قادة الأديان... صوت الوسطية لمكافحة التعصب

مشاركون من 45 دولة اجتمعوا في آستانة لتعزيز الحوار ودعم أفكار التسامح

قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)
قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)
TT

قادة الأديان... صوت الوسطية لمكافحة التعصب

قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)
قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)

راهن خبراء ومتابعون على أن القادة الدينيين في العالم عليهم دور كبير في نشر صوت الوسطية لتعزيز الحوار ومكافحة التعصب الديني، الذي تسعى إليه بعض التنظيمات المتشددة داخل المجتمعات. لذلك؛ اجتمع أخيراً نخبة من كبار القيادات الدينية، وساسة بارزون في قمة «قادة الأديان العالمية والتقليدية» في العاصمة آستانة، تحت شعار «القادة العالميون لعالم آمن». المجتمعون من 45 دولة أكدوا، أن «تمويل الإرهاب يضرب الثقة المتبادلة بين أتباع الأديان وأتباع الدين الواحد». ودعوا إلى مساعدة كل المجتمعات والشعوب بصرف النظر عن العرق والدين والمعتقدات واللغة والجنس للعيش في حياة سلمية.

يتجمع «قادة العالم والأديان التقليدية» في قصر السلام بمدينة آستانة عاصمة جمهورية كازاخستان مرة كل ثلاث سنوات... وانطلق المؤتمر في دورته الأولى عام 2003، ومؤتمر هذا العام هو النسخة السادسة، وقد ساهمت المؤتمرات السابقة في جذب واستقطاب المفاهيم المتزايدة للحوار بين الأديان من قبل الكثير من المؤسسات في جميع أنحاء العالم.
ويشار إلى أن اختيار آستانة مقراً للحوار بين الزعماء الدينيين، لأن المدينة ترمز للدولة الكازاخية متعددة الأديان والأعراق، ويتكون الطيف الديني فيها من 18 ديناً وطائفة، ونحو 3800 جمعية دينية.
البيان الختامي للمؤتمر، والمعروف بـ«إعلان آستانة»، شجب كل أشكال الزج بالدين في الصراعات السياسية، وكل مظاهر الأنانية والتعصب والقومية العدوانية ودعاوى التمييز. وأكد التمسك بسيادة الأخلاقيات العليا ووحدة مساعي الدول نحو إقرار التعاون والاحترام المتبادل من أجل استقرار ورخاء وأمن كل البشر... وتعزيز جهود «زعماء الأديان العالمية والتقليدية» بشأن التوصل إلى استقرار طويل الأمد والحد من الكراهية والعنف.
ونادى البيان بضرورة دعم المبادرات والجهود المبذولة في مجال تعزيز الحوار بين الأديان والطوائف كأحد المحاور الأساسية والمهمة في جدول الأعمال الدولي لبناء نظام عالمي قائم على العدل ونبذ الصراعات. وطالب البيان أيضاً بضرورة التضامن مع كل المجموعات الدينية والطوائف العرقية التي تعرضت لانتهاك حقوق الإنسان والعنف من قبل «المتطرفين» و«الإرهابيين»، ودعم الجهود الرامية إلى حماية اللاجئين وحقوقهم وكرامتهم، وتقديم كل المساعدات لهم.
وقالت مصادر بالأزهر، الذي شارك بوفد في المؤتمر، إن «الأحداث الإرهابية التي تحدث في كثير من دول العالم تجعلنا أمام تحدٍ متزايد لنقل صورة الإسلام الصحيحة أمام العالم»، مشيرة إلى أن «الجماعات الإرهابية تسعى بقوة لتأهيل جيل جديد من القتلة، لا يحملون في عقولهم ولا قلوبهم سوى المنهج الدموي؛ لذلك فإن المؤتمر هدف إلى التصدي لذلك».
البيان الختامي للمؤتمر طالب الشخصيات السياسية ووسائل الإعلام العالمية بالتوقف عن ربط الإرهاب بالدين؛ لأن هذه الممارسات تلحق الضرر بصورة الأديان والتعايش السلمي، وتضرب الثقة المتبادلة والتعاون بين أتباع الدين الواحد والأديان الأخرى.
كما دعا البيان زعماء الأديان إلى نشر قيم الإسلام، والتفاهم المتبادل والتسامح في وسائل الإعلام، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي والتجمعات الأهلية، وبذل الجهود لمنع الاستفزازات والعنف في الأماكن المقدسة لكل الأديان.
ورحب مشاركو المؤتمر بنوايا مواصلة عقد مؤتمر «زعماء الأديان» في آستانة... وأعلنوا عن استعدادهم لتعزيز الجهود للتوصل إلى استقرار طويل الأمد ومنع حوادث العنف بسبب الكراهية والعنف.
وبحسب محللين، بحث المؤتمر قضايا حساسة عدة، في مقدمتها، «تعزيز الأمن عبر الحوار، ونشر التسامح، وقيم الصداقة والتعايش السلمي، وتعزيز التعاون بين الأديان رداً على التهديد بالعنف».
من جانبه، أكد شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، أنه «من الظلم إلصاق الإرهاب بالإسلام وحده من بين سائر الأديان»، مشدداً على أن الإرهاب ليس صنيعة للإسلام أو الأديان؛ لكنه صنيعة سياسات عالمية جائرة ظالمة ضلت الطريق وفقدت الإحساس بآلام الآخرين من الفقراء والمستضعفين.
وأوضح الدكتور الطيب، أن التأمل الدقيق يوضح أن إمكانات المنطقة التقنية والتدريبية والتسليحية لا تكفي لتفسير ظهور الإرهاب بهذا الشكل المباغت، وبهذه القوة الهائلة التي تمكنه من التنقل واجتياز الحدود والكر والفر في أمان تام... وأن «حل أزمة عالمنا المعاصر تستوجب ضرورة العودة إلى الدين ومرجعيته، حارساً للأخلاق وضوابطها ومنقذاً لحضارتنا الحديثة ومكاسبها ومنجزاتها مما ينتظرها من مصير تؤكده سنن الله في سير الحضارات وتاريخ الأمم والشعوب، وبخاصة أن عالمنا اليوم يعاني من أزمة شديدة التعقيد، مركبة من الألم والتوتر والتوجس والجزع... وتوقع الأسوأ في كل يوم، حتى أصبح العنف المتبادل أشبه بأن يكون قانون العلاقات الدولية، أو لغة الحوار بين الغرب والشرق».
وأضاف الطيب، أن «الإرهاب مارس جرائمه البشعة تحت لافتة الإسلام، استهدف المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً، ولم يستهدف غيرهم إلا استثناءً من قاعدته التي روع بها المنطقة العربية بأسرها، واستهدف قطع رؤوس المسلمين وحدهم في صـور بشعة».
من جهته، أكد الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح في الإمارات، أن «المؤتمر أصبح بمثابة جسر للتفاهم والتعاون بين الزعماء الدينيين والسياسيين على مختلف مشاربهم؛ وهو ما جعله مصدر ثقة للكثير من الدول، إضافة إلى تعزيز روح التعاون وإظهار الالتزام العالمي بمكافحة كل أشكال التعصب الديني والتمييز والتحريض على العنف»، مشيداً بشعار المؤتمر لهذا العام وهو «القادة الدينيون لعالم آمن»، حيث يمثل رجال وعلماء الدين حجر الزاوية في دعم أفكار التسامح، والتعايش وقبول الآخر لدى فئات المجتمع المختلفة خاصة الشباب.
وقالت المصادر في الأزهر، إن «المؤتمر نجح في توصيل رسالته للعالم بدعم السلام، حيث لم يكن متاحاً في أول مؤتمر للقادة عقد عام 2003 أن يجلس ممثلو الدين اليهودي مع المسلمين على الطاولة المستديرة للمؤتمر؛ لكن نجح المؤتمر بعد ذلك في دعم مبادرات السلام والتسامح والقيم الأخرى».
وشارك في فعاليات المؤتمر الأخير 80 وفداً من 45 دولة، من بينها 20 وفداً إسلامياً، و15 مسيحياً... ومنح رئيس كازاخستان، نور سلطان نزارباييف، لأول مرة المجلس البابوي للفاتيكان جائزة الاشتراك في الحوار بين الأديان؛ لمساهمته البناءة في أهداف المؤتمر. مؤكداً أن غاية مؤتمر «قادة الأديان» تفعيل الحوار بين الأديان والحضارات. واعتبر الرئيس نزارباييف، أن «العاصمة آستانة منصة تلاقى على أرضها جميع القيادات الدينية باختلاف عقائدهم ومذاهبهم؛ بهدف التوافق ولمّ الشمل ونبذ الخلاف، الذي أصبح خطراً يهدد العالم الإسلامي، وما نتج منه من حروب أهلية».
فعاليات جلسات المؤتمر أكدت أهمية مواجهة التحديات الحالية بعدما شهدت العلاقات الدولية توتراً متزايداً. وأشارت الجلسات إلى أن التهديدات الأمنية وعدم السيطرة على حركة المهاجرين ومسارات تجارة المخدرات والجريمة المنظمة وتنامي ظاهرة عدم قبول الآخر وزيادة التعصب والتطرف الديني والإرهاب، تمثل تحديات كبيرة لدول العالم كافة... وهناك رؤية لدى المجتمع الدولي حول أهمية إنشاء نظام للأمن العالمي الذي يحول دون تفاقم الخلافات بين الحضارات والأديان.
كما ناقش المشاركون في الفعاليات ظاهرة العولمة، مؤكدين أن العولمة المتجسدة في صورة التغريب وتعميم الثقافات تدفع المجتمعات إلى تبني ممارسات حثيثة رامية إلى تعزيز الهوية الذاتية وتقوي الشعور بالوعي الذاتي الوطني والانتماء الثقافي والتاريخي والديني. وبحثوا أيضاً دور الزعماء والشخصيات السياسية في مواجهة التطرف والإرهاب، حيث أكدوا أن «الوضع الحالي في العالم يمثل مخاوف مشروعة، حيث يكتسب الإرهاب الدولي أبعاداً جديدة، وبخاصة أن الأعمال الإرهابية لم تعد منفردة؛ بل اتخذت طابع العداء ضد الإنسانية بأسرها».
وأوضحوا أن التنظيمات الراديكالية تستخدم التكنولوجيا الحديثة بشكل فاعل، وتكشف صراحة عن رغبتها في الحصول على صفة «كيان شبه رسمي»، وأن مواجهة الإرهاب والتطرف تعتبر مسؤولية المجتمع الدولي والدول والمجتمعات كافة.
وأكد المشاركون خلال فعاليات المؤتمر، أن الأديان تعد العنصر الحاسم في الصراعات الحضارية المتحكم في حدتها، حيث إن الأديان تتعامل بتحفظ شديد وثبات عند مواجهة الزحف الروحي الراديكالي. موضحين أن كازاخستان تسهم بنشاط في تهيئة الظروف لإقامة حوار بناء في مواجهة التطرف والإرهاب، وبشكل عام التصدي للتحديات القائمة والمستقبلية في مجال الأمن العالمي.
وعلى هامش الفعاليات، أوضح الدكتور فيصل بن معمر، الأمين العام لمركز الملك عبد الله للحوار، أنه يجب تعزيز قيم الحوار والسلم بين أتباع الديانات، حتى يساهم ذلك في تصحيح الرأي العام. داعياً المؤسسات العربية كافة إلى بناء شراكات علمية بين أطياف المجتمع العربي كافة، والخروج عن دائرة الحوارات النظرية إلى المجال العملي.


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.