خلافاً للهجة التطمين التي اعتمدتها الأجهزة التونسية الرسمية حول سيطرتها على الوضع الأمني واستباق العمليات الإرهابية والقبض على المنتسبين للتنظيمات الإرهابية قبل الشروع في مخططات إرهابية وتراجع المخاطر الإرهابية، فإن تنفيذ عملية إرهابية بالشارع الرئيسي للعاصمة التونسية أعاد التساؤل إلى البداية وبلغة أكثر حدة حول حقيقة التنظيمات الإرهابية، وهل أن ما يتم القبض عليهم من عناصر، وتفكيك لخلايا وشبكات إرهابية بين الحين والآخر يمثل حقيقة ظاهرة الإرهاب والحاضنة الاجتماعية للإرهابيين في المجتمع التونسي.
في حين يعتبر الكثير من المتابعين للوضع الأمني في تونس أن ما يظهر على سطح الأحداث لا يعكس ما يدور داخل المجتمع التونسي من تفاعلات واجتذاب التنظيمات الإرهابية فئات شابة من التونسيين، كثيراً ما تظهر خلال التحقيقات الأمنية من خلال الإسناد وتقديم المعلومات حول تحركات أجهزة الأمن والجيش وإيصال الغذاء والأغطية بمقابل مالي إلى الإرهابيين المتحصنين في الجبال الغربية لتونس. وكل هذه المعطيات تؤكد أن الخلايا الإرهابية النائمة في تونس مستيقظة في حقيقة الأمر، وغالباً ما تظهر نتائج عملها من خلال عمليات إرهابية خفت قليلاً خلال السنتين الماضيتين، لكنها ما زالت تمثل تهديداً كبيراً على استقرار تونس وأمنها.
انتحارية شارع بورقيبة
وبعد تجنيد التنظيمات الإرهابية التي أوجدت لها مكاناً واستقراراً في تونس، الشباب من الرجال جاء الدور على الفئات النسائية وهو ما ترجمته الإرهابية منى قبلة يوم 27 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، من خلال هجوم إرهابي بشارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة التونسية على بعد أمتار من مقر وزارة الداخلية التونسي، وقد أسفر الهجوم عن إصابة 15عنصراً أمنياً وخمسة مدنيين، من بينهم طفلان، بجراح متفاوتة الخطورة.
ولعل إشارة مصادر الأمن في تونس إلى أن منفذة الهجوم الانتحاري ليست مسجلة في قوائم الأشخاص المتهمين بالإرهاب، يرجح فرضية انتمائها إلى «الخلايا الإرهابية النائمة». وما زالت التساؤلات تحوم حول هذه الانتحارية؛ إذ إن عائلتها والجيران والأصدقاء المقربين منها استغربوا تنفيذها عملاً إرهابياً، وبدت عبارات الاستغراب مكررة على أفواههم.
وما جعل الغموض يلف هذه العملية الانتحارية أكثر، أن سفيان السليطي، المتحدث باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، قد أكد في تصريح إعلامي على أن أجهزة الأمن التونسية المختصة في مكافحة الإرهاب، لم تلقِ القبض على أي عنصر إرهابي على صلة بالعملية الإرهابية التي نفذتها الإرهابية التونسية منى قبلة.
في هذا الشأن، تقول المحللة السياسية التونسية آسيا العتروس: إن أغلب ما دوّن عن الإرهابيات والانتحاريات طوال عقد ونصف العقد من الزمن كان باللغة الإنجليزية التي تتقنها الإرهابية منى قبلة. وقد تكون اهتمامات الانتحارية التونسية قد بدأت من خلال متابعتها عناصر إرهابية نسائية انتمين في الغرب إلى التنظيمات الإرهابية، وضمنت شهادات حول مشاركتهن ضمن تلك التنظيمات من خلال اللغة الإنجليزية. وأشارت العتروس إلى شهادة والدة الانتحارية التونسية واتخاذها قراراً ببيع بعض أشجار الزيتون لاقتناء حاسوب، حتى تواصل ابنتها بحوثها العلمية وإعداد رسالة ماجستير في اختصاصها.
ومع ما تقدمه العائلات من تحاليل ومعلومات حول نمط عيش من نفذوا عمليات إرهابية، فإن الواقع يؤكد على وجود حاضنة اجتماعية وبيئة مناسبة لدخول الأفكار المتطرفة إلى أذهان الشباب التونسي، وتؤكد على أن العائلة والأبناء غالباً ما يكون كل طرف منهما يعيش في عالم منعزل عن الآخر؛ فانغماس الأبناء وهجرتهم لأفراد العائلة لأشهر متتالية، من بين المؤشرات على حصول تغييرات على شخصية المرشح للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية.
ورجّح مختصون في الجماعات الإرهابية في تونس، على غرار علية العلاني وفيصل الشريف، أن تكون الانتحارية من الخلايا الإرهابية النائمة المتعاطفة مع التيارات المتطرفة الداعمة لتنظيم داعش الإرهابي أو تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب العربي».
وأشاروا إلى أن تونس تنتشر بها ما بين 300 و400 خلية «إرهابية نائمة»، وقد تم إلقاء القبض على كثير منها خلال السنوات الماضية، وللتأكيد على رجاحة هذه المقاربة أكدوا أن تنظيم «أنصار الشريعة» الذي يتزعمه التونسي «أبو عياض» سيف الله بن حسين، جمع ما لا يقل عن 40 ألف مناصر خلال تنظيم ملتقى له في مدينة القيروان سنة 2012، وأن المتعاطفين مع هذا التنظيم قد اندثروا إثر حظر أنشطته بالكامل في تونس وتصنيفه ضمن التنظيمات الإرهابية، لكن أين ذهبوا وهل تراجعوا فعلياً عن أفكارهم المتطرفة، أم أنهم خيروا الصمت والسبات ضمن الخلايا الإرهابية النائمة أو المستيقظة على وجه الدقة؟
في هذا السياق، قال علية العلاني، الخبير التونسي في الجماعات الإرهابية: إن العملية التي عرفتها العاصمة التونسية تحمل بصمات تنظيم داعش الإرهابي، لكن قد تحصل المفاجأة ونجد من نفذتها غير مدرجة في ضمن أي تنظيم إرهابي وعملت بمفردها ضمن ما يعرف بالذئاب المنفردة بعد أن قضت فترة طويلة تتشبع بالأفكار المتطرفة لتلك التنظيمات.
وأكد على أن الهجوم الانتحاري الذي جد قبل أيام في الشارع الرئيسي للعاصمة سيدفع السلطات الأمنية إلى إدخال تعديل جذري على أساليب عمل المخابرات التونسية، فقد استطاعت الإرهابية التنقل من مدينة إلى أخرى (نحو 280 كلم من المهدية إلى العاصمة التونسية)، وحملت معها مواد متفجرة على مسافة كبيرة من مكان إقامتها على مقربة من مكان الهجوم (باب سويقة، وفق التحريات الأولية) وصولاً إلى شارع بورقيبة دون أن تنتبه إليها السلطات الأمنية.
وأشار إلى ضرورة تحديث سجلات الأشخاص المتهمين بالإرهاب؛ فقد اتضح أن التنظيمات الإرهابية باتت تعتمد على أشخاص غير مسجلين؛ وهو ما يستدعي بذل جهود إضافية لإدراج المشتبه بهم الجدد ضمن سجلات المتهمين بالإرهاب، وسد النقص الذي قد يكون حصل خلال السنوات الأخيرة، على حد قوله.
محاصرة الأفكار المتطرفة
ووجدت هذه الأفكار المتطرفة طريقها إلى الشباب التونسي بصفة واضحة منذ بداية هذا القرن، وهو ما كان مطية لسنّ قانون مكافحة الإرهاب من قبل النظام السياسي السابق وبالتحديد سنة 2003، لكن طريقة تعامل نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي مع التيارات المتطرفة، على وجه العموم كانت معتمدة على المحاصرة والتضييق وتجفيف المنابع، وقد اتضح أن تلك الطريقة لم تعطِ نتائج إيجابية؛ إذ عرفت تونس هجوماً إرهابياً كان فارقاً في التعامل مع المجموعات الإرهابية ونعني به «أحداث سليمان» الإرهابية التي جدت نهاية سنة 2006، وأشارت إلى وجود تطورات كبرى على مستوى مواجهة السلطة القائمة؛ وذلك بالاعتماد على حمل السلاح في وجه الدولة.
في هذا الشأن، أكد سمير بن عمر، المحامي التونسي المختص في الجماعات الأصولية، على أن النظام السابق زج بنحو ثلاثة آلاف شاب تونسي في السجون، وفي بعض الحالات لمجرد الشبهة، وقلصت هذه السياسة من قوة تلك التنظيمات المتطرفة، لكنها لم تقض عليها وتحولت طوال حكم بن علي إلى «خلايا نائمة» تنتظر الوقت المناسب للاستيقاظ، وكانت ثورة 2011، وظهور مفهوم الفوضى الخلاقة مناسبة لإطلاق عنان تلك المجموعات التي تحولت إلى تنظيمات دموية.
وراجعت السلطة التونسية قانون 2003 المتعلق بمكافحة الإرهاب، وأصدرت سنة 2015 قانوناً جديداً لمكافحة لإرهاب، وضمنته عقوبة الإعدام ضد المتهمين بالإرهاب ممن أدت أعمالهم إلى مقتل أشخاص، لكن ذلك لم يغير الكثير من خريطة الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية؛ فنحو ثلاثة آلاف تونسي التحقوا بها وفق إحصائيات حكومية رسمية.
الحاضنة الاجتماعية
واعتبر أكثر من عالم اجتماع، على غرار منيرة الرزقي وفاتن مبارك، أن السلطات التونسية مطالبة بصفة عاجلة بالبحث عن الأسباب المؤدية لدخول الشباب التونسي إلى عالم الإرهاب وأن تبحث في الوقت ذاته عن الحاضنة الاجتماعية للإرهاب فبعض العائلات التونسية - وهذا من باب المفارقة - لا تنظر إلى العملية الإرهابية على أنها إرهاب يجب مقاومته وعدم السكوت عنه، بل بكونها عملية «استشهاد»؛ وهو ما يجعل ميزان النظر إلى ظاهرة الإرهاب مختلفاً بين أفراد يعيشون على الأرض نفسها ويحملون التاريخ نفسه.
وخلال السنوات الماضية، لم تتوانَ التنظيمات الإرهابية المختلفة عن استقطاب الشباب التونسي؛ مما جعله في مراتب أولى في الالتحاق بتنظيم داعش الإرهابي واحتلاله مناصب قيادية في هذا التنظيم. وعلى المستوى المحلي، وبشأن عدد المتهمين في قضايا إرهابية ويقبعون في السجون التونسية، فقد أكد سفيان السليطي، المتحدث باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، على أن العدد الإجمالي في حدود 1500 متهم بالإرهاب. وتشير جمعية آفاق للأمن والديوانة (جمعية مستقلة) إلى أن نحو ألف شاب تونسي على الأقل يتم استقطابهم من قبل المجموعات الإرهابية.
وتشير إحصائيات بعض مراكز الدراسات المهتمة بقضايا الإرهاب إلى أن نحو 32 في المائة من المتهمين بالإرهاب هم من بين طلبة الجامعات وتلاميذ المدارس، وتتوزع نسبة الإرهابيين التونسيين الملتحقين بالتنظيمات الإرهابية على العاصمة التونسية (32 في المائة)، ومن مناطق الساحل التونسي (28 في المائة)، ومن الجنوب (23 في المائة)، ونحو 9 في المائة من الوسط، وينحدر نسبة 8 في المائة من الشمال التونسي؛ وهو ما يجعل مختلف مناطق تونس عرضة لتأثيرات التنظيمات الإرهابية، ولا توجد منطقة بعينها في منأى عن سهام ظاهرة الإرهاب.