دينيا... العاصمة الإسبانية الجديدة للطعام

صدّرت الزبيب والنكهة إلى العالم

دينيا... العاصمة الإسبانية الجديدة للطعام
TT

دينيا... العاصمة الإسبانية الجديدة للطعام

دينيا... العاصمة الإسبانية الجديدة للطعام

من قلعة دينيا Denia في إسبانيا الواقعة أعلى جبلها يمكنك رؤية من جانب جمال البحر الأبيض المتوسط، الذي يشتهر بالدرجات المتنوعة من اللون الأزرق التي تزينها أشعة الشمس. من الجانب الآخر، تحتفظ المدينة بفخر بتراثها العربي إلى جانب حضارات أخرى، حيث تم توثيق سجلات متعلقة بهذا التراث تعود إلى القرن الحادي عشر. يقع الجزء الأكبر من هذه القلعة الضخمة في الخارج، وتم بناؤها من الحجارة الصفراء، ولها نوافذ صغيرة وشرفات عدة التي لا يمكن للسائحين والسكان المحليين الاستمتاع من خلالها بمشهد مبهر فحسب، بل بمساحة للاسترخاء. عند النزول من القلعة إلى المدينة سوف تكتشف مدينة صاخبة نابضة بالحياة يسكنها نحو ثلاثة وأربعين ألف نسمة، ذات شوارع صغيرة جميلة مرصوفة بالحصى، ومنازل ملونة، ونوافذ وشرفات تملؤها الزهور. وقد أصبحت المدينة منذ عام 2015 من بين مجموعة اختارتها منظمة اليونيسكو من المدن المبدعة في عالم الطعام والطهي. يعني ذلك ويدل على تميز وجودة وتنوع وتقليدية المطابخ في هذه المدينة، التي تقع بين فالنسيا وأليكانتي، على ساحل كوستا بلانكا لإسبانيا. الكثير من لافتات المدينة الإرشادية وأسماء شوارعها مكتوبة باللغة الفالنسية المحلية الخاصة بهذه المنطقة.
النكهات فريدة بشكل لا يدع مجالاً للشك، رغم أن الحديث عن التنوع الهائل أصناف الطعام الإسبانية وتفردها أمر بديهي. تزخر المدينة بالمطاعم، بعضها شهير، وبعضها الآخر كبير، إلى جانب تواجد بعض المطاعم الصغيرة التي تديرها عائلات، لكن السمة المشتركة بينهم جميعاً هي تقديمهم لطبق «البايلا» الفالنسي اللذيذ المكون من السمك والأرز. ويعد ذلك الطبق واحداً من الأطباق المميزة التي تشتهر بها المدينة، إضافة إلى القريدس الأحمر من دانية وهو أكبر وألذ من القريدس العادي. يقول فلورين تيراديس، مدير السياحة في المدينة، «إن البايلا وجبة مرتبطة بالبحر والحديقة». وهي من الوجبات التقليدية، ورغم وجود بعض المطاعم التي تميل نحو التجديد والابتكار، يعد السبب الأساسي لاختيار اليونيسكو للمدينة هو الحفاظ على المعرفة التقليدية الخاصة بكل من طرق وأساليب الطهي، وكيفية إعداد منتجات غذائية مثل الزبيب. كانت دينيا خلال القرن التاسع عشر من المدن المنتجة والمصدرة للزبيب إلى إنجلترا والولايات المتحدة الأميركية وأستراليا». وأكد فيسينت غريمالت، عمدة بلدة دينيا، في حوار مع صحيفة «الشرق الأوسط» قائلاً: «ليس الطعام هو كل شيء في دينيا، فهناك العمل الذي يثمر المنتج في النهاية، واستعادة التقاليد، وبعض المحاصيل مثل أنواع من القمح المناسبة لإعداد نوع خاص من الدقيق كان يتم إنتاجه في الماضي».
من سمات إدراج اليونيسكو للمدينة على قائمة المدن المبدعة المرموقة في الطعام، هي استعادة المنتجات التي تمثل تقاليد المنطقة مثل أرز «البومبون»، الذي يتميز بشكل حبته الدائري، وهذا أمر مميز لأنه يمتص النكهات التي تتم إضافتها إلى الطبق بشكل كامل.
إذا تناول المرء الطعام في المطاعم المحلية سوف يكتشف التنوع الهائل لأطباق الأرز، ومن أبرزها الأرز الأسود الذي يكتسب لونه من حبر الحبّار، والأرز مع القنبيط وسمك القد، وطبق الـ«فيدوا»، وهو طبق لذيذ يشبه طبق «البايلا»، لكن مع الشعرية الرفيعة، ويتكون من مأكولات بحرية مثل قريدس دينيا وبلح البحر، ولونه برتقالي مائل إلى الأصفر بسبب إضافة الزعفران. كان صيادو الأسماك هم من يأكلون بالأساس هذا الطبق الرائع، ويعود التقليد الخاص بتلك الأطباق إلى القرن الثامن عشر.
يمثل الطعام في بلدة دينيا النظام الغذائي للبحر الأبيض المتوسط، الذي يتضمن المأكولات البحرية، والخضراوات والفواكه الطازجة، والأرز، وهو ليس لذيذاً فحسب، بل صحي أيضاً. ويوجد في دينيا حالياً أكثر من 438 مطعماً وكافتريا؛ مما يعني أنه في كل ركن من المدينة يمكنك العثور على مكان مناسب جيد لتناول الطعام. وما يدل على صحة ذلك، هو أن من بين العشرين مطعماً الحاصلين على نجمة «ميشلان» في منطقة فالنسيا يوجد ثمانية مطاعم في بلدة دينيا.
وتعمل المنطقة، بإلهام من تصنيف اليونيسكو، على إعادة إحياء طبق بسيط وعملي للغاية يسمى «كوكا» وهو طبق يتم إعداده من مكونات بسيطة، مثل الدقيق والماء والزيت. وتتم إضافة سمك صغير، مثل الأنشوفة (الأنشوجة)، والتونة إلى ذلك الخليط، إضافة إلى الخضراوات. كانت النساء في السابق يقمن بإضافة أي مكون لديهن إلى عجين الكوكا؛ نظراً لكونه رخيصاً جداً وسهل الإعداد. يقول العمدة «نقول إن هذا الطبق هو أصل البيتزا، لكنه أصغر».
ويعد فن تناول الطعام عنصراً أساسياً من العناصر المكونة لهوية بلدة دانية، حيث يوجد وقت لتناول وجبة إضافة إلى الإفطار والغداء والعشاء، وهو «إيسمورزار» وهي كلمة فالنسية تشير إلى الوجبة الخفيفة التي عادة ما تكون شطيرة يتم تناولها خلال الفترة الفاصلة بين وجبتي الإفطار والغداء.
- الطابع العربي
بحسب السجلات والوثائق التاريخية في دينيا، تم طرد آخر العرب الإسبان خلال القرن التاسع عشر من مينائها. ومن المعروف تاريخياً أن البلدة قد اضطلعت بدور رئيسي في حركة التجارة بالبحر الأبيض المتوسط؛ فخلال العصر الذهبي للبلدة كانت تمثل المركز الذي يتم منه شحن الحرير إلى ميناء الإسكندرية في مصر. توضح المؤرخة روزر كابريرا، أن التراث الذي خلّفه أولئك العرب وراءهم في البلدة قد مثّل «تأثيراً جيداً هائلاً، وبخاصة بالنسبة للزراعة؛ نظراً لمعرفة العرب بالكثير عن الري واستغلال الأرض».
ويتجلى هذا التأثير في مجال الزراعة بشكل كبير في زراعة الأرز والزبيب بوجه خاص، حيث توضح المؤرخة قائلة «تتم عملية إعداد الزبيب من العنب بالطريقة نفسها التي كان يستخدمها المسلمون. زرع المسيحيون العنب لإعداد النبيذ وفعل المسلمون ذلك، لكن لإنتاج الزبيب.
وجاءت لحظة خلال القرن التاسع عشر غادر فيها المسلمون مخلفين وراءهم فراغاً». وتضيف قائلة «لدينا الكثير من الكلمات ذات الأصول العربية في الزراعة، مثل الجب، وهي طريقة لجمع مياه الأمطار». بطبيعة الحال لا تزال أطباق العرب من الحلوى والكعك مع اللوز والعسل حاضرة في هذه المدينة، وهي من الأصناف اللذيذة التي ستسعد من يزور المدينة.


مقالات ذات صلة

وزيرة سويدية تعاني «رهاب الموز»... وموظفوها يفحصون خلو الغرف من الفاكهة

يوميات الشرق رهاب الموز قد يسبب أعراضاً خطيرة مثل القلق والغثيان (رويترز)

وزيرة سويدية تعاني «رهاب الموز»... وموظفوها يفحصون خلو الغرف من الفاكهة

كشفت تقارير أن رهاب وزيرة سويدية من الموز دفع المسؤولين إلى الإصرار على أن تكون الغرف خالية من الفاكهة قبل أي اجتماع أو زيارة.

«الشرق الأوسط» (ستوكهولم)
صحتك رجل يشتري الطعام في إحدى الأسواق الشعبية في بانكوك (إ.ب.أ)

دراسة: 3 خلايا عصبية فقط قد تدفعك إلى تناول الطعام

اكتشف باحثون أميركيون دائرة دماغية بسيطة بشكل مذهل تتكوّن من ثلاثة أنواع فقط من الخلايا العصبية تتحكم في حركات المضغ لدى الفئران.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق خبراء ينصحون بتجنب الوجبات المالحة والدهنية في مبنى المطار (رويترز)

حتى في الدرجة الأولى... لماذا يجب عليك الامتناع عن تناول الطعام على متن الطائرات؟

كشف مدرب لياقة بدنية مؤخراً أنه لا يتناول الطعام مطلقاً على متن الطائرات، حتى إذا جلس في قسم الدرجة الأولى.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق قطع من الجبن عُثر عليها ملفوفة حول رقبة امرأة (معهد الآثار الثقافية في شينغيانغ)

الأقدم في العالم... باحثون يكتشفون جبناً يعود إلى 3600 عام في مقبرة صينية

اكتشف العلماء أخيراً أقدم قطعة جبن في العالم، وُجدت ملقاة حول رقبة مومياء.

«الشرق الأوسط» (بكين)
يوميات الشرق التفوُّق هو الأثر أيضاً (أ.ف.ب)

الشيف دانييل هوم... أرقى الأطباق قد تكون حليفة في حماية كوكبنا

دانييل هوم أكثر من مجرّد كونه واحداً من أكثر الطهاة الموهوبين في العالم، فهو أيضاً من المدافعين المتحمّسين عن التغذية المستدامة، وراهن بمسيرته على معتقداته.

«الشرق الأوسط» (باريس)

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين
TT

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

لقمة خبز قد تأسر القلب، ترفع الحدود وتقرب الشعوب، هكذا يمكن وصف التفاعل الدافئ من المصريين تجاه المطبخ السوداني، الذي بدأ يغازلهم ووجد له مكاناً على سفرتهم.

هذه الأرغفة البيضاء الصغيرة، التي يصف مصريون مذاقها بأنها «أطيب من الكيك»، في إشارة لطيب المذاق، تعد مثالاً يعكس مدى الانسجام الثقافي الذي تجاوز الحدود.

مع تداعيات الحرب التي شهدها السودان، والتي أدت إلى عمليات نزوح كبيرة إلى مصر، لم يتوقف الأمر عند مرحلة سرد الآلام والمآسي، بل تحول سريعاً إلى اندماج السودانيين في سوق الطعام المصري، وخلال أقل من عامين أثبت المطبخ السوداني وجوداً نسبياً في مصر.

بمجرد أن تطأ قدمك شارع فيصل (أحد أشهر شوارع محافظة الجيزة) يمكنك الاستدلال على الوجود السوداني من رائحة التوابل العميقة الصادرة من مطاعم أسسها سودانيون، يستهدفون بها زبوناً مصرياً يتوق إلى مذاق شعبي في وصفات، مثل صينية البطاطس، ويختلف تماماً ليقدم هويته في طبق آخر مثل أسياخ «الأقاشي»، المصنوعة من اللحم الطري الغارق في توابل مثل الزنجبيل والقرفة، مع طبقات البقسماط المقرمش، التي تغازل المصريين.

تقول السودانية، فداء محمود أنور، خريجة إدارة أعمال من جامعة الخرطوم ومؤسسة مطعم «بنت السودان» في حي مدينة نصر، شرق القاهرة، إن المصريين «احتضنوا المطبخ السوداني بسبب وجود أواصر اجتماعية وثقافية بين البلدين».

وأوضحت، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، من داخل مطعمها البسيط: «نقدم أكلات سودانية أصيلة، مثل الفول بزيت السمسم، والفلافل السودانية المصنوعة من الكبكبي (الحمص بلغة المصريين)، والأقاشي، وهو طبق شهير في السودان، إضافةً إلى الفسيخ السوداني والملوخية المفروكة وملاح الروب الأحمر».

وعن الأطباق شديدة الخصوصية، يقدم مطعم الشابة السودانية فداء طبقاً حبشياً، قالت عنه: «هناك أيضاً طبق ذو أصل حبشي أصبح جزءاً من المائدة السودانية يسمى (زغني)، وهو عبارة عن قطع الدجاج المبهرة بالقرفة والثوم والبصل والحبهان، كما يضاف له المذاق الحار بالشطة السودانية، وكذلك مذاق الحادق من خلال رشة السماق، ويقدم مع البيض المسلوق». فضلاً عن طبق الحلو السوداني الشهير «الباسطة»، أو ما يعرف بالبقلاوة في مصر.

وبحسب تجربتها، قالت فداء إن تفضيلات المصريين من المطبخ السوداني تميل إلى بعض الأطباق الأساسية التي ربما لا يختلف عليها السودانيون أيضاً، مثل: الخبز السوداني، والأقاشي، والفلافل، وأطباق الفول بالخلطات السودانية. أما باقي الأطباق، فالإقبال عليها محدود.

طعمية (فلافل) سودانية (الشرق الاوسط)

والبعد الجغرافي بين مصر والسودان انعكس في تقارب ثقافي، ظهر في المذاق المميز للمطبخين. ترى منة جمال، مصرية تعيش في حي السادس من أكتوبر، الذي يضم عدداً من المطاعم السودانية، أن المطبخ السوداني قريب من نظيره المصري، وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «الخبز السوداني شبيه ببعض أنواع الخبز في الريف المصري، ربما يختلف في السُمك والحجم فقط ».

وعن الاختلاف بين المطبخين، قالت: «السودانيون يميلون إلى المذاق العميق والحار، بإضافة كميات كبيرة من التوابل، كما أن الفلفل الحار أساسي في عدد كبير من الأطباق السودانية، بينما يميل المصريون إلى إضافة التوابل الأساسية فقط، مثل الملح والفلفل والكمون».

الباسطا حلوى سودانية (الشرق الاوسط)

وبالعودة إلى فداء، فإنها أيضاً كسودانية وقعت في حب المطبخ المصري، وتروي تجربتها بالقول: «أنا من عشاق محشي ورق العنب، والكرنب، والباذنجان بالدقة، أحب تناوله مع الفلافل السودانية. أيضاً معظم السودانيين يحبون المحشي والملوخية المصرية».

الأطباق السودانية لم تعرف طريقها إلى المصريين من خلال المطاعم التجارية فحسب، بينما ساهم في رواجها نساء سودانيات كنّ قبل النزوح ربات منزل، إلا أنهن، مثل كثير من نساء الشرق، يعتبرن الطهي مهارة أساسية. ومع وصولهن إلى مصر وبحثهن عن سبل لكسب العيش، تحول الطهي إلى مهنة تحت شعار «أكل بيتي سوداني».

التقت «الشرق الأوسط» بفاطمة (اسم مستعار)، التي نزحت بعد الحرب وجاءت إلى القاهرة بصحبة عدد من الأسر السودانية، وتقيم حالياً في مدينة «الرحاب» التي تعد من المناطق ذات الإيجارات المرتفعة، حيث تشارك السكن مع 4 أسر سودانية أخرى. منذ عام، بدأت فاطمة بتقديم خدمات «الأكل البيتي» من منزلها بمساعدة بعض السيدات المقيمات معها.

تقول «فاطمة»: «جاءت الفكرة عندما لاحظت انتشار مشروعات الأكل البيتي في مصر، خاصة في الأحياء الراقية. فأنشأت حساباً على (فيسبوك)، بدأت من خلاله تقديم خدمات الأكل السوداني». وأردفت: «المصريون يحبون المطبخ السوداني، خاصة تلك الوصفات القريبة من مطبخهم، على شاكلة المحشي، كذلك تحظى أصناف اللحم المبهر بإعجاب كبير».

وأوضحت فاطمة أنها سعت إلى تقديم مزيج من الأكلات السودانية والمصرية، قائلة: «أستهدف زبونات مصريات عاملات يبحثن عن بدائل للطهي المنزلي. لذلك، لم أكتفِ بالوصفات السودانية فقط، بل تعلمت إعداد الأكلات المصرية، وهو أمر لم يكن صعباً على سودانية تربطها بمصر أواصر ثقافية واجتماعية، إذ كانت مصر والسودان في مرحلة ما من التاريخ بلداً واحداً».

تمكنت فاطمة من تقديم تجربة طعام بيتي فريدة، تجمع بين نكهات المطبخين السوداني والمصري، مستقطبةً كثيراً من الأسر المصرية التي تبحث عن طعام منزلي بطابع خاص. ومن خلال تجربتها، كشفت فاطمة عن مدى التداخل الثقافي بين المطبخين، ما يمهد الطريق لمزيد من الاندماج وابتكار وصفات جديدة قد تظهر في المستقبل القريب.