مسيرة هشام عشماوي في عالم الإرهاب

كيف تحوّل ضابط الجيش المصري السابق إلى قيادي في الجماعات المتطرفة

مسيرة هشام عشماوي في عالم الإرهاب
TT

مسيرة هشام عشماوي في عالم الإرهاب

مسيرة هشام عشماوي في عالم الإرهاب

يروي مصدر قبلي ليبي من مدينة درنة عن هشام عشماوي، الضابط المصري الفار الذي تحوّل إلى قيادي في الجماعات المتطرفة، والذي ألقي عليه القبض أخيراً، أن عشماوي «لم يكن يعطي إجابات قاطعة أبداً... كنت أسأله. هل أنت من جماعة الإخوان؟ فيبتسم، ويهز رأسه. هل أنت من جماعة (حازمون)؟ فيهز رأسه أيضاً مع الابتسامة نفسها. لكن لا تعرف إن كان هذا يعني نعم أم لا. كان أيضاً ينفق ببذخ. حين يرسل لشراء تموين لجماعته من سوق درنة، يخرج أموالاً كثيرة».

تختصر حكاية المتطرف المصري، هشام عشماوي، الذي ألقت قوات الجيش الليبي القبض عليه يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، كثيراًَ من الأحداث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذ أعطت الانتفاضات الشعبية في دول عدة في 2011، قُبلة الحياة لعودة جماعات متشددة للعمل على ساحة المنطقة بكل حرية.
لقد استهوت واحدة من هذه الجماعات ذات الطابع الخاص، هي جماعة «حازمون»، عشماوي الضابط المفصول من الخدمة بالقوات المسلحة المصرية. وللعلم، يمتلك مؤسس جماعة «حازمون»، حازم صلاح أبو إسماعيل، خلفية ذات طابع سياسي وديني واجتماعي، فعائلته في شمال القاهرة، لها باع طويل في تقديم الخدمات العامة للفقراء. وكان والد حازم محامياً مشهوراً، ونائباً في البرلمان، وله منشآت تعليمية أقامها في الماضي على نفقته الخاصة. وتشبه هذه الأعمال الخدمية، ما اعتمدت عليه جماعة الإخوان المسلمين في كسب الأنصار، خصوصاً في مواسم الانتخابات العامة.
وكان حازم صلاح أبو إسماعيل يسعى، ومعه هشام عشماوي وضباط فصلوا من الجيش والشرطة، لمنافسة الجميع في انتخابات الرئاسة المصرية في عام 2012، بما في ذلك جماعة الإخوان. ويقول الدكتور ناجح إبراهيم، المنظّر السابق للجماعة الإسلامية: «لو تمكن أبو إسماعيل من خوض الانتخابات لربما فاز فيها. كان لديه وجه طفولي ويتكلم لغة بسيطة وعفوية... كان كثير من المصريين معجبين به». ويضيف مصدر أمني مصري: «كان عشماوي من الأعضاء الأساسيين لحملة أبو إسماعيل الرئاسية».
ويقبع أبو إسماعيل في السجن بالقاهرة حالياً، لصلته بأحداث متطرفة شهدتها مصر عقب الإطاحة بحكم الدكتور محمد مرسي. وبحسب شهادات من شخصيات لها علاقات بجماعات المتطرفين في شرق ليبيا، ومن بينها جماعة عشماوي نفسه، كانت الصفات التي يتحلى بها الأخير شبيهة إلى حد كبير بصفات أبو إسماعيل الخادعة، أي البسيطة وغير الصدامية.

«صداع» للدولة المصرية

ومنذ دخوله ليبيا قبل 4 سنوات، حتى القبض عليه أخيراً، ظل عشماوي (40 سنة)، بمثابة صداع في رأس الدولة المصرية. فهو ضابط سابق لديه خبرة بكثير من المعسكرات والمقار الأمنية المهمة في عموم البلاد. ثم إنه متهم بمحاولة اغتيال وزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم، واستهداف كنائس ومواقع عامة، وتفجير مديرية الأمن بمحافظة الغربية، وتنفيذ أكبر عمليات ضد الأمن الوطني والجيش في منطقة الواحات غرباً وفي سيناء شرقاً، وكذلك الهجوم على مقر على الأقل للاستخبارات في مدينة بلبيس.
مصدر عسكري مصري أوضح أنه يجري في الوقت الراهن التنسيق مع الجانب الليبي لتسلم عشماوي، مشيراً إلى أنه ارتكب جرائم في حق الليبيين أيضاً، وترى السلطات هناك أن تستجوبه أولاً. بينما يقول العميد أركان حرب أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الليبي، إن «عشماوي أسهم بشكل مباشر في قتل مئات الليبيين... لقد أودعناه أحد السجون لكي يخضع للتحقيق». وحول هذا الأمر يرى الدكتور إبراهيم: «كان عشماوي عدو الجميع، والجميع يطلبه».
عام 2012، لم يتمكن أبو إسماعيل من إدراج اسمه في لائحة المرشحين للانتخابات الرئاسية في مصر، لأسباب تتعلق بحمل والدته الجنسية الأميركية، وهو أمر يمنعه القانون على المرشحين. فوقفت جماعته التي كانت تجوب شوارع القاهرة في مسيرات مخيفة ومدمرة، مع جماعة الإخوان. ويقول أحد من عملوا مع عشماوي في حملة أبو إسماعيل، إن هذا الضابط السابق لم يكن متحمساً لوقوف أبو إسماعيل مع الإخوان، لكنه لم يصطدم مع أحد، بل نأى بنفسه عن أي جدل، وانتقل إلى سيناء التي يعرفها جيداً منذ كان رائداً في قوات الصاعقة. ومن هناك نشط مع الجماعات المتشددة التي عرفت وقتها باستهداف خط الغاز المصري العابر، من سيناء إلى الأردن وإسرائيل.

فترة رئاسة مرسي

محمد مرسي القادم من جماعة الإخوان فاز يومذاك بمنصب رئيس الجمهورية، والتفت حوله معظم التيارات الإسلامية الأخرى، بما فيها القطاع المتشدد في الجماعة الإسلامية بقيادة عاصم عبد الماجد (هارب خارج مصر)، وأيضاً تيارات عرفت باسم التيار المدني وتيار الاشتراكيين الثوريين. لكن معظم هذه الروابط انتهت سريعاً وانفضّت من حول مرسي، ومنها حزب النور (الديني) وأحزاب عدة اقترنت بأسماء مشهورة مثل الدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وحمدين صباحي المرشح الرئاسي الاشتراكي السابق في مصر، خصوصاً بعدما أصبحت العمليات في سيناء ضد الجيش والشرطة مثيرة للقلق.
لقد ضعضع صراع داخلي مكتوم، كتلة الإسلاميين، خلال السنة التي حكم فيها مرسي مصر، مثلما حدث عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان الخلاف الأساسي يدور حول مدى الالتزام بفكر منظر جماعة الإخوان المتطرف سيد قطب. وبرز فريق داخل الإخوان يحاول تطبيق أفكار قطب التكفيرية وهو أمر يستهوي جماعات متشددة، تمتد من جبل الشعانبي في تونس إلى وديان سيناء، وهي الجماعات التي التحق بها عشماوي. وفي المقابل، كان هناك فريق آخر يدعو إلى التمسك بالإصلاحات و«الاعتدال»، وهي مصطلحات نَحَتَها داخل الجماعة مرشدها الأسبق عمر التلمساني عقب خروج ألوف من أتباع الجماعة من السجن إبان عهد الرئيس الراحل أنور السادات. ولقد تأثر بها دعاة من الإخوان في السودان وتونس وغيرها، لكنها لم تصمد بعد انتكاسة حكم الإسلاميين أخيراً.
وفق الدكتور ناجح إبراهيم: «فكر عشماوي، هو نفسه فكر القيادي الإسلامي المتشدد رفاعي سرور، المتوفى في 2012». ويضيف أن رفاعي سرور هو أحد أهم تلاميذ الشيخ سيد قطب الأخيرين، وهو صاحب الفكر التكفيري الانقلابي. وللعلم، عاش ناجح إبراهيم مع رفاعي سرور 3 سنوات، ويقول عنه إنه «المفكر الأساسي لمثل هذه الجماعات (التكفيرية)، ويعتمد على أسلوب أدبي (جذاب) في الكتابة». ويضيف: «هذه المجموعات كانت وقتها بعيدة عن الإخوان، وكانت تؤيد (حازمون)، بعد ثورة 2011، ظناً منها أنه أقرب إليها. لقد كان فكرها مضاداً لفكر الإخوان»، مشيراً إلى أن فكر الإخوان حتى ذلك الوقت لم يكن قد تحول إلى تأييد منهج سيد قطب بالشكل السافر الذي أصبح عليه في السنوات الأخيرة. أي بعد فشل تجربة حكم الجماعة في مصر وليبيا وتونس.

تغيرات لافتة

باختصار، يعتقد كثير ممن عملوا مع الجماعات الإسلامية منذ سبعينات القرن الماضي، أن أحداث 2011 قلبت الأوضاع رأساً على عقب، لأن عدداً كبيراً من الأجيال الجديدة التي انضمت للجماعات المتشددة لم يأتوا من خلفيات ريفية وبدوية أو من أطراف المدن، كما كان الحال في الماضي. بل ظهروا في مدن كبيرة مثل القاهرة، وطرابلس، وتونس، ودمشق. ومن بين هؤلاء أبناء عائلات ثرية أو متوسطة من النمط المحافظ، ومن بينهم خريجو كليات عليا، منها كليات عسكرية، كما الحال مع عشماوي. ويقول إبراهيم: «كل هذه أجيال جديدة... كانوا أناساً عاديين، مثل الجميع، وتغيّروا بعد الثورة (2011)».
لقد اجتذبت حركة «حازمون» عناصر كثيرة كانت تتطلع إلى لعب دور مع أبو إسماعيل، في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية. وجرى التأسيس وقتها لجماعة «أنصار الشريعة» انطلاقاً من محافظة الشرقية، شمال القاهرة، بقيادة رجل يدعى أحمد عبد الرحمن، وتأسيس تنظيم «أجناد مصر» في محافظة الجيزة، وتأسيس جماعة «أنصار بيت المقدس» في شرق البلاد.
إلا أن معظم هؤلاء تفرقت بهم السبل خلال الفترة القصيرة التي صعد فيها مرسي إلى الحكم. وبحسب إبراهيم: «كل هذه العناصر صبت فيما بعد في تنظيم أنصار بيت المقدس في سيناء، وبايعوا كلهم أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة. وحين ظهرت سفينة (داعش)، بايع كثير منهم أبو بكر البغدادي، زعيم التنظيم. وانفصلت هذه العناصر عن المجموعة الأساسية، التي كان فيها عشماوي».
كانت معظم اللبنات الأولى للفكر المتطرف لمثل هذه الجماعات موجودة حتى أيام الرئيس الأسبق حسني مبارك. ووفق ناجح إبراهيم: «كان الرعيل الأول لمثل هذه الجماعات المتطرفة يتمثل في (حركة التوحيد والجهاد) التي قضى عليها حسني مبارك. إلا أن ثورة 25 يناير (كانون الثاني) أعطتهم قبلة الحياة، وانضم لهم عشماوي، وشرائح صغيرة السن من الطبقة الراقية، ولم تعد هذه النسخة تضم عناصر ذات طابع بدوي ريفي فقط. كل العلميات العسكرية القوية التي قام بها (أنصار بيت المقدس) كانت من تخطيط عشماوي».

عشماوي و«داعش»

وبمجرد أن انشق جانب من «أنصار بيت المقدس» وأعلن مبايعته البغدادي، غادر عشماوي سيناء وأخذ يتردد على سوريا، مثل آخرين من حركة «حازمون». ثم انتقل بعد ذلك إلى ليبيا، واستقر في درنة بشكل دائم منذ 2014. و«... حين وجد أن (أنصار بيت المقدس) ذهبوا لـ(داعش) تركهم ومشى. ولو تصادم معهم لقتلوه. أنت تعرف أن (داعش) في ليبيا أباح دمه أيضاً»، حسب كلام إبراهيم.
على أي حال، ومنذ وصول عشماوي إلى درنة، وجد هناك أرضاً خصبة للعمل. فلقد تغير كثير من الأمور في المنطقة، بعد عزل مرسي في مصر، وأصبحت قيادات جماعة الإخوان الغاضبة من سجن رئيسها ومرشدها العام محمد بديع، أكثر فجاجة في التعبير عن الفكر القطبي التكفيري المتسم بالعنف والقتل والتفجير. وظهرت حركات انتقامية دموية منبثقة عن جماعة الإخوان نفذت عمليات مروعة في عموم مصر.
في هذه الأثناء، تغيرت كذلك مجريات أخرى تتعلق بكراهية كثير من الناس لجماعة الإخوان، إذ أسقط الناخبون في ليبيا غالبية المرشحين الإخوان في انتخابات 2014، وخسر إخوان تونس كثيراً من المكاسب أيضاً، بعدما كانوا في مقدمة المتسابقين السياسيين عقب الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي.
وفي أفريقيا، بايع تنظيم «بوكو حرام» البغدادي، وازدادت عمليات «حركة الشباب» الصومالية المتطرفة عبر الحدود. وتماهت الحدود الفاصلة بين «القاعدة» و«داعش» إلى حد كبير. وتوسع نشاط المتطرف الجزائري مختار بلمختار من شمال مالي وجنوب الجزائر، إلى وسط أفريقيا وجنوب ليبيا. واجتذب تنظيمه (المرابطون)، عناصر من دول مختلفة، من بينهم عشماوي.
الدكتور ناجح إبراهيم يشرح هنا أن مثل هذه التنظيمات «كانت لها امتدادات في الجزائر وتشاد وكل الأماكن. كل هذه الأفكار المشتركة سهلت لعشماوي أن يتعامل مع الكل. وكما قلت لك، لم يكن تصادمياً». ويبدو أن هذا الضابط السابق استفاد بشكل كبير من تحول كثير من عناصر الإخوان إلى الفكر القطبي الأقرب إلى «القاعدة»، ليس في مصر فقط، ولكن عبر المنطقة، في أعقاب الخسائر التي لحقت بالجماعة، وهو أمر تزامن كذلك مع ظهور «داعش» الأكثر دموية من «القاعدة».

عشماوي في درنة

ويقول الدكتور ولاء خطاب، المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية في ليبيا، إن عشماوي - الذي يلقب أيضاً بـ«أبو عمر المهاجر» - حين جاء إلى ليبيا انضم إلى ما يعرف باسم «شورى ثوار درنة» الإرهابي، المكوّن من «كتيبة أبو سليم» المنبثقة عن فكر «القاعدة». وظلت هذه الجماعة تحظى بدعم من بعض قيادات الغرب الليبي، ومن جهات خارجية أيضاً تؤيد المتطرفين. وظهرت أصوات محلية في ليبيا، وأخرى من الخارج، تدعو الجيش الليبي إلى فتح ممرات آمنة لخروج المحاصرين في درنة، بعدما تقطعت السبل بمئات المتطرفين، وكان من بينهم عشماوي نفسه.
ويتابع خطاب أن القبض على عشماوي حياً «يعد ضربة قوية للتيار الإسلامي المسيطر على طرابلس والمنطقة الغربية، إذ كان هذا التيار ينكر دائماً وجود عناصر غير ليبية بين صفوف (شورى ثوار درنة)». ويشير إلى أن عشماوي حين جاء لدرنة قبل سنوات وجد تحالفاً بين «القاعدة» وجماعة الإخوان المسلمين. ويستطرد: «يعتبر تنظيم القاعدة، أو كما يسمى في ليبيا بـ(مجالس شورى الثوار)، الجناح العسكري لحركة الإخوان، أو التيار الإسلامي في ليبيا، ويتم استخدام هذا الجناح للضغط على الحكومة الليبية في الشرق، وكذلك على المجتمع الدولي... تحليلي الشخصي أن عشماوي انضم في أول الأمر إلى كتيبة أبو سليم، التي أطلق عليها فيما بعد مجلس شورى ثوار درنة، فترة سيطرة الإخوان على مصر، حيث كانوا يسهلون عملية تنقل الإرهابيين من وإلى ليبيا ومصر... لم يكن عشماوي محباً للظهور الإعلامي، ومع ذلك انتشرت له، على مواقع الإنترنت، مقاطع يظهر فيها شخصية قيادية، وقاضياً شرعياً في تنظيم مجلس شورى ثوار درنة».
لقد عاش عشماوي الفترة العصيبة التي كان مطلوباً فيها من التيارات المتشددة عبر العالم اختيار إحدى الضفتين؛ إما ضفة «القاعدة» والظواهري، أو ضفة البغدادي و«داعش». ووقع صراع بالأسلحة الثقيلة في درنة بين الفريقين، وفي مناطق أخرى في سوريا أيضاً. كما وصلت الخلافات إلى مناطق النفوذ التي كان يتقاسمها أنصار الظواهري وأنصار البغدادي في جنوب ليبيا.

التقى مع المختار

ووفقاً لمصدر على علاقة بالجماعات المتطرفة في ليبيا، التقى عشماوي مع بلمختار، عدة مرات، لبحث هذه القضية. ويبدو أنه جرت إدارة الأمر بحرفية نادرة. وتمكن عشماوي في الشهور الماضية من المرور عبر مناطق نفوذ لـ«داعش» في منطقة الهروج الصحراوية في ليبيا، دون أن يقدم التنظيم على قتله. ويضيف المصدر: «... في أواخر 2016، دفع بلمختار باثنين من أكبر مساعديه إلى درنة لتعضيد نفوذ عشماوي. وهما رجل جزائري مخضرم، يلقب بـ(أبو الهمام)، وآخر مغربي يدعى (الحدوشي). الاثنان كانا في السابق من معتنقي الأفكار المعتدلة، إلا أنهما تحولا في السنوات الأخيرة وأصبحا من الداعين لأفكار سيد قطب انطلاقاً من مقر عشماوي في درنة، ومع ذلك كانت لديهما علاقات جيدة مع قادة من القاعدة وداعش والإخوان في ليبيا ودول الجوار، وهذا أنعش عشماوي لبعض الوقت». إلا أن انتصارات الجيش الليبي ضد الجماعات المتطرفة في مدينة بنغازي، عاصمة الشرق، تسببت في تضييق الخناق على باقي الجماعات خصوصاً في درنة. ولقد فرض الجيش حصاراً على المدينة قبل أن يقتحمها في مايو (أيار) الماضي. وفي الشهور التي سبقت القبض عليه، خسر عشماوي أبرز مساعديه في درنة، ومن بينهم عمر ابن القيادي القطبي الراحل رفاعي سرور، كما سقط معه اثنان من مرافقيه المهمين؛ أحدهما ليبي والثاني مصري.
وأخيراً، ظهر عشماوي أثناء القبض عليه في مقاطع فيديو، من بينها مقطع يقوم فيه ليبيون بضربه، وهم يذكرون له أسماء من يقولون إنهم قتلوا على أيدي الجماعات المتطرفة التي كان يتزعمها في درنة.

درنة... مدينة للفنون خرّبها المتطرفون

> ظهرت فرق موسيقية وشخصيات طبية وأدبية في درنة، وانتشرت منها في باقي أرجاء ليبيا والعالم. لكن هذا كان قبل عام 2011. أما في المرحلة التي أعقبت ما يعرف بـ«ثورات الربيع العربي»، فقد تحولت درنة فيها إلى مدينة لقطع رقاب الخصوم في الساحة العامة، على أيدي تنظيمات متشددة.
منذ سقوط نظام معمر القذافي تقاسم النفوذ في المدينة الجبلية الشاطئية الواقعة على البحر المتوسط، جماعات مختلفة، بعضها بايع تنظيم القاعدة، والبعض الآخر مع تنظيم داعش. وانتشرت في المدينة جنسيات مختلفة لمتشددين من آسيا وأفريقيا ومن دول عربية عدة، منها مصر وتونس والجزائر.
يبلغ عدد سكان درنة نحو 80 ألف نسمة. وكانت المدينة مركزاً لتنظيم المسابقات الفنية والأدبية في شرق البلاد. ومع احتدام المنافسة المسلحة بين المتصارعين عليها، اضطر ألوف السكان لمغادرتها في السنوات الأربع الماضية، والإقامة لدى الأقارب في مدن مجاورة أو خارج الحدود. والتحق كثير من أبنائها بقوات الجيش على أمل تحرير المدينة من الجماعات المتشددة، وهو ما حدث أخيراً.
وتظهر المباني المهدمة والسيارات المحترقة آثار الخراب الذي خلفته العناصر التي كانت تتخذ من درنة قاعدة للعمل في ليبيا وعبر الحدود، حيث ظلت تقاوم دخول الجيش الوطني للمدينة لأكثر من 3 سنوات. وعسكر مئات المتطرفين في ضاحية السيدة خديجة (لميس سابق)، وفي ضاحية المغار ذات الأزقة الضيقة، وفي مدخل المدينة الجنوبي حيث يمتد واديها الشهير الذي يقسم المدينة إلى شطرين، إلى أن تمكنت «قوات الصاعقة» و«القوات الخاصة» الليبية من اقتحام هذه المواقع أخيراً.
وفي تسعينات القرن الماضي، حاول تنظيم الجماعة الليبية المقاتلة، المتطرف، نقل مقره من أفغانستان إلى جبال درنة، لكن قوات الجيش في عهد النظام السابق، تصدت له، وقصفت مقرات الجماعة بالطيران. وبعد رحيل القذافي ظهرت الجماعات المتشددة مرة أخرى. واستغلت الفوضى وسيطرت على المدينة وطردت منها قوات الجيش والشرطة.
وفي عمليات يقوم بها الجيش الذي يقوده المشير خليفة حفتر، منذ شهور، تم القضاء على مراكز الجماعات المتطرفة، ويقوم الضباط والجنود، في الوقت الراهن، بتمشيط الضواحي والمغارات الجبلية التي يحتمل وجود باقي العناصر الإرهابية فيها، حيث تقول معلومات الجيش إن هناك عشرات من المتطرفين ما زالوا يختبئون في المدينة.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».