قادة الأديان... صوت الوسطية لمكافحة التعصب

مشاركون من 45 دولة اجتمعوا في آستانة لتعزيز الحوار ودعم أفكار التسامح

قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)
قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)
TT

قادة الأديان... صوت الوسطية لمكافحة التعصب

قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)
قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)

راهن خبراء ومتابعون على أن القادة الدينيين في العالم عليهم دور كبير في نشر صوت الوسطية لتعزيز الحوار ومكافحة التعصب الديني، الذي تسعى إليه بعض التنظيمات المتشددة داخل المجتمعات. لذلك؛ اجتمع أخيراً نخبة من كبار القيادات الدينية، وساسة بارزون في قمة «قادة الأديان العالمية والتقليدية» في العاصمة آستانة، تحت شعار «القادة العالميون لعالم آمن». المجتمعون من 45 دولة أكدوا، أن «تمويل الإرهاب يضرب الثقة المتبادلة بين أتباع الأديان وأتباع الدين الواحد». ودعوا إلى مساعدة كل المجتمعات والشعوب بصرف النظر عن العرق والدين والمعتقدات واللغة والجنس للعيش في حياة سلمية.

يتجمع «قادة العالم والأديان التقليدية» في قصر السلام بمدينة آستانة عاصمة جمهورية كازاخستان مرة كل ثلاث سنوات... وانطلق المؤتمر في دورته الأولى عام 2003، ومؤتمر هذا العام هو النسخة السادسة، وقد ساهمت المؤتمرات السابقة في جذب واستقطاب المفاهيم المتزايدة للحوار بين الأديان من قبل الكثير من المؤسسات في جميع أنحاء العالم.
ويشار إلى أن اختيار آستانة مقراً للحوار بين الزعماء الدينيين، لأن المدينة ترمز للدولة الكازاخية متعددة الأديان والأعراق، ويتكون الطيف الديني فيها من 18 ديناً وطائفة، ونحو 3800 جمعية دينية.
البيان الختامي للمؤتمر، والمعروف بـ«إعلان آستانة»، شجب كل أشكال الزج بالدين في الصراعات السياسية، وكل مظاهر الأنانية والتعصب والقومية العدوانية ودعاوى التمييز. وأكد التمسك بسيادة الأخلاقيات العليا ووحدة مساعي الدول نحو إقرار التعاون والاحترام المتبادل من أجل استقرار ورخاء وأمن كل البشر... وتعزيز جهود «زعماء الأديان العالمية والتقليدية» بشأن التوصل إلى استقرار طويل الأمد والحد من الكراهية والعنف.
ونادى البيان بضرورة دعم المبادرات والجهود المبذولة في مجال تعزيز الحوار بين الأديان والطوائف كأحد المحاور الأساسية والمهمة في جدول الأعمال الدولي لبناء نظام عالمي قائم على العدل ونبذ الصراعات. وطالب البيان أيضاً بضرورة التضامن مع كل المجموعات الدينية والطوائف العرقية التي تعرضت لانتهاك حقوق الإنسان والعنف من قبل «المتطرفين» و«الإرهابيين»، ودعم الجهود الرامية إلى حماية اللاجئين وحقوقهم وكرامتهم، وتقديم كل المساعدات لهم.
وقالت مصادر بالأزهر، الذي شارك بوفد في المؤتمر، إن «الأحداث الإرهابية التي تحدث في كثير من دول العالم تجعلنا أمام تحدٍ متزايد لنقل صورة الإسلام الصحيحة أمام العالم»، مشيرة إلى أن «الجماعات الإرهابية تسعى بقوة لتأهيل جيل جديد من القتلة، لا يحملون في عقولهم ولا قلوبهم سوى المنهج الدموي؛ لذلك فإن المؤتمر هدف إلى التصدي لذلك».
البيان الختامي للمؤتمر طالب الشخصيات السياسية ووسائل الإعلام العالمية بالتوقف عن ربط الإرهاب بالدين؛ لأن هذه الممارسات تلحق الضرر بصورة الأديان والتعايش السلمي، وتضرب الثقة المتبادلة والتعاون بين أتباع الدين الواحد والأديان الأخرى.
كما دعا البيان زعماء الأديان إلى نشر قيم الإسلام، والتفاهم المتبادل والتسامح في وسائل الإعلام، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي والتجمعات الأهلية، وبذل الجهود لمنع الاستفزازات والعنف في الأماكن المقدسة لكل الأديان.
ورحب مشاركو المؤتمر بنوايا مواصلة عقد مؤتمر «زعماء الأديان» في آستانة... وأعلنوا عن استعدادهم لتعزيز الجهود للتوصل إلى استقرار طويل الأمد ومنع حوادث العنف بسبب الكراهية والعنف.
وبحسب محللين، بحث المؤتمر قضايا حساسة عدة، في مقدمتها، «تعزيز الأمن عبر الحوار، ونشر التسامح، وقيم الصداقة والتعايش السلمي، وتعزيز التعاون بين الأديان رداً على التهديد بالعنف».
من جانبه، أكد شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، أنه «من الظلم إلصاق الإرهاب بالإسلام وحده من بين سائر الأديان»، مشدداً على أن الإرهاب ليس صنيعة للإسلام أو الأديان؛ لكنه صنيعة سياسات عالمية جائرة ظالمة ضلت الطريق وفقدت الإحساس بآلام الآخرين من الفقراء والمستضعفين.
وأوضح الدكتور الطيب، أن التأمل الدقيق يوضح أن إمكانات المنطقة التقنية والتدريبية والتسليحية لا تكفي لتفسير ظهور الإرهاب بهذا الشكل المباغت، وبهذه القوة الهائلة التي تمكنه من التنقل واجتياز الحدود والكر والفر في أمان تام... وأن «حل أزمة عالمنا المعاصر تستوجب ضرورة العودة إلى الدين ومرجعيته، حارساً للأخلاق وضوابطها ومنقذاً لحضارتنا الحديثة ومكاسبها ومنجزاتها مما ينتظرها من مصير تؤكده سنن الله في سير الحضارات وتاريخ الأمم والشعوب، وبخاصة أن عالمنا اليوم يعاني من أزمة شديدة التعقيد، مركبة من الألم والتوتر والتوجس والجزع... وتوقع الأسوأ في كل يوم، حتى أصبح العنف المتبادل أشبه بأن يكون قانون العلاقات الدولية، أو لغة الحوار بين الغرب والشرق».
وأضاف الطيب، أن «الإرهاب مارس جرائمه البشعة تحت لافتة الإسلام، استهدف المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً، ولم يستهدف غيرهم إلا استثناءً من قاعدته التي روع بها المنطقة العربية بأسرها، واستهدف قطع رؤوس المسلمين وحدهم في صـور بشعة».
من جهته، أكد الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح في الإمارات، أن «المؤتمر أصبح بمثابة جسر للتفاهم والتعاون بين الزعماء الدينيين والسياسيين على مختلف مشاربهم؛ وهو ما جعله مصدر ثقة للكثير من الدول، إضافة إلى تعزيز روح التعاون وإظهار الالتزام العالمي بمكافحة كل أشكال التعصب الديني والتمييز والتحريض على العنف»، مشيداً بشعار المؤتمر لهذا العام وهو «القادة الدينيون لعالم آمن»، حيث يمثل رجال وعلماء الدين حجر الزاوية في دعم أفكار التسامح، والتعايش وقبول الآخر لدى فئات المجتمع المختلفة خاصة الشباب.
وقالت المصادر في الأزهر، إن «المؤتمر نجح في توصيل رسالته للعالم بدعم السلام، حيث لم يكن متاحاً في أول مؤتمر للقادة عقد عام 2003 أن يجلس ممثلو الدين اليهودي مع المسلمين على الطاولة المستديرة للمؤتمر؛ لكن نجح المؤتمر بعد ذلك في دعم مبادرات السلام والتسامح والقيم الأخرى».
وشارك في فعاليات المؤتمر الأخير 80 وفداً من 45 دولة، من بينها 20 وفداً إسلامياً، و15 مسيحياً... ومنح رئيس كازاخستان، نور سلطان نزارباييف، لأول مرة المجلس البابوي للفاتيكان جائزة الاشتراك في الحوار بين الأديان؛ لمساهمته البناءة في أهداف المؤتمر. مؤكداً أن غاية مؤتمر «قادة الأديان» تفعيل الحوار بين الأديان والحضارات. واعتبر الرئيس نزارباييف، أن «العاصمة آستانة منصة تلاقى على أرضها جميع القيادات الدينية باختلاف عقائدهم ومذاهبهم؛ بهدف التوافق ولمّ الشمل ونبذ الخلاف، الذي أصبح خطراً يهدد العالم الإسلامي، وما نتج منه من حروب أهلية».
فعاليات جلسات المؤتمر أكدت أهمية مواجهة التحديات الحالية بعدما شهدت العلاقات الدولية توتراً متزايداً. وأشارت الجلسات إلى أن التهديدات الأمنية وعدم السيطرة على حركة المهاجرين ومسارات تجارة المخدرات والجريمة المنظمة وتنامي ظاهرة عدم قبول الآخر وزيادة التعصب والتطرف الديني والإرهاب، تمثل تحديات كبيرة لدول العالم كافة... وهناك رؤية لدى المجتمع الدولي حول أهمية إنشاء نظام للأمن العالمي الذي يحول دون تفاقم الخلافات بين الحضارات والأديان.
كما ناقش المشاركون في الفعاليات ظاهرة العولمة، مؤكدين أن العولمة المتجسدة في صورة التغريب وتعميم الثقافات تدفع المجتمعات إلى تبني ممارسات حثيثة رامية إلى تعزيز الهوية الذاتية وتقوي الشعور بالوعي الذاتي الوطني والانتماء الثقافي والتاريخي والديني. وبحثوا أيضاً دور الزعماء والشخصيات السياسية في مواجهة التطرف والإرهاب، حيث أكدوا أن «الوضع الحالي في العالم يمثل مخاوف مشروعة، حيث يكتسب الإرهاب الدولي أبعاداً جديدة، وبخاصة أن الأعمال الإرهابية لم تعد منفردة؛ بل اتخذت طابع العداء ضد الإنسانية بأسرها».
وأوضحوا أن التنظيمات الراديكالية تستخدم التكنولوجيا الحديثة بشكل فاعل، وتكشف صراحة عن رغبتها في الحصول على صفة «كيان شبه رسمي»، وأن مواجهة الإرهاب والتطرف تعتبر مسؤولية المجتمع الدولي والدول والمجتمعات كافة.
وأكد المشاركون خلال فعاليات المؤتمر، أن الأديان تعد العنصر الحاسم في الصراعات الحضارية المتحكم في حدتها، حيث إن الأديان تتعامل بتحفظ شديد وثبات عند مواجهة الزحف الروحي الراديكالي. موضحين أن كازاخستان تسهم بنشاط في تهيئة الظروف لإقامة حوار بناء في مواجهة التطرف والإرهاب، وبشكل عام التصدي للتحديات القائمة والمستقبلية في مجال الأمن العالمي.
وعلى هامش الفعاليات، أوضح الدكتور فيصل بن معمر، الأمين العام لمركز الملك عبد الله للحوار، أنه يجب تعزيز قيم الحوار والسلم بين أتباع الديانات، حتى يساهم ذلك في تصحيح الرأي العام. داعياً المؤسسات العربية كافة إلى بناء شراكات علمية بين أطياف المجتمع العربي كافة، والخروج عن دائرة الحوارات النظرية إلى المجال العملي.


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.