مسيرة هشام عشماوي في عالم الإرهاب

كيف تحوّل ضابط الجيش المصري السابق إلى قيادي في الجماعات المتطرفة

مسيرة هشام عشماوي في عالم الإرهاب
TT

مسيرة هشام عشماوي في عالم الإرهاب

مسيرة هشام عشماوي في عالم الإرهاب

يروي مصدر قبلي ليبي من مدينة درنة عن هشام عشماوي، الضابط المصري الفار الذي تحوّل إلى قيادي في الجماعات المتطرفة، والذي ألقي عليه القبض أخيراً، أن عشماوي «لم يكن يعطي إجابات قاطعة أبداً... كنت أسأله. هل أنت من جماعة الإخوان؟ فيبتسم، ويهز رأسه. هل أنت من جماعة (حازمون)؟ فيهز رأسه أيضاً مع الابتسامة نفسها. لكن لا تعرف إن كان هذا يعني نعم أم لا. كان أيضاً ينفق ببذخ. حين يرسل لشراء تموين لجماعته من سوق درنة، يخرج أموالاً كثيرة».

تختصر حكاية المتطرف المصري، هشام عشماوي، الذي ألقت قوات الجيش الليبي القبض عليه يوم 8 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، كثيراًَ من الأحداث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إذ أعطت الانتفاضات الشعبية في دول عدة في 2011، قُبلة الحياة لعودة جماعات متشددة للعمل على ساحة المنطقة بكل حرية.
لقد استهوت واحدة من هذه الجماعات ذات الطابع الخاص، هي جماعة «حازمون»، عشماوي الضابط المفصول من الخدمة بالقوات المسلحة المصرية. وللعلم، يمتلك مؤسس جماعة «حازمون»، حازم صلاح أبو إسماعيل، خلفية ذات طابع سياسي وديني واجتماعي، فعائلته في شمال القاهرة، لها باع طويل في تقديم الخدمات العامة للفقراء. وكان والد حازم محامياً مشهوراً، ونائباً في البرلمان، وله منشآت تعليمية أقامها في الماضي على نفقته الخاصة. وتشبه هذه الأعمال الخدمية، ما اعتمدت عليه جماعة الإخوان المسلمين في كسب الأنصار، خصوصاً في مواسم الانتخابات العامة.
وكان حازم صلاح أبو إسماعيل يسعى، ومعه هشام عشماوي وضباط فصلوا من الجيش والشرطة، لمنافسة الجميع في انتخابات الرئاسة المصرية في عام 2012، بما في ذلك جماعة الإخوان. ويقول الدكتور ناجح إبراهيم، المنظّر السابق للجماعة الإسلامية: «لو تمكن أبو إسماعيل من خوض الانتخابات لربما فاز فيها. كان لديه وجه طفولي ويتكلم لغة بسيطة وعفوية... كان كثير من المصريين معجبين به». ويضيف مصدر أمني مصري: «كان عشماوي من الأعضاء الأساسيين لحملة أبو إسماعيل الرئاسية».
ويقبع أبو إسماعيل في السجن بالقاهرة حالياً، لصلته بأحداث متطرفة شهدتها مصر عقب الإطاحة بحكم الدكتور محمد مرسي. وبحسب شهادات من شخصيات لها علاقات بجماعات المتطرفين في شرق ليبيا، ومن بينها جماعة عشماوي نفسه، كانت الصفات التي يتحلى بها الأخير شبيهة إلى حد كبير بصفات أبو إسماعيل الخادعة، أي البسيطة وغير الصدامية.

«صداع» للدولة المصرية

ومنذ دخوله ليبيا قبل 4 سنوات، حتى القبض عليه أخيراً، ظل عشماوي (40 سنة)، بمثابة صداع في رأس الدولة المصرية. فهو ضابط سابق لديه خبرة بكثير من المعسكرات والمقار الأمنية المهمة في عموم البلاد. ثم إنه متهم بمحاولة اغتيال وزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم، واستهداف كنائس ومواقع عامة، وتفجير مديرية الأمن بمحافظة الغربية، وتنفيذ أكبر عمليات ضد الأمن الوطني والجيش في منطقة الواحات غرباً وفي سيناء شرقاً، وكذلك الهجوم على مقر على الأقل للاستخبارات في مدينة بلبيس.
مصدر عسكري مصري أوضح أنه يجري في الوقت الراهن التنسيق مع الجانب الليبي لتسلم عشماوي، مشيراً إلى أنه ارتكب جرائم في حق الليبيين أيضاً، وترى السلطات هناك أن تستجوبه أولاً. بينما يقول العميد أركان حرب أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الليبي، إن «عشماوي أسهم بشكل مباشر في قتل مئات الليبيين... لقد أودعناه أحد السجون لكي يخضع للتحقيق». وحول هذا الأمر يرى الدكتور إبراهيم: «كان عشماوي عدو الجميع، والجميع يطلبه».
عام 2012، لم يتمكن أبو إسماعيل من إدراج اسمه في لائحة المرشحين للانتخابات الرئاسية في مصر، لأسباب تتعلق بحمل والدته الجنسية الأميركية، وهو أمر يمنعه القانون على المرشحين. فوقفت جماعته التي كانت تجوب شوارع القاهرة في مسيرات مخيفة ومدمرة، مع جماعة الإخوان. ويقول أحد من عملوا مع عشماوي في حملة أبو إسماعيل، إن هذا الضابط السابق لم يكن متحمساً لوقوف أبو إسماعيل مع الإخوان، لكنه لم يصطدم مع أحد، بل نأى بنفسه عن أي جدل، وانتقل إلى سيناء التي يعرفها جيداً منذ كان رائداً في قوات الصاعقة. ومن هناك نشط مع الجماعات المتشددة التي عرفت وقتها باستهداف خط الغاز المصري العابر، من سيناء إلى الأردن وإسرائيل.

فترة رئاسة مرسي

محمد مرسي القادم من جماعة الإخوان فاز يومذاك بمنصب رئيس الجمهورية، والتفت حوله معظم التيارات الإسلامية الأخرى، بما فيها القطاع المتشدد في الجماعة الإسلامية بقيادة عاصم عبد الماجد (هارب خارج مصر)، وأيضاً تيارات عرفت باسم التيار المدني وتيار الاشتراكيين الثوريين. لكن معظم هذه الروابط انتهت سريعاً وانفضّت من حول مرسي، ومنها حزب النور (الديني) وأحزاب عدة اقترنت بأسماء مشهورة مثل الدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وحمدين صباحي المرشح الرئاسي الاشتراكي السابق في مصر، خصوصاً بعدما أصبحت العمليات في سيناء ضد الجيش والشرطة مثيرة للقلق.
لقد ضعضع صراع داخلي مكتوم، كتلة الإسلاميين، خلال السنة التي حكم فيها مرسي مصر، مثلما حدث عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان الخلاف الأساسي يدور حول مدى الالتزام بفكر منظر جماعة الإخوان المتطرف سيد قطب. وبرز فريق داخل الإخوان يحاول تطبيق أفكار قطب التكفيرية وهو أمر يستهوي جماعات متشددة، تمتد من جبل الشعانبي في تونس إلى وديان سيناء، وهي الجماعات التي التحق بها عشماوي. وفي المقابل، كان هناك فريق آخر يدعو إلى التمسك بالإصلاحات و«الاعتدال»، وهي مصطلحات نَحَتَها داخل الجماعة مرشدها الأسبق عمر التلمساني عقب خروج ألوف من أتباع الجماعة من السجن إبان عهد الرئيس الراحل أنور السادات. ولقد تأثر بها دعاة من الإخوان في السودان وتونس وغيرها، لكنها لم تصمد بعد انتكاسة حكم الإسلاميين أخيراً.
وفق الدكتور ناجح إبراهيم: «فكر عشماوي، هو نفسه فكر القيادي الإسلامي المتشدد رفاعي سرور، المتوفى في 2012». ويضيف أن رفاعي سرور هو أحد أهم تلاميذ الشيخ سيد قطب الأخيرين، وهو صاحب الفكر التكفيري الانقلابي. وللعلم، عاش ناجح إبراهيم مع رفاعي سرور 3 سنوات، ويقول عنه إنه «المفكر الأساسي لمثل هذه الجماعات (التكفيرية)، ويعتمد على أسلوب أدبي (جذاب) في الكتابة». ويضيف: «هذه المجموعات كانت وقتها بعيدة عن الإخوان، وكانت تؤيد (حازمون)، بعد ثورة 2011، ظناً منها أنه أقرب إليها. لقد كان فكرها مضاداً لفكر الإخوان»، مشيراً إلى أن فكر الإخوان حتى ذلك الوقت لم يكن قد تحول إلى تأييد منهج سيد قطب بالشكل السافر الذي أصبح عليه في السنوات الأخيرة. أي بعد فشل تجربة حكم الجماعة في مصر وليبيا وتونس.

تغيرات لافتة

باختصار، يعتقد كثير ممن عملوا مع الجماعات الإسلامية منذ سبعينات القرن الماضي، أن أحداث 2011 قلبت الأوضاع رأساً على عقب، لأن عدداً كبيراً من الأجيال الجديدة التي انضمت للجماعات المتشددة لم يأتوا من خلفيات ريفية وبدوية أو من أطراف المدن، كما كان الحال في الماضي. بل ظهروا في مدن كبيرة مثل القاهرة، وطرابلس، وتونس، ودمشق. ومن بين هؤلاء أبناء عائلات ثرية أو متوسطة من النمط المحافظ، ومن بينهم خريجو كليات عليا، منها كليات عسكرية، كما الحال مع عشماوي. ويقول إبراهيم: «كل هذه أجيال جديدة... كانوا أناساً عاديين، مثل الجميع، وتغيّروا بعد الثورة (2011)».
لقد اجتذبت حركة «حازمون» عناصر كثيرة كانت تتطلع إلى لعب دور مع أبو إسماعيل، في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية. وجرى التأسيس وقتها لجماعة «أنصار الشريعة» انطلاقاً من محافظة الشرقية، شمال القاهرة، بقيادة رجل يدعى أحمد عبد الرحمن، وتأسيس تنظيم «أجناد مصر» في محافظة الجيزة، وتأسيس جماعة «أنصار بيت المقدس» في شرق البلاد.
إلا أن معظم هؤلاء تفرقت بهم السبل خلال الفترة القصيرة التي صعد فيها مرسي إلى الحكم. وبحسب إبراهيم: «كل هذه العناصر صبت فيما بعد في تنظيم أنصار بيت المقدس في سيناء، وبايعوا كلهم أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة. وحين ظهرت سفينة (داعش)، بايع كثير منهم أبو بكر البغدادي، زعيم التنظيم. وانفصلت هذه العناصر عن المجموعة الأساسية، التي كان فيها عشماوي».
كانت معظم اللبنات الأولى للفكر المتطرف لمثل هذه الجماعات موجودة حتى أيام الرئيس الأسبق حسني مبارك. ووفق ناجح إبراهيم: «كان الرعيل الأول لمثل هذه الجماعات المتطرفة يتمثل في (حركة التوحيد والجهاد) التي قضى عليها حسني مبارك. إلا أن ثورة 25 يناير (كانون الثاني) أعطتهم قبلة الحياة، وانضم لهم عشماوي، وشرائح صغيرة السن من الطبقة الراقية، ولم تعد هذه النسخة تضم عناصر ذات طابع بدوي ريفي فقط. كل العلميات العسكرية القوية التي قام بها (أنصار بيت المقدس) كانت من تخطيط عشماوي».

عشماوي و«داعش»

وبمجرد أن انشق جانب من «أنصار بيت المقدس» وأعلن مبايعته البغدادي، غادر عشماوي سيناء وأخذ يتردد على سوريا، مثل آخرين من حركة «حازمون». ثم انتقل بعد ذلك إلى ليبيا، واستقر في درنة بشكل دائم منذ 2014. و«... حين وجد أن (أنصار بيت المقدس) ذهبوا لـ(داعش) تركهم ومشى. ولو تصادم معهم لقتلوه. أنت تعرف أن (داعش) في ليبيا أباح دمه أيضاً»، حسب كلام إبراهيم.
على أي حال، ومنذ وصول عشماوي إلى درنة، وجد هناك أرضاً خصبة للعمل. فلقد تغير كثير من الأمور في المنطقة، بعد عزل مرسي في مصر، وأصبحت قيادات جماعة الإخوان الغاضبة من سجن رئيسها ومرشدها العام محمد بديع، أكثر فجاجة في التعبير عن الفكر القطبي التكفيري المتسم بالعنف والقتل والتفجير. وظهرت حركات انتقامية دموية منبثقة عن جماعة الإخوان نفذت عمليات مروعة في عموم مصر.
في هذه الأثناء، تغيرت كذلك مجريات أخرى تتعلق بكراهية كثير من الناس لجماعة الإخوان، إذ أسقط الناخبون في ليبيا غالبية المرشحين الإخوان في انتخابات 2014، وخسر إخوان تونس كثيراً من المكاسب أيضاً، بعدما كانوا في مقدمة المتسابقين السياسيين عقب الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي.
وفي أفريقيا، بايع تنظيم «بوكو حرام» البغدادي، وازدادت عمليات «حركة الشباب» الصومالية المتطرفة عبر الحدود. وتماهت الحدود الفاصلة بين «القاعدة» و«داعش» إلى حد كبير. وتوسع نشاط المتطرف الجزائري مختار بلمختار من شمال مالي وجنوب الجزائر، إلى وسط أفريقيا وجنوب ليبيا. واجتذب تنظيمه (المرابطون)، عناصر من دول مختلفة، من بينهم عشماوي.
الدكتور ناجح إبراهيم يشرح هنا أن مثل هذه التنظيمات «كانت لها امتدادات في الجزائر وتشاد وكل الأماكن. كل هذه الأفكار المشتركة سهلت لعشماوي أن يتعامل مع الكل. وكما قلت لك، لم يكن تصادمياً». ويبدو أن هذا الضابط السابق استفاد بشكل كبير من تحول كثير من عناصر الإخوان إلى الفكر القطبي الأقرب إلى «القاعدة»، ليس في مصر فقط، ولكن عبر المنطقة، في أعقاب الخسائر التي لحقت بالجماعة، وهو أمر تزامن كذلك مع ظهور «داعش» الأكثر دموية من «القاعدة».

عشماوي في درنة

ويقول الدكتور ولاء خطاب، المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية في ليبيا، إن عشماوي - الذي يلقب أيضاً بـ«أبو عمر المهاجر» - حين جاء إلى ليبيا انضم إلى ما يعرف باسم «شورى ثوار درنة» الإرهابي، المكوّن من «كتيبة أبو سليم» المنبثقة عن فكر «القاعدة». وظلت هذه الجماعة تحظى بدعم من بعض قيادات الغرب الليبي، ومن جهات خارجية أيضاً تؤيد المتطرفين. وظهرت أصوات محلية في ليبيا، وأخرى من الخارج، تدعو الجيش الليبي إلى فتح ممرات آمنة لخروج المحاصرين في درنة، بعدما تقطعت السبل بمئات المتطرفين، وكان من بينهم عشماوي نفسه.
ويتابع خطاب أن القبض على عشماوي حياً «يعد ضربة قوية للتيار الإسلامي المسيطر على طرابلس والمنطقة الغربية، إذ كان هذا التيار ينكر دائماً وجود عناصر غير ليبية بين صفوف (شورى ثوار درنة)». ويشير إلى أن عشماوي حين جاء لدرنة قبل سنوات وجد تحالفاً بين «القاعدة» وجماعة الإخوان المسلمين. ويستطرد: «يعتبر تنظيم القاعدة، أو كما يسمى في ليبيا بـ(مجالس شورى الثوار)، الجناح العسكري لحركة الإخوان، أو التيار الإسلامي في ليبيا، ويتم استخدام هذا الجناح للضغط على الحكومة الليبية في الشرق، وكذلك على المجتمع الدولي... تحليلي الشخصي أن عشماوي انضم في أول الأمر إلى كتيبة أبو سليم، التي أطلق عليها فيما بعد مجلس شورى ثوار درنة، فترة سيطرة الإخوان على مصر، حيث كانوا يسهلون عملية تنقل الإرهابيين من وإلى ليبيا ومصر... لم يكن عشماوي محباً للظهور الإعلامي، ومع ذلك انتشرت له، على مواقع الإنترنت، مقاطع يظهر فيها شخصية قيادية، وقاضياً شرعياً في تنظيم مجلس شورى ثوار درنة».
لقد عاش عشماوي الفترة العصيبة التي كان مطلوباً فيها من التيارات المتشددة عبر العالم اختيار إحدى الضفتين؛ إما ضفة «القاعدة» والظواهري، أو ضفة البغدادي و«داعش». ووقع صراع بالأسلحة الثقيلة في درنة بين الفريقين، وفي مناطق أخرى في سوريا أيضاً. كما وصلت الخلافات إلى مناطق النفوذ التي كان يتقاسمها أنصار الظواهري وأنصار البغدادي في جنوب ليبيا.

التقى مع المختار

ووفقاً لمصدر على علاقة بالجماعات المتطرفة في ليبيا، التقى عشماوي مع بلمختار، عدة مرات، لبحث هذه القضية. ويبدو أنه جرت إدارة الأمر بحرفية نادرة. وتمكن عشماوي في الشهور الماضية من المرور عبر مناطق نفوذ لـ«داعش» في منطقة الهروج الصحراوية في ليبيا، دون أن يقدم التنظيم على قتله. ويضيف المصدر: «... في أواخر 2016، دفع بلمختار باثنين من أكبر مساعديه إلى درنة لتعضيد نفوذ عشماوي. وهما رجل جزائري مخضرم، يلقب بـ(أبو الهمام)، وآخر مغربي يدعى (الحدوشي). الاثنان كانا في السابق من معتنقي الأفكار المعتدلة، إلا أنهما تحولا في السنوات الأخيرة وأصبحا من الداعين لأفكار سيد قطب انطلاقاً من مقر عشماوي في درنة، ومع ذلك كانت لديهما علاقات جيدة مع قادة من القاعدة وداعش والإخوان في ليبيا ودول الجوار، وهذا أنعش عشماوي لبعض الوقت». إلا أن انتصارات الجيش الليبي ضد الجماعات المتطرفة في مدينة بنغازي، عاصمة الشرق، تسببت في تضييق الخناق على باقي الجماعات خصوصاً في درنة. ولقد فرض الجيش حصاراً على المدينة قبل أن يقتحمها في مايو (أيار) الماضي. وفي الشهور التي سبقت القبض عليه، خسر عشماوي أبرز مساعديه في درنة، ومن بينهم عمر ابن القيادي القطبي الراحل رفاعي سرور، كما سقط معه اثنان من مرافقيه المهمين؛ أحدهما ليبي والثاني مصري.
وأخيراً، ظهر عشماوي أثناء القبض عليه في مقاطع فيديو، من بينها مقطع يقوم فيه ليبيون بضربه، وهم يذكرون له أسماء من يقولون إنهم قتلوا على أيدي الجماعات المتطرفة التي كان يتزعمها في درنة.

درنة... مدينة للفنون خرّبها المتطرفون

> ظهرت فرق موسيقية وشخصيات طبية وأدبية في درنة، وانتشرت منها في باقي أرجاء ليبيا والعالم. لكن هذا كان قبل عام 2011. أما في المرحلة التي أعقبت ما يعرف بـ«ثورات الربيع العربي»، فقد تحولت درنة فيها إلى مدينة لقطع رقاب الخصوم في الساحة العامة، على أيدي تنظيمات متشددة.
منذ سقوط نظام معمر القذافي تقاسم النفوذ في المدينة الجبلية الشاطئية الواقعة على البحر المتوسط، جماعات مختلفة، بعضها بايع تنظيم القاعدة، والبعض الآخر مع تنظيم داعش. وانتشرت في المدينة جنسيات مختلفة لمتشددين من آسيا وأفريقيا ومن دول عربية عدة، منها مصر وتونس والجزائر.
يبلغ عدد سكان درنة نحو 80 ألف نسمة. وكانت المدينة مركزاً لتنظيم المسابقات الفنية والأدبية في شرق البلاد. ومع احتدام المنافسة المسلحة بين المتصارعين عليها، اضطر ألوف السكان لمغادرتها في السنوات الأربع الماضية، والإقامة لدى الأقارب في مدن مجاورة أو خارج الحدود. والتحق كثير من أبنائها بقوات الجيش على أمل تحرير المدينة من الجماعات المتشددة، وهو ما حدث أخيراً.
وتظهر المباني المهدمة والسيارات المحترقة آثار الخراب الذي خلفته العناصر التي كانت تتخذ من درنة قاعدة للعمل في ليبيا وعبر الحدود، حيث ظلت تقاوم دخول الجيش الوطني للمدينة لأكثر من 3 سنوات. وعسكر مئات المتطرفين في ضاحية السيدة خديجة (لميس سابق)، وفي ضاحية المغار ذات الأزقة الضيقة، وفي مدخل المدينة الجنوبي حيث يمتد واديها الشهير الذي يقسم المدينة إلى شطرين، إلى أن تمكنت «قوات الصاعقة» و«القوات الخاصة» الليبية من اقتحام هذه المواقع أخيراً.
وفي تسعينات القرن الماضي، حاول تنظيم الجماعة الليبية المقاتلة، المتطرف، نقل مقره من أفغانستان إلى جبال درنة، لكن قوات الجيش في عهد النظام السابق، تصدت له، وقصفت مقرات الجماعة بالطيران. وبعد رحيل القذافي ظهرت الجماعات المتشددة مرة أخرى. واستغلت الفوضى وسيطرت على المدينة وطردت منها قوات الجيش والشرطة.
وفي عمليات يقوم بها الجيش الذي يقوده المشير خليفة حفتر، منذ شهور، تم القضاء على مراكز الجماعات المتطرفة، ويقوم الضباط والجنود، في الوقت الراهن، بتمشيط الضواحي والمغارات الجبلية التي يحتمل وجود باقي العناصر الإرهابية فيها، حيث تقول معلومات الجيش إن هناك عشرات من المتطرفين ما زالوا يختبئون في المدينة.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.