قادة الأديان... صوت الوسطية لمكافحة التعصب

مشاركون من 45 دولة اجتمعوا في آستانة لتعزيز الحوار ودعم أفكار التسامح

قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)
قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)
TT

قادة الأديان... صوت الوسطية لمكافحة التعصب

قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)
قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)

راهن خبراء ومتابعون على أن القادة الدينيين في العالم عليهم دور كبير في نشر صوت الوسطية لتعزيز الحوار ومكافحة التعصب الديني، الذي تسعى إليه بعض التنظيمات المتشددة داخل المجتمعات. لذلك؛ اجتمع أخيراً نخبة من كبار القيادات الدينية، وساسة بارزون في قمة «قادة الأديان العالمية والتقليدية» في العاصمة آستانة، تحت شعار «القادة العالميون لعالم آمن». المجتمعون من 45 دولة أكدوا، أن «تمويل الإرهاب يضرب الثقة المتبادلة بين أتباع الأديان وأتباع الدين الواحد». ودعوا إلى مساعدة كل المجتمعات والشعوب بصرف النظر عن العرق والدين والمعتقدات واللغة والجنس للعيش في حياة سلمية.

يتجمع «قادة العالم والأديان التقليدية» في قصر السلام بمدينة آستانة عاصمة جمهورية كازاخستان مرة كل ثلاث سنوات... وانطلق المؤتمر في دورته الأولى عام 2003، ومؤتمر هذا العام هو النسخة السادسة، وقد ساهمت المؤتمرات السابقة في جذب واستقطاب المفاهيم المتزايدة للحوار بين الأديان من قبل الكثير من المؤسسات في جميع أنحاء العالم.
ويشار إلى أن اختيار آستانة مقراً للحوار بين الزعماء الدينيين، لأن المدينة ترمز للدولة الكازاخية متعددة الأديان والأعراق، ويتكون الطيف الديني فيها من 18 ديناً وطائفة، ونحو 3800 جمعية دينية.
البيان الختامي للمؤتمر، والمعروف بـ«إعلان آستانة»، شجب كل أشكال الزج بالدين في الصراعات السياسية، وكل مظاهر الأنانية والتعصب والقومية العدوانية ودعاوى التمييز. وأكد التمسك بسيادة الأخلاقيات العليا ووحدة مساعي الدول نحو إقرار التعاون والاحترام المتبادل من أجل استقرار ورخاء وأمن كل البشر... وتعزيز جهود «زعماء الأديان العالمية والتقليدية» بشأن التوصل إلى استقرار طويل الأمد والحد من الكراهية والعنف.
ونادى البيان بضرورة دعم المبادرات والجهود المبذولة في مجال تعزيز الحوار بين الأديان والطوائف كأحد المحاور الأساسية والمهمة في جدول الأعمال الدولي لبناء نظام عالمي قائم على العدل ونبذ الصراعات. وطالب البيان أيضاً بضرورة التضامن مع كل المجموعات الدينية والطوائف العرقية التي تعرضت لانتهاك حقوق الإنسان والعنف من قبل «المتطرفين» و«الإرهابيين»، ودعم الجهود الرامية إلى حماية اللاجئين وحقوقهم وكرامتهم، وتقديم كل المساعدات لهم.
وقالت مصادر بالأزهر، الذي شارك بوفد في المؤتمر، إن «الأحداث الإرهابية التي تحدث في كثير من دول العالم تجعلنا أمام تحدٍ متزايد لنقل صورة الإسلام الصحيحة أمام العالم»، مشيرة إلى أن «الجماعات الإرهابية تسعى بقوة لتأهيل جيل جديد من القتلة، لا يحملون في عقولهم ولا قلوبهم سوى المنهج الدموي؛ لذلك فإن المؤتمر هدف إلى التصدي لذلك».
البيان الختامي للمؤتمر طالب الشخصيات السياسية ووسائل الإعلام العالمية بالتوقف عن ربط الإرهاب بالدين؛ لأن هذه الممارسات تلحق الضرر بصورة الأديان والتعايش السلمي، وتضرب الثقة المتبادلة والتعاون بين أتباع الدين الواحد والأديان الأخرى.
كما دعا البيان زعماء الأديان إلى نشر قيم الإسلام، والتفاهم المتبادل والتسامح في وسائل الإعلام، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي والتجمعات الأهلية، وبذل الجهود لمنع الاستفزازات والعنف في الأماكن المقدسة لكل الأديان.
ورحب مشاركو المؤتمر بنوايا مواصلة عقد مؤتمر «زعماء الأديان» في آستانة... وأعلنوا عن استعدادهم لتعزيز الجهود للتوصل إلى استقرار طويل الأمد ومنع حوادث العنف بسبب الكراهية والعنف.
وبحسب محللين، بحث المؤتمر قضايا حساسة عدة، في مقدمتها، «تعزيز الأمن عبر الحوار، ونشر التسامح، وقيم الصداقة والتعايش السلمي، وتعزيز التعاون بين الأديان رداً على التهديد بالعنف».
من جانبه، أكد شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، أنه «من الظلم إلصاق الإرهاب بالإسلام وحده من بين سائر الأديان»، مشدداً على أن الإرهاب ليس صنيعة للإسلام أو الأديان؛ لكنه صنيعة سياسات عالمية جائرة ظالمة ضلت الطريق وفقدت الإحساس بآلام الآخرين من الفقراء والمستضعفين.
وأوضح الدكتور الطيب، أن التأمل الدقيق يوضح أن إمكانات المنطقة التقنية والتدريبية والتسليحية لا تكفي لتفسير ظهور الإرهاب بهذا الشكل المباغت، وبهذه القوة الهائلة التي تمكنه من التنقل واجتياز الحدود والكر والفر في أمان تام... وأن «حل أزمة عالمنا المعاصر تستوجب ضرورة العودة إلى الدين ومرجعيته، حارساً للأخلاق وضوابطها ومنقذاً لحضارتنا الحديثة ومكاسبها ومنجزاتها مما ينتظرها من مصير تؤكده سنن الله في سير الحضارات وتاريخ الأمم والشعوب، وبخاصة أن عالمنا اليوم يعاني من أزمة شديدة التعقيد، مركبة من الألم والتوتر والتوجس والجزع... وتوقع الأسوأ في كل يوم، حتى أصبح العنف المتبادل أشبه بأن يكون قانون العلاقات الدولية، أو لغة الحوار بين الغرب والشرق».
وأضاف الطيب، أن «الإرهاب مارس جرائمه البشعة تحت لافتة الإسلام، استهدف المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً، ولم يستهدف غيرهم إلا استثناءً من قاعدته التي روع بها المنطقة العربية بأسرها، واستهدف قطع رؤوس المسلمين وحدهم في صـور بشعة».
من جهته، أكد الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح في الإمارات، أن «المؤتمر أصبح بمثابة جسر للتفاهم والتعاون بين الزعماء الدينيين والسياسيين على مختلف مشاربهم؛ وهو ما جعله مصدر ثقة للكثير من الدول، إضافة إلى تعزيز روح التعاون وإظهار الالتزام العالمي بمكافحة كل أشكال التعصب الديني والتمييز والتحريض على العنف»، مشيداً بشعار المؤتمر لهذا العام وهو «القادة الدينيون لعالم آمن»، حيث يمثل رجال وعلماء الدين حجر الزاوية في دعم أفكار التسامح، والتعايش وقبول الآخر لدى فئات المجتمع المختلفة خاصة الشباب.
وقالت المصادر في الأزهر، إن «المؤتمر نجح في توصيل رسالته للعالم بدعم السلام، حيث لم يكن متاحاً في أول مؤتمر للقادة عقد عام 2003 أن يجلس ممثلو الدين اليهودي مع المسلمين على الطاولة المستديرة للمؤتمر؛ لكن نجح المؤتمر بعد ذلك في دعم مبادرات السلام والتسامح والقيم الأخرى».
وشارك في فعاليات المؤتمر الأخير 80 وفداً من 45 دولة، من بينها 20 وفداً إسلامياً، و15 مسيحياً... ومنح رئيس كازاخستان، نور سلطان نزارباييف، لأول مرة المجلس البابوي للفاتيكان جائزة الاشتراك في الحوار بين الأديان؛ لمساهمته البناءة في أهداف المؤتمر. مؤكداً أن غاية مؤتمر «قادة الأديان» تفعيل الحوار بين الأديان والحضارات. واعتبر الرئيس نزارباييف، أن «العاصمة آستانة منصة تلاقى على أرضها جميع القيادات الدينية باختلاف عقائدهم ومذاهبهم؛ بهدف التوافق ولمّ الشمل ونبذ الخلاف، الذي أصبح خطراً يهدد العالم الإسلامي، وما نتج منه من حروب أهلية».
فعاليات جلسات المؤتمر أكدت أهمية مواجهة التحديات الحالية بعدما شهدت العلاقات الدولية توتراً متزايداً. وأشارت الجلسات إلى أن التهديدات الأمنية وعدم السيطرة على حركة المهاجرين ومسارات تجارة المخدرات والجريمة المنظمة وتنامي ظاهرة عدم قبول الآخر وزيادة التعصب والتطرف الديني والإرهاب، تمثل تحديات كبيرة لدول العالم كافة... وهناك رؤية لدى المجتمع الدولي حول أهمية إنشاء نظام للأمن العالمي الذي يحول دون تفاقم الخلافات بين الحضارات والأديان.
كما ناقش المشاركون في الفعاليات ظاهرة العولمة، مؤكدين أن العولمة المتجسدة في صورة التغريب وتعميم الثقافات تدفع المجتمعات إلى تبني ممارسات حثيثة رامية إلى تعزيز الهوية الذاتية وتقوي الشعور بالوعي الذاتي الوطني والانتماء الثقافي والتاريخي والديني. وبحثوا أيضاً دور الزعماء والشخصيات السياسية في مواجهة التطرف والإرهاب، حيث أكدوا أن «الوضع الحالي في العالم يمثل مخاوف مشروعة، حيث يكتسب الإرهاب الدولي أبعاداً جديدة، وبخاصة أن الأعمال الإرهابية لم تعد منفردة؛ بل اتخذت طابع العداء ضد الإنسانية بأسرها».
وأوضحوا أن التنظيمات الراديكالية تستخدم التكنولوجيا الحديثة بشكل فاعل، وتكشف صراحة عن رغبتها في الحصول على صفة «كيان شبه رسمي»، وأن مواجهة الإرهاب والتطرف تعتبر مسؤولية المجتمع الدولي والدول والمجتمعات كافة.
وأكد المشاركون خلال فعاليات المؤتمر، أن الأديان تعد العنصر الحاسم في الصراعات الحضارية المتحكم في حدتها، حيث إن الأديان تتعامل بتحفظ شديد وثبات عند مواجهة الزحف الروحي الراديكالي. موضحين أن كازاخستان تسهم بنشاط في تهيئة الظروف لإقامة حوار بناء في مواجهة التطرف والإرهاب، وبشكل عام التصدي للتحديات القائمة والمستقبلية في مجال الأمن العالمي.
وعلى هامش الفعاليات، أوضح الدكتور فيصل بن معمر، الأمين العام لمركز الملك عبد الله للحوار، أنه يجب تعزيز قيم الحوار والسلم بين أتباع الديانات، حتى يساهم ذلك في تصحيح الرأي العام. داعياً المؤسسات العربية كافة إلى بناء شراكات علمية بين أطياف المجتمع العربي كافة، والخروج عن دائرة الحوارات النظرية إلى المجال العملي.


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟