العودة إلى مهرجان قرطاج السينمائي بعد غياب دام نحو عشرين سنة، يضع الناقد أمام توقعات كثيرة وأسئلة أكثر. ترى ما الذي حدث للمهرجان خلال هذه العقود؟ ما هو وضعه الفعلي اليوم؟ كيف تتجاوز الإدارة الجديدة (تحت رئاسة السينمائي نجيب عياد) ظروف الوضع الإداري والأمني ومشتقاتهما؟ وكيف هي حال السينما التونسية أساساً؟
خلال تلك الفترة لم ينقطع الوصال بين هذا الناقد وبين السينما التونسية التي كان يلتقطها إما في المهرجانات العربية الأخرى أو في بعض المهرجانات الدولية أو من خلال عروض ووسائط خاصّة. لذلك لا يوجد قلق حيال ما حدث للسينما التونسية خلال التسعينات والعقد الأول من القرن الحالي، لأن الكثير من أفلامها انتشر وشوهد، وبعضها عزز وضع السينما التونسية بنيله جوائز في أكثر من محفل ومناسبة.
- مسابقات ولجان
عوض القلق، هناك الشغف. أن تشاهد فيلماً تونسياً في مهرجان برلين أو فيلمين أو ثلاثة في مهرجان دبي أو القاهرة شيء، وأن تكون في العاصمة التي تنتج تلك الأفلام شيء آخر. أن ترقبها كنماذج أمر مختلف عن مشاهدتها كتظاهرة شاملة. ودورة المهرجان التي تبدأ اليوم، في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) وتنتهي في الحادي عشر منه، تحفل بالأفلام التونسية التي يتطلع المرء لمشاهدتها.
هناك قسم خاص عن هذه السينما عنوانه «نظرة على السينما التونسية» ويضم خمسة أفلام طويلة. ولا تتوقف السينما التونسية عند حدود ذلك القسم بل تنتشر في أقسام أخرى، من بينها قسم المسابقة الرسمية حيث تحتوي على ثلاثة أفلام روائية وضعف ذلك من الأفلام القصيرة وفيلم تسجيلي طويل واحد.
الطريقة التي تم تقسيم برنامج المهرجان محددة وإيجابية: هناك أربع مسابقات؛ الأولى للسينما الروائية الطويلة، والثانية للسينما التسجيلية الطويلة، والثالثة للفيلم الروائي القصير، والرابعة للفيلم التسجيلي القصير.
تحكم هذه الأفلام لجنتان، واحدة للأفلام الطويلة (روائية وتسجيلية) وتضم من السينمائيين العرب المخرج التونسي رضا الباهي والمخرجة الفلسطينية مي المصري والممثلة اللبنانية ديامون أبو عبود.
الثانية للأفلام القصيرة، تسجيلية وروائية، ومن بين أعضائها التونسية كوثر بن هنية والفلسطيني رائد أندوني.
لكن لا يجب أن ننسى أن المهرجان ليس حكراً على الأفلام العربية، إنما هو المهرجان الوحيد الذي يجمع بين أفلام عربية وأفلام أفريقية. هكذا كان دوره منذ إطلاقه قبل 52 سنة على يد السينمائي الطاهر الشريعة، وبدعم من الحكومة التونسية ممثلة بوزير الثقافة أيامها الشاذلي القليبي.
لا شك أن ذلك التأسيس بدا طموحاً كبيراً وطرحاً لمهام ثقافية وسينمائية، خصوصاً أنه هدف منذ البداية لإنجاز مهرجان يجمع وجهي تونس، فهي بلد عربي كمجتمع وكيان ثقافي وبلد أفريقي كانتماء قاري. ما بعد التأسيس لم يكن أقل حجماً وأهمية، فلقد ثابر المهرجان، الذي داوم الانعقاد مرة كل سنتين حتى العام 2014 عندما تقرر إقامته سنوياً، على تقديم هاتين السينماتين (العربية والأفريقية) منفرداً بهويته بين المهرجانات العربية والأفريقية معاً، وبل العالمية، كونه الوحيد الجامع بين هاتين الصفتين.
خلال سنواته المديدة، أنجز المهرجان أيضاً صيتاً بالغ الأهمية بوصفه ملتقى يقصده السينمائيون العرب الجدد منهم والقدامى. وفي السبعينات ومطلع الثمانينات عرف كيف يسبر الخط السياسي المتمثل في تأييد السينما العربية البديلة، بما فيها الفلسطينية التي كانت قد بدأت تنجز أفلامها خارج وطنها. فإلى قرطاج حط رحال عشرات السينمائيين العرب من نقاد ومخرجين وممثلين في كل دورة، من بينهم المخرجون محمد ملص وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين ويسرا وليلى علوي ومنى واصف وعبد العزيز مخيون ومحمد خان وعلى بدرخان ومرزاق علواش ومصطفى أبو علي وسواهم كثيرون. هذا إلى جانب أعداد النقاد والعدد الوفير من السينمائيين والمثقفين التونسيين.
- نضج أفريقي
في غمار ذلك، فإن السؤال المطروح لدى بعض النقاد تحدّى الهوية المنبثقة عن «أيام قرطاج السينمائية» كما اصطلح على تسميته: هل يجوز، من ناحية فنية صرفة، تأسيس مسابقة واحدة للسينما العربية والأفريقية؟ هل يتلاءم الوضع أو هو نوع هجين من الجمع الذي لا يمكن له أن يُبرر؟
مبرر الطرح كان واضحاً في تلك السنوات الأولى وحتى فترة قريبة: السينما العربية كانت أكثر إنجازاً وأفضل مستوى من الأفلام الأفريقية. الأولى (بفضل مخرجيها العرب) بدت إنجازات، في حين أن الأفلام الأفريقية القادمة من النيجر ونيجيريا وتشاد وجنوب أفريقيا وكينيا وسواها آنذاك بدت مجرد تجارب. بالتالي كيف يمكن التنافس بين هاتين السينماتين، وكيف يمكن تبرير منح جوائز للسينما الأفريقية من حين لآخر. في الوقت ذاته، كيف يمكن منح السينما العربية جوائز أولى طالما أن السينما المنافسة ضعيفة بالمقارنة؟
طوال عقود لم تتم الإجابة الشافية على هذا السؤال، بالتالي تم تجاوزه عبر الاستمرار في دعم اللقاء المزدوج. لكن، ومنذ نحو عشر سنوات أو أكثر قليلاً، لم يعد يجوز طرح السؤال على أي نحو مماثل كون السينما الأفريقية تقدمت أشواطاً طويلة عما كانت عليه في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي.
هذا العام نجد في مسابقة الفيلم الروائي الطويل ما يؤكد، مجدداً، على بلوغ السينما الأفريقية مرحلة النضج رغم عراقيل توزيعها الخارجي. أحد أفلامها: «رفيقي» للكيني وانوري كاهيو، يتميّز بإتقان ما كان مفتقداً في معظم ما شوهد في قرطاج سابقاً من أفلام أفريقية وهو العناصر التقنية والفنية.
فيلم كيني آخر معروض في المسابقة عنوانه «سوبا مودو» لليكاريون وايناينا. هو، كما توحي مقدّمته على الأقل، الأكثر شبهاً بأفلام الفترة السابقة من حيث تداوله حياة صبي في القرية الكينية واستكشاف الفيلم لذلك المحيط البيئي مع موسيقى محلية.
من رواندا، هناك فيلم آخر جيد التركيب عنوانه «رحمة الأدغال» (Mercy of the Jungle) للمخرج جووَل كاريكيزي. يدور حول جنديين من رواندا يخسران فرقتهما خلال قتال مع قوات الكونغو، ويسعيان للبقاء حيين رغم مخاطر الأدغال والقوات العدوة المحيطة.
الفيلم الرابع الآتي من أفريقيا في هذه المسابقة هو «مليكة» لماشيري إكوا باهانغو حول مآسي الحياة بالنسبة لفتاة شابة تتعرف على الجانب الصعب من العيش في الفقر وبين عصابات النشل والجريمة.
- سينما العرب
باقي الأفلام (تسعة) عربية؛ جاءت من تونس (ثلاثة أفلام) والمغرب (فيلمان) ومصر والجزائر وسوريا والعراق (فيلم واحد لكل منها).
فيلمان من الأفلام التونسية الثلاث المعروضة هنا يدوران حول موضوع متشابه. في فيلم نجيب بالقاضي «في عينيّا» حكاية رجل يعيش في فرنسا لكنه مضطر للعودة إلى تونس للعناية بابنه المصاب بالتوحد. وفي فيلم محمد بن عطية «ولدي» هناك عامل تونسي وزوجته اللذان يحاولان إنقاذ ابنهما من صداع نصفي مزمن.
كلاهما خاض بعض المهرجانات هذا العام (تحديداً برلين وتورونتو) ونال حظه من المدح، لكن الفيلم المنتظر بكثير من الحماس هو «فتوى»، وذلك لأن مخرجه أحد أهم من أنجبتهم السينما التونسية في تاريخها وهو محمود بن محمود (فيلمه «عبور» ما زال أحد أفضل الأفلام التي تم تحقيقها على خريطة السينما العربية).
«فتوى» نوع من سينما البحث عن الحقيقة. بطله يعود من باريس ليشارك في جنازة ودفن ابنه الشاب الذي مات حين هوت به دراجته النارية فوق صخور البحر. يشعر الرجل بأن هناك ما يُخفى عليه في شأن ابنه، فيبدأ رحلة استقصاء ليكتشف أن ابنه انصاع لجماعة إسلامية متشددة قد تكون مسؤولة عن مقتله.
الفيلمان المغربيان هما «لذيذة» لمحسن بصري والثاني «صوفيّة» (عرفناه سابقاً بـ«صوفيا») للمخرجة مريم بن مبارك. كلاهما قضايا نسائية والثاني (الذي شوهد سابقاً) يجول في وضع فتاة حامل من دون زواج وكيف تحاول عائلتها معالجة الوضع.
الأفلام الأخرى تتنوّع في مشارب أفكارها. على سبيل المثال فإن «يوم الدين» لأبو بكر شوقي، الذي منحته لجنة تحكيم مهرجان الجونة في مصر جائزتها الأولى، يتناول رحلة يقوم بها رجل مصاب بالجذام صوب قريته سعياً للقاء أبيه الذي كان تخلّى عنه صغيراً.
الفيلم السوري «مسافرو الحرب» لجود سعيد هو فيلم رحلة آخر إنما مختلف. أبطاله مجموعة من الأشخاص يحاولون إعادة إحياء الحياة في بلدة هدمتها الحرب. هذه الحرب ما زالت الموضوع المستجد الذي يعود إليه المخرج في ثالث فيلم له على التوالي.
«يارا» قد يكون اكتشافاً جيداً. إنه من المخرج العراقي عباس فاضل (شارك في بضع مهرجانات عربية وأجنبية سابقاً) حول الفتاة التي تعيش مع جدتها في بلدة معزولة وتلتقي بشاب غريب عن البلدة.
ومن بلدة عراقية صغيرة إلى أخرى جزائرية في «ريح رباني» لمرزاق علواش. مثل «فتوى» يتعرض لتأثير التدين على شباب اليوم وظروف حياته.
مسابقة السينما الوثائقية تحتوي على أحد عشر فيلماً؛ خمسة أفلام أفريقية يعالج بعضها البيئة والحياة المعاصرة في نطاق بلادها، وستة عربية واردة من لبنان ومصر وتونس وسوريا.
«الشرق الأوسط» في مهرجان قرطاج السينمائي (1): دورة جديدة حافلة وتاريخ ناجح لمهرجان قرطاج... رغم الأسئلة
ملتقى يقصده السينمائيون العرب الجدد والقدامى
«الشرق الأوسط» في مهرجان قرطاج السينمائي (1): دورة جديدة حافلة وتاريخ ناجح لمهرجان قرطاج... رغم الأسئلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة