاصة إلى كنيس الغريبة وجزيرة جربة ومعالمها السياحية. ولذلك؛ كان على رأس المرحّبين بتعيين روني وزيراً جديداً للسياحة أصدقاؤه من بين وزراء السياحة في عهد زين العابدين بن علي، مثل صلاح الدين معاوي والتيجاني الحداد.
وهنا نشير إلى أنه بعد انهيار حكم بن علي في 2011 تسببت الاضطرابات الأمنية والسياسية في التوقف عن تنظيم موسم الزيارة السنوية إلى الكنيس القديم. إلا أن الموسم السياحي استؤنف في عامي 2012 و2013 بعد تحركات قام بها روني الطرابلسي ووالده رئيس التظاهرة وعدد من قادة «اللوبي» التونسي اليهودي المقيم في فرنسا، بينهم رجال أعمال وإعلام وسياسة من اليهود الشبان بزعامة غابريال كابلا. ومنذ ذلك الوقت ربط روني علاقات متطوّرة بزعامات سياسية من حزب «حركة النهضة» الإسلامي ومعارضي نظام بن علي السابقين، على رأسهم رئيسا حكومة «النهضة» في 2012 و2013 حمّادي الجبالي وعلي العريّض وبعض وزرائها، مثل وزير الخارجية الدكتور رفيق عبد السلام، صهر راشد الغنوشي رئيس «حركة النهضة»، وكذلك، إلياس فخفاخ القيادي في حزب «التكتل» الليبرالي.

- ترشح للانتخابات
ظهر ولع روني الطرابلسي بالسياسة في عام 2011، عندما ترأس قائمة مستقلة في فرنسا وحاول الفوز بعضوية البرلمان الانتقالي ممثلاً للجالية التونسية في أوروبا. وبعدما فشل في تلك الانتخابات، التي فاز فيها حزب «حركة النهضة»، كان من بين أبرز رجال الأعمال التونسيين في المهجر الذين حضروا أول اجتماع عام عقده حمّادي الجبالي، بصفته الأمين العام لـ«حركة النهضة»، في أحد فنادق العاصمة تونس للإعلان عن ترشحه لرئاسة الحكومة وعن برنامجه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وكان روني الطرابلسي من بين أكثر الذين شدّوا الأنظار يومذاك بدفاعهم القوي عن الجبالي ورفاقه الذين وصلوا إلى الحكم بعد انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2013... والذين كان من أشرس أعدائهم قبل «انتفاضة يناير (كانون الثاني)» 2011. ثم إنه، رغم اعتراضات النشطاء القوميين والإسلاميين وتهديدات الجماعات الدينية المتشدّدة، ضمن روني الطرابلسي ووالده دورية تنظيم الزيارة السنوية لكنيس الغريبة وبقية المعالم اليهودية التونسية بمشاركة وفود إسرائيلية.

- رشح لعضوية الحكومة في 2014
بعد اغتيال المعارضين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، والتحركات التي شهدتها تونس في صيف 2013 والإطاحة بحكومة «النهضة» وشركائها، رشّح المهدي جمعة، رئيس الحكومة المستقل، الطرابلسي لتولي حقيبة السياحة، وأعلن عن الترشيح في وسائل الإعلام. بيد أن جمعة وفريقه تراجعا عن التعيين بسبب الحملة التي استهدفت الطرابلسي بسبب علاقاته المتطورة بعهد بن علي، ثم بسبب اتهامه بحمل جواز سفر إسرائيلي إلى جانب جوازيه التونسي والفرنسي. ومن ثم، في انتخابات 2014، عزف روني الطرابلسي عن الترشح للانتخابات البرلمانية، مع أنه حافظ على صداقاته في «حركة النهضة»، وفي المقابل، ترأس شقيقه إيلي قائمة تابعة لحزب «نداء تونس» المنافس القوي لـ«حركة النهضة» - في حينه - بزعامة الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي.

- لغط الجنسية الإسرائيلية
الواقع أن شخصية روني الطرابلسي أثارت لغطاً منذ الإعلان عن تعيينه وزيراً، ليس فقط بسبب تحدّره من عائلة يهودية، بل بسبب معلومات متضاربة عن حصوله على الجنسية الإسرائيلية، وبسبب تضارب المصالح بين عضويته للحكومة وترؤسه شركات سفر وسياحة في فرنسا تحتكر سوق سياحة اليهود إلى تونس، خصوصاً بمناسبة موسم الغريبة. كذلك، أشاع البعض أن الطرابلسي يمتلك أحد أبرز الفنادق السياحية في جزيرة جربة. ولقد انخرط في حملة انتقاد قرار تعيين الطرابلسي يساريون وقيادات من أقصى اليسار وقادة الجبهة الشعبية، التي لديها 15 نائباً في البرلمان. واعتبر «الجبهة» المركزي في بلاغ رسمي تعيين الطرابلسي وزيراً «مغازلة لإسرائيل وعواصم غربية» و«تكريساً للتطبيع مع إسرائيل». وسارت في المنحى نفسه سيدة الأعمال والإعلامية التونسية الكبيرة المقيمة في دبي بثينة جبنون، التي ادعت أن قريبة لروني الطرابلسي متزوجة من مسؤول كبير في وزارة الدفاع الإسرائيلية. وأيضاً انخرط ياسين العياري، عضو البرلمان الحقوقي المثير للجدل، في الحملة على الوزير الجديد «بسبب الشركات ذات الصبغة السياحية» التي ورد أنه يملكها.
ورغم التصريح القصير الذي أدلى به الطرابلسي إلى إحدى الإذاعات التونسية، والذي نفى فيه أن يكون حاملاً لجنسية إسرائيلية، أعلن عدد من المحامين والبرلمانيين والنشطاء السياسيين القوميين أنهم سيعترضون أمام القضاء، وبخاصة أمام المحكمة الإدارية المختصة على تعيينه.
كذلك، أعلنت هيئات قومية عروبية وبعض الجمعيات اعتزامها تقديم طعون سياسية وإعلامية وحملات شعبية ضد قرار التعيين. وبالفعل، رفع عدد من المحامين والنشطاء السياسيين القوميين قضايا لدى المحاكم التونسية للمطالبة بإسقاط الحكومة وبعزل الطرابلسي بسبب تصريحات ادعوا أنه أدلى بها قبل أشهر لقناة تلفزيونية فرنسية وساند فيها قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب القاضي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، كما ادعوا أنه طالب بـ«التطبيع السياسي الشامل» بين تونس وإسرائيل.
غير أن بعض أصدقاء روني الطرابلسي، مثل الإعلامي أبو بكر الصغير، يرجّح نجاحه في خطته بحكم ما يتميز به من نشاط وحيوية وعلاقات مع معظم الأطراف السياسية من العلمانيين إلى الإسلاميين. واعتبر التيجاني حداد، وزير السياحة السابق، أن روني الطرابلسي يمكن أن ينسحب من رئاسة شركته أو شركاته مؤقتاً حتى لا يكون عرضة للطعن القانوني.

- يهود في حكومة تونس
جدير بالذكر، أن روني (رينيه) الطرابلسي، المولود في جربة عام 1962 – ليس أول يهودي يعيّن وزيراً في تونس. فقد شغل مناصب وزارية قبله وزيران يهوديان في حقيبة التجهيز والإسكان والأشغال العامة قبل نحو 60 سنة، هما ألبير بيسيس الذي عيّن في حكومة الطاهر بن عمار في مرحلة الحكم الذاتي عام 1954، وآندريه باروش الذي عُيّن وزيراً في حكومة الحبيب بورقيبة الأولى بين 1956 و1957، وحافظ على موقع عندما عين بورقيبة رئيساً للجمهورية في يوليو (تموز) 1957 بعد انتهاء حكم البايات. وحافظ باروش على موقعه حتى ربيع 1958.
هذا، وكلف بورقيبة آندريه باروش بتحديث العاصمة التونسية عمرانياً. لكنه أبعده بعد احتجاجات مسؤولي التراث والمؤرخين داخل تونس وخارجها على هدم وزارته سور تونس التاريخي بحجة التحديث، وتخطيطه لهدم الأسوار في بقية المدن التونسية مثل صفاقس وبنزرت وسوسة والمنستير في الساحل التونسي، موطن الزعيم الحبيب بورقيبة. فهل يكسب روني الطرابلسي ببراغماتيته وابتسامته وعلاقاته المعركة الإعلامية والسياسية التي تنتظره... أم يحصل العكس فتتراجع السلطات عن تعيينه مرة أخرى؟

- كنيس الغريبة... أقدم معبد يهودي في أفريقيا
يُعد كنيس الغريبة، الواقع في جزيرة جربة التونسية (500 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس)، أقدم كنيس في أفريقيا وأحد أقدم المعابد اليهودية في العالم؛ إذ يعود تاريخ تشييده إلى ما يزيد على 2500 سنة. وسنوياً، يزور آلاف اليهود الكنيس القديم في موسم تقليدي خلال شهر مايو (أيار) يستغرق 3 أيام للتبرك بالتوراة الموجودة فيه. وتشير المراجع إلى أن بين الروايات الشائعة عن أصل اسم «الغريبة»، هو لفتاة غريبة عن الجزيرة نجا جسدها من حريق أتى على مسكنها بالكامل، فصار الناس يتباركون بها.
ويتميز الكنيس الذي يقوم في قرية «الحارة الصغيرة»، على مقربة من مدينة حومة السوق كبرى بلدات جربة، بطابع معماري عربي - شرقي. من مبنيين كبيرين، الأول خاص بالعبادة ويغلب عليه اللون الأبيض والأزرق، بداخله بيت الصلاة وهو المكان الذي تؤدى فيه أهم طقوس الزيارة، أما المبنى الآخر فيستعمل للاحتفالات بالأهازيج والموسيقى التونسية وتوزيع المآكل في موسم الزيارة.
يوم 11 أبريل (نيسان) 2002، تعرّض الكنيس لهجوم إرهابي انتحاري خلّف 21 قتيلا (14 سائحاً ألمانياً بجانب فرنسيين اثنين وخمسة تونسيين). وأدى الهجوم إلى تراجع كبير في أعداد الزوار والسياح الوافدين إلى جربة – التي تضم 11 كنيساً – للمشاركة في الاحتفالات. ومنذ ذلك الحين، اتخذت السلطات التونسية إجراءات أمنية استثنائية وقائية خلال موسم الغريبة السنوي. بل، ألغيت الاحتفالات عام 2011؛ نظراً للظروف الأمنية والسياسية التي عاشتها البلاد.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن يهود تونس كانوا يشكلون إحدى كبريات الجاليات اليهودية في العالم العربي، لكن بعدما قدر عددهم بنحو 100 ألف نسمة عند استقلال تونس عام 1956، تراجع العدد الآن إلى أقل من ألفي نسمة يقيمون في جربة وتونس العاصمة وبعض المدن الأخرى.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.