سياسات مصر السكانية تحقّق اختراقاً نادراً

بعد حقبة من محاولة السيطرة على معدل المواليد

مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
TT

سياسات مصر السكانية تحقّق اختراقاً نادراً

مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)

بعد نحو ستة عقود من الجهود والمساعي الحثيثة لمواجهة الأزمة السكانية، يبدو أن سياسات مصر في هذا الصدد بدأت تؤتي ثمارها، محققة اختراقاً نادراً يتمثل بتراجع معدل المواليد؛ ما ينبئ بإمكانية الوصول إلى المستهدفات بحلول عام 2030. جاء هذا الاختراق مقترناً بما أعلنه نائب رئيس الوزراء المصري ووزير الصحة الدكتور خالد عبد الغفار، أخيراً، عن «تسجيل أقل معدل نمو سكاني في البلاد خلال الربع الأول من العام الحالي، مقارنة بالربع الأول من 2024 وكذلك عام 2023، في استمرار لانخفاض معدلات الزيادة السكانية على مستوى ربوع البلاد». وهو ما عدَّه وزير الصحة «إنجازاً يعكس نجاح الجهود الحكومية المبذولة لتحقيق التوازن بين النمو السكاني والتنمية المستدامة».

وزير الصحة المصري في جولة داخل أحد المستشفيات (أرشيفية - وزارة الصحة المصرية)

تراجع نمو معدل المواليد لا يعني بالضرورة تراجع عدد السكان أو ثباته. وفيما يخص مصر، فإنها لم تصل بعد إلى نسبة التوازن المستهدفة، التي يتساوى فيها معدل المواليد مع معدل الوفيات أو ما يعرف بـ«السكون السكاني».

ووفق ما أعلنه وزير الصحة المصري، الدكتور خالد عبد الغفار، بلغ عدد السكان في أول يناير (كانون الثاني) 2023 نحو 104.4 مليون نسمة، وارتفع إلى 107.2 مليون نسمة في أول يناير 2025؛ ما يعني أن متوسط معدل النمو السنوي خلال تلك الفترة بلغ نحو 1.34 في المائة، مقارنة بمعدل 1.4 في المائة عام 2024، و1.6 في المائة خلال عام 2023، مشيراً إلى أن ذلك يعكس «تحولاً إيجابياً نتيجة للسياسات السكانية التي تنفذها الدولة».

عدد سكان مصر بلغ عام 1897 نحو 9.7 مليون نسمة، لكنه تزايد تدريجياً حتى أضحت قضية الزيادة السكانية واحدة من القضايا المدرجة على أجندة الدولة المصرية منذ الستينات من القرن الماضي. وبالفعل، أسّس «المجلس الأعلى لتنظيم الأسرة» عام 1965. وفي منتصف الثمانينات أُسّس «المجلس القومي للسكان». ومن ثم تواصلت الجهود للحد من الزيادة السكانية، وكان الحدث الأبرز عام 1994 استضافة مصر مؤتمراً دولياً عن السكان والتنمية، لتتخذ الجهود منحًى آخر أكثر كثافةً ترافق مع حملات إعلامية بشعارات لافتة من قبيل «قبل ما نزيد مولود نتأكد أن حقه علينا موجود».

مؤشر إيجابي

لعقود طويلة دفعت الزيادة السكانية إلى اختناق المدن المصرية، والتهمت موارد الدولة وجهود التنمية، وسط شكاوى حكومية مستمرة من نقص الموارد الكافية للزيادة السكانية.

وسبق أن حذّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مراراً من النمو السكاني، وعدّه «أكبر خطر يواجه مصر في تاريخها». وفي سبتمبر (أيلول) 2023، أثناء افتتاحه «المؤتمر العالمي الأول للسكان والصحة والتنمية»، قال: «يجب أن يتم تنظيم الإنجاب، وإن لم يتم تنظيمه، فإنه يمكن أن يتسبّب في (كارثة) للبلد».

وأشار السيسي إلى مخاطر النمو السكاني على جهود التنمية، فقال في نهاية عام 2022 إن «النمو السكاني سيأكل البلد». وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2021 قال إن «استمرار النمو بالمعدلات الحالية يعرقل جهود التنمية». وما يذكر أنه عام 2017 عدَّ السيسي «الإرهاب والزيادة السكانية أكبر خطرين يواجهان البلاد».

الآن يبدو أن التحذيرات والجهود بدأت تؤتي ثمارها. ورأى الدكتور مجدي خالد، المدير السابق لصندوق الأمم المتحدة للسكان وعضو «اللجنة الاستشارية العليا» لتنظيم الأسرة بوزارة الصحة المصرية، في انخفاض معدل المواليد «نتاجاً للسياسات التي تضمنتها الاستراتيجية القومية للسكان». وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «هذا الانخفاض ليس مفاجئاً ولا عشوائياً، وهو مستمر منذ ثلاث سنوات إثر تدخلات فاعلة تمت خلال السنوات العشر الأخيرة».

وبينما اتفق مقرّر المجلس القومي للسكان السابق، الدكتور عاطف الشيتاني، مع هذا الرأي، فإنه رأى خلال حوار مع «الشرق الأوسط» تراجع معدل المواليد إشارة جيدة وثمرة لجهود مستمرة منذ الستينات، وأردف: «هناك حقائق عدة لا بد من التعامل معها في هذا المجال في إطار خطة استراتيجية لمواجهة الأزمة بنهاية عام 2030».

وأوضح الشيتاني أن «الدولة تسعى للوصول لمرحلة التوازن السكاني، أي زيادة سكانية صفر، بتساوي معدل الوفيات ومعدل المواليد»، مشيراً إلى أن معدل المواليد حالياً يقترب من مليونين سنوياً، في حين يبلغ معدل الوفيات 600 ألف سنوياً.

وفي يناير الماضي، أعلن «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» في مصر أنه «للمرة الأولى منذ عام 2007 لم تتجاوز أعداد المواليد حاجز المليونين»، لافتاً إلى أن عدد المواليد خلال عام 2024 بلغ مليوناً و968 ألف مولود، مقارنة بمليونين و45 ألف مولود عام 2023، في حين بلغ عدد الوفيات 610 آلاف شخص خلال عام 2024، مقارنة بـ583 ألفاً خلال عام 2023.

هذا، وساهمت الحملات المستمرة في انخفاض معدل المواليد سنوياً، قبل أن يعود للارتفاع عام 2014؛ ما دفع إلى تكثيف الجهود مرة أخرى، وفق الشيتاني الذي يرى أن «حركة السكان وسلوكهم الإنجابي لا يمكن تعديلهما في يوم وليلة، فهما مؤشران ثقيلان يحتاجان إلى عقود من الجهد».

وعقب أحداث عام 2011 في مصر، قفز معدل المواليد عام 2012 إلى نحو 32 مولوداً لكل ألف مواطن، وشهد عام 2014 أكبر معدل للمواليد 2014، وبلغ مليونين و720 ألف مولود، قبل أن يعاود الرقم الانخفاض تدريجياً في الأعوام التالية، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

الحذر مطلوب

مع هذا، ورغم أن انخفاض معدل المواليد مؤشر إيجابي، يطالب الشيتاني بالحذر في التعامل مع الأرقام ربع السنوية، وانتظار البيانات الرسمية لنهاية العام، لا سيما وأن معدل المواليد موسمي وربما يزيد في فصل الصيف. ويشرح: «هناك مؤشرات أخرى لا بد من وضعها في الحسبان، من بينها معدل الإنجاب. والدولة تسعى لمعدل إنجاب بمتوسط طفلين لكل سيدة بحلول 2028، في حين يصل المعدل الحالي إلى 2.8 طفل لكل سيدة».

ويلفت الشيتاني إلى نتائج المسح السكاني الصحي لعام 2021، التي أظهرت أن معدل استخدام وسائل تنظيم الأسرة لا يتجاوز 67 في المائة، في حين المستهدف 74 في المائة، وذلك مع أن 20 في المائة من المواليد خلال السنوات الخمس السابقة للمسح الصحي كانوا «غير مخطط لهم». وهذا – وفق الشيتاني – يعني أن «هناك نقصاً في المعلومات، ثم إن الوصول لوسائل تنظيم الأسرة يتطلب جهوداً مكثفة في هذا الإطار».

في سياق موازٍ، بحسب دراسة الجدوى الاقتصادية لإنهاء الحاجة غير الملباة لتنظيم الأسرة في مصر، التي أطلقها «معهد التخطيط القومي» و«صندوق الأمم المتحدة للسكان» في أبريل (نيسان) 2024، تحتاج برامج تنظيم الأسرة إلى استثمار إجمالي قدره 11.1 مليار جنيه (الدولار يساوي 50.9 جنيه في البنوك المصرية)؛ وذلك لتقليل الحاجة غير الملباة لتنظيم الأسرة في مصر لتصل إلى 8.6 في المائة بحلول 2030 وتجنب مليون و400 حالة حمل غير مرغوب فيها.

هذا، ويهدف «البرنامج القومي لتنظيم الأسرة» إلى «تحقيق التنمية الاجتماعية الشاملة للأسر المستفيدة من برنامج (تكافُل) من خلال رفع وعي الأسر المستهدفة وتطوير عيادات تنظيم الأسرة بتكلفة 1.2 مليار جنيه، وتقديم خدمات ووسائل تنظيم الأسرة بالمدن والقرى على مستوى الجمهورية، خصوصاً المناطق النائية والمحرومة، ضمن مبادرة رئيس الجمهورية (حياة كريمة) لرفع معدلات استخدام وسائل تنظيم الأسرة وخفض معدلات الزيادة السكانية».

ويضاف إلى هذا «توقيع الكشف الطبي، وصرف وسائل تنظيم الأسرة وبخاصة الوسائل الطويلة المفعول، والأدوية بالمجان عن طريق اختصاصيي تنظيم الأسرة والنساء والتوليد في العيادات الثابتة والمتنقلة، والمراكز الحضرية، والمستشفيات العامة والمركزية ومراكز رعاية الأمومة والطفولة»، بحسب موقع الرئاسة المصرية.

من جهة أخرى، رغم المؤشرات الإيجابية، يؤكد المدير السابق لـ«صندوق الأمم المتحدة للسكان» أن «تحقيق المستهدفات يتطلب المزيد من الجهد ودراسة الأسباب التي دفعت إلى انخفاض معدل المواليد في محافظات معينة في حين يرتفع في أخرى، ومحاولة تكرار التجربة». وللعلم، سجلت محافظة بورسعيد (بشمال مصر) أدنى معدل نمو سكاني في البلاد بنسبة 0.61 في المائة؛ ما يجعلها أول محافظة تحقق «شبه سكون سكاني».

في المقابل، يمثل إقليم الوجه القبلي (صعيد مصر) أكبر نسبة مواليد؛ إذ بلغت 45 في المائة، مع أنه يشكل 39 في المائة من تعداد السكان، «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» بداية العام الحالي. وبيّن «الجهاز» أن محافظات بورسعيد ودمياط والدقهلية والغربية والسويس كانت أقل المحافظات من حيث معدل المواليد لعامي 2024 و2023.

بنايات في القاهرة (تصوير عبد الفتاح فرج)

المرأة هي البطل

على الجانب الآخر صرّح الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي، لـ«الشرق الأوسط» بأن التراجع في معدلات المواليد «مرتبط بتغيرات مجتمعية تتعلق بزيادة مستوى التعليم، ونسب عمل المرأة، وتراجع سن الزواج، إضافة إلى تراجع الأوضاع الاقتصادية... وصحيح أن الدولة وضعت سياسات وخططاً ونظَّمت حملات إعلامية ووفرت وسائل تنظيم الأسرة، لكن العامل الفاعل والبطل في إحداث تغيير كان المرأة وزيادة وعيها العلمي والاقتصادي والمجتمعي».

ما سبق عوامل لم ينكرها المتخصصون في السكان، لكن الشيتاني وخالد يعتقدان أن إثبات دور العوامل المجتمعية من تعليم وأوضاع اقتصادية يحتاج إلى دراسات. وأكدا أن الحقائق تقول إن هناك سياسات حكومية لمكافحة الزيادة السكانية، وهناك تراجع في معدل المواليد بالأرقام، أي عوامل أخرى تحتاج لدراسة».

وكانت الدكتورة عبلة الألفي، نائب وزير الصحة لتنمية الأسرة والمشرفة على «المجلس القومي للسكان»، قد أكدت في تصريحات صحافية أخيراً أن «التراجع الحالي في معدل النمو السكاني جاء نتيجة لتحوّل ثقافي مستقر، وليس تأثيراً ظرفياً ناتجاً من ظروف اقتصادية».

حقائق

الفن والإعلام شاركا في المحاولات الحكومية للتوعية

> وسط تحذيرات متكررة من مخاطر الزيادة السكانية في مصر، وتزامناً مع جهود وسياسات حكومية لخفض معدل الولادات، لعب الإعلام دوراً مهماً، عبر حملات إعلانية وأعمال درامية ناقشت الظاهرة، وحاولت التحذير من مخاطرها، بعضها حفر طريقه في ذاكرة المصريين. وكانت أغنية «حسنين ومحمدين... زينة الشباب الاتنين» التي أدتها الفنانة فاطمة عيد في الثمانينات واحدة من أبرز الحملات الإعلامية في هذا الإطار، عبر التركيز على الفرق بين رجلين أحدهما أنجب 7 أطفال والآخر اكتفى بطفلين. أيضاً قدمت فاطمة عيد في الفترة نفسها إعلان «الست شلبية»، وهو إعلان رسوم متحرّكة يحث النساء على التوجه إلى عيادات تنظيم الأسرة. واعتمدت الحملات الإعلانية على نجوم الفن، وشاركت الفنانة كريمة مختار في إعلانات عدة لتوعية المرأة بأهمية تنظيم الأسرة خلال حقبتي الثمانينات والتسعينات. وتوالت بعد ذلك الحملات الإعلانية، التي ركّز بعضها على الرجل ودوره، كالحملة التي شارك فيها الفنان المصري أحمد ماهر ورفعت شعار «الراجل مش بس بكلمته... الراجل برعايته لبيته وأسرته». أو حملات ركزت على المرأة مثل «بالخلفة الكتير... يتهد حيلك وجوزك يروح لغيرك». وأخرى حاولت التأكيد على أهمية الصحة معتمدة شعار «مش بالكترة بنات وبنين... لاء بالصحة وبالتنظيم». وأخرى للترويج لوسائل تنظيم الأسرة «اسأل... استشير». ولم يقتصر الأمر على الإعلانات، بل امتد إلى الدراما التلفزيونية والسينمائية، وربما من أشهر تلك الأعمال فيلم «أفواه وأرانب» من بطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين 1977، وفيلم «الحفيد» بطولة عبد المنعم مدبولي وكريمة مختار 1974. وتناولت بعض الأفلام تأثير زيادة الإنجاب على الأوضاع الاقتصادية، مثل فيلم «لا تسألني من أنا»، بطولة شادية عام 1984، وفيه باعت البطلة إحدى بناتها لتنفق على باقي أسرتها. وغيرها الكثير من الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي حاولت طرح القضية من زوايا عدة بشكل مباشر أو غير مباشر. وبينما حظيت بعض الأعمال الفنية سواء إعلانات أو دراما بإعجاب الجمهور، فإن أخرى لم تلق استحساناً، مثل إعلان «أبو شنب» عام 2019، الذي جسّد فيه الفنان المصري أكرم حسني شخصية صعيدية بصبغة كوميدية، في إطار حملة توعوية أطلقتها وزارة التضامن الاجتماعي لمكافحة الزيادة السكانية تحت عنوان «2 كفاية» واختارت لها شعار «السند مش في العدد». إذ أثارت الحملة يومذاك انتقادات عدّة، وعدّها البعض تشويهاً لمنطقة الصعيد (جنوب مصر).





مقالات ذات صلة

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حصاد الأسبوع حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

تعكس تعليقات الرئيس الأميركي السابق جو بايدن عن سياسات الرئيس دونالد ترمب ومواقفه من الحرب الروسية – الأوكرانية، الجدل الذي تنخرط فيه الطبقة السياسية الأميركية

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع انتُخب فاديفول نائباً لرئيس كتلة حزبه داخل «البوندستاغ» مشرفاً على السياسات الخارجية والدفاعية للكتلة. يقلق فاديفول احتمال انسحاب واشنطن من «أمن أوروبا» و«التباعد المتزايد في القيَم» بين أوروبا والولايات المتحدة

يوهان فاديفول... وزير خارجية ألمانيا الجديد سياسي محنك وله اهتمامات عسكرية

بعد مرور 60 سنة على تولي آخر قيادي ينتمي لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ في ألمانيا منصب وزير الخارجية، تعود هذه الوزارة إلى الحزب مع تعيين يوهان

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع براندت (غيتي)

ألمع وزراء الخارجية الألمان بعد الحرب العالمية الثانية

تعاقب على منصب وزير الخارجية في ألمانيا العديد من الشخصيات اللامعة منذ إعادة توحيد الألمانيتين الغربية والشرقية بعد انتهاء «الحرب الباردة» وسقوط «جدار برلين».

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع أحد المقترعين يدلي بصوتته خلال الجولة الأولى من الانتخابات في جبل لبنان (آ ف ب)

الانتخابات البلدية في لبنان... اختبار للنفوذ السياسي بغطاء محلي

على الرغم من الطابع الإنمائي والخدماتي المحلي للانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان، فإنها شكلت «ساحةً سياسية» بامتياز تتواجه فيها القوى والأحزاب السياسية على

«الشرق الأوسط» (بيروت)
حصاد الأسبوع تظاهرة لناشطي الحركة الإسلامية ومناصريها (رويترز)

الأردن... جدلية العلاقة بين «الإخوان» والسلطة

بعد سنوات وعقود من «الصمت الرسمي» على تجاوزات «جماعة الإخوان المسلمين»، نفد صبر السلطات الأردنية أمام «اختراق» مهمٍّ نفذه أتباع ومنتمون للجماعة تستهدف «زعزعة»

محمد خير الرواشدة (عمّان)

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
TT

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)

تعكس تعليقات الرئيس الأميركي السابق جو بايدن عن سياسات الرئيس دونالد ترمب ومواقفه من الحرب الروسية – الأوكرانية، الجدل الذي تنخرط فيه الطبقة السياسية الأميركية ومراكز الأبحاث، حول تداعيات التغيير الذي أحدثه ترمب في علاقات واشنطن بكل من موسكو وكييف وبروكسل. بايدن اعتبر ضغوط إدارة ترمب على أوكرانيا للتنازل عن أراضٍ لروسيا «استرضاءً عصرياً»، في تلميح إلى سياسة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق نيفيل تشامبرلين، الذي فشل في أواخر الثلاثينات في استرضاء مطالب الزعيم النازي أدولف هتلر لتجنب حرب شاملة في أوروبا. ومع ذلك، حُمّل الرئيس الأميركي السابق والعديد من القادة الأوروبيين، مسؤولية التقصير في دعم كييف، ومحاولة استرضاء روسيا، رغم المعرفة المسبقة بمواقفه خلال السنوات الثلاث من الحرب، التي كانت تشير بشكل واضح إلى أنه سيقوم، ليس فقط بالتقرب من الرئيس الروسي، بل وزيادة الشقاق مع الحلفاء الأطلسيين في «ناتو».

بدلاً من السماح لها بتحقيق النصر، يقول محللون، إن أوكرانيا تلقت معدات من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وبولندا، كانت كافية فقط لاستنزاف روسيا. ولخّص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يونيو (حزيران) 2022 القيود الاستراتيجية على أوكرانيا؛ ما أجبرها في نهاية المطاف على القتال بيد واحدة خلف ظهرها، قائلاً: «علينا ألّا نُذلّ روسيا لكي نتمكن في اليوم الذي يتوقف فيه القتال من إيجاد مخرج عبر القنوات الدبلوماسية». وحقاً، خشي العديد من القادة والجنرالات من أنه في حال هزيمة روسيا، ستتبعها فوضى داخل الاتحاد الروسي، وسيفقد الرئيس فلاديمير بوتين سلطته. وكان هؤلاء يخشون ما يسميه العسكريون «نجاحاً كارثياً»، بحسب صحيفة «الإندبندنت». كذلك أعرب كبار المسؤولين في الحكومة البريطانية عن آرائهم بشأن أخطار انهيار الاتحاد الروسي، بالقول إنهم كانوا يخشون انتصاراً أوكرانياً ساحقاً لأن الاتحاد الروسي «إمبراطورية متماسكة بالخوف».

تحوّل التركيز

في الآونة الأخيرة، ورغم تغيير ميزان القوة لمصلحة موسكو، تحدثت معلومات استخباراتية جديدة راجعها مسؤولون أميركيون وغربيون، عن أن بوتين ربما أعاد ترتيب أهدافه المباشرة في حرب أوكرانيا، مع التركيز على ترسيخ السيطرة على الأراضي التي استولت عليها القوات الروسية وتعزيز الاقتصاد الروسي المتعثر. وفي حين يتناقض هذا التحول مع تقييمات سابقة أشارت إلى أن بوتين يعتقد أن الحرب تسير لصالحه؛ ما يدعم قتالاً مطولاً ضد أوكرانيا الضعيفة، بهدف الاستيلاء على البلاد بأكملها في النهاية أثار هذا التحوّل في نهج بوتين إلى احتمال أن يكون الآن أكثر ميلاً إلى التفكير في فكرة اتفاق سلام. ووفق مصادر أميركية، لعب هذا التحول دوراً في اعتقاد الرئيس ترمب بأن بوتين ربما بات أكثر استعداداً للتفاوض مما كان عليه في الماضي.

مع ذلك، لا يزال كبار المسؤولين الأميركيين حذرين بشأن نيات بوتين الحقيقية. ومع أنهم يشيرون إلى أن تأكيدات بوتين المستمرة بأنه يسعى للسلام، و«عروضه» المتقطعة لوقف إطلاق نار جزئي - رغم المقترحات الأميركية المواتية له التي تدعو كييف إلى التنازل عن معظم الأراضي التي استولت عليها روسيا – يعتقد هؤلاء أنه حتى لو قبل بوتين مثل هذا الاتفاق، فقد يكون قبوله إجراءً مؤقتاً، للعودة إلى التصعيد بمجرد استئناف الحرب.

أيضاً، بعدما وضعت الضغوط المستمرة من إدارة ترمب، وتهديدات نائبه جيه دي فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو بوقف «الوساطة» الأميركية، وفرض عقوبات إضافية - ناهيك من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها روسيا - بوتين في موقف صعب محتمل، يقول مسؤول استخبارات غربي كبير: «أعتقد أنه ربما يفكر في هدف معقول على المدى القريب». ومع توقيع الولايات المتحدة اتفاقية المعادن مع أوكرانيا، سُلط الضوء أيضاً على إمكانية استثمارات مماثلة مع روسيا بعد الحرب، في المباحثات التي وصفتها واشنطن بأنها فرصة «تاريخية».

بل، ولقد أشار المسؤول أيضاً إلى أن السؤال الرئيس هو ما الذي ترغب واشنطن في تقديمه لجعل اتفاق السلام جذاباً بما يكفي لبوتين لإيقاف الحرب، والتي قد يستأنفها لاحقاً بمجرد تحقيق نصر مؤقت. وهنا، يقول مايكل روبين، الباحث في معهد «أميركان انتربرايز» في حوار مع «الشرق الأوسط» إن تلك التهديدات لم تُسهم في حل الأزمة الأوكرانية، لكنها على الأرجح عكست تفكير ترمب، الذي بدا أنه يتخلى عن أي احتمال لحل سريع، ويُرجّح أن يعكس ذلك واقعية ترمب في أن بوتين لن يُحقّق السلام.

بوتين متمسك بأهدافه البعيدة

من جهة ثانية، تغير الأهداف المباشرة قد لا يغير تمسك بوتين بطموحات طويلة الأجل لتوسيع نفوذ روسيا الإقليمي في أوكرانيا. وقد يكون استعداده «للتوافق» مع واشنطن في الوقت الحالي تكتيكاً لتحسين العلاقات مع واشنطن، في انتظار فرصة مواتية أكثر لتحقيق أهدافه القصوى.

ووفق مسؤول أوروبي كبير «هناك العديد من الأدوات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية التي ستواصل روسيا استخدامها»، مضيفاً أن أهداف روسيا النهائية «ربما لم تتبدل رغم هذا التغيير التكتيكي». كذلك، أعرب العديد من المشرّعين الأميركيين عن مخاوفهم من أن بوتين قد يستخدم مباحثات السلام استراتيجيةً لكسب المزيد من النفوذ بدلاً من السعي الجاد لإنهاء الحرب، وهو ما قد يكون عزّز من مخاوف الكرملين من أن تكون تلك التهديدات حقيقية.

فقد أعلن السيناتور الجمهوري النافذ، ليندسي غراهام، الأسبوع الماضي، أنه يحظى بدعم مجلس الشيوخ لمشروع قانون يدعو إلى فرض عقوبات جديدة «ساحقة» على روسيا. ويسعى مشروع القانون هذا إلى فرض رسوم جمركية بنسبة 500 في المائة على الواردات من الدول التي تشتري النفط أو الغاز أو اليورانيوم الروسي، ما لم تنخرط روسيا في مفاوضات جادة لإنهاء الحرب. وفي الأيام الأخيرة، ناقش مسؤولون أميركيون وأوروبيون فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا، تؤثر على قطاعي البنوك والطاقة؛ بهدف الضغط عليها لدعم الجهود الدبلوماسية الأميركية لإنهاء الحرب.

بايدن وبنس يحذّران ترمب

ومع رفض أوكرانيا عرض بوتين الأخير بوقف إطلاق نار قصير خلال احتفالاته بيوم «النصر على النازية» ووصفه بـ«محاولة أخرى للتلاعب»، عدّه البعض «أقل من الحقيقة». وقال الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطاني، «إم آي 6» السير أليكس يونغر، إن الرئيس الروسي عازم على الاستيلاء على أكثر من مجرد أوكرانيا. وهو ما يتوافق مع آراء كل من جو بايدن، ونائب ترمب السابق مايك بنس.

بايدن سبق له القول إن بوتين يؤمن بأن «أوكرانيا جزء من روسيا»، وإن «أي شخص يظن أنه سيتوقف» إذا جرى التنازل عن بعض الأراضي بوصفه جزءاً من اتفاق سلام «هو ببساطة أحمق». وأضاف: «لا أفهم كيف يظن الناس أنه إذا سمحنا لديكتاتور بلطجي بأن يقرر الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي ليست ملكه، فإن ذلك سيُرضيه. لا أفهم ذلك تماماً». وتابع معرباً عن قلقه: «أوروبا ستفقد ثقتها بأميركا وقيادتها»، و«إن قادة القارة يتساءلون، حسناً، ماذا نفعل الآن؟ هل يمكننا الاعتماد على الولايات المتحدة؟ هل ستكون موجودة؟».

بدوره، أعرب بنس عن خيبة أمله من تراجع دعم الرئيس ترمب لكييف، وذكر أن الرئيس الروسي قد يضع ديمقراطيات أوروبية أخرى «نصب عينيه». وأضاف: «إذا كانت السنوات الثلاث الماضية علمتنا شيئاً، فهو أن فلاديمير بوتين لا يريد السلام. إنه يريد أوكرانيا». وتابع: «حقيقة أننا الآن نتابع منذ قرابة شهرين اتفاق وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه أوكرانيا، واستمرار روسيا في المماطلة وتقديم الأعذار، إنما يؤكدان هذه النقطة». واستطرد: «أعتقد أن الدعم المتذبذب الذي أبدته الإدارة (لأوكرانيا) خلال الأشهر القليلة الماضية قد شجع روسيا... والأمر لا يقتصر عليّ أنا شخصياً. أعتقد حقاً أنه إذا اجتاح أوكرانيا، فستكون مسألة وقت فقط قبل أن يعبر الحدود، حيث سيضطر رجالنا ونساؤنا العسكريون إلى محاربته».

مايك بنس: «إذا كانت السنوات الثلاث الماضية علمتنا شيئاً، فهو أن فلاديمير بوتين لا يريد السلام. إنه يريد أوكرانيا»

اتفاقية المعادن لا تضمن أمن كييف

في أي حال، ورغم مناورات البيت الأبيض الكثيرة، انقضت الأيام المائة الأولى من إدارة ترمب الثانية من دون بصيص أمل في انتهاء القتال قريباً. وعلى الرغم من تعهد ترمب بإنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، وتوقيع واشنطن اتفاقية مع كييف تمنح الولايات المتحدة حصة من الإيرادات المستقبلية من احتياطيات أوكرانيا المعدنية، فإنه قد يقرر الانسحاب من البلاد كلياً إذا لم يحصل على تسوية سلمية يصبو إليها. وهنا يؤكد مايكل روبين لـ«الشرق الأوسط»، أن اتفاقية المعادن وحدها «لا تكفي لضمان ألا يغيّر ترمب رأيه مجدداً... ولكن بما أنه ينظر إلى العالم من خلال ميزانيته التجارية، فسيكون هذا مفيداً في إقناع ترمب».

من جهتها، تقول إيفانا سترادنر، الباحثة في الشأن الروسي في «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» لـ«الشرق الأوسط»، إن «صفقة المعادن خطوة في الاتجاه الصحيح، والآن، الكرة في ملعب بوتين، وعلى واشنطن أن تمارس المزيد من الضغط على الكرملين، الذي سيلجأ إلى آلته الدعائية لتصوير الولايات المتحدة كقوة إمبريالية شريرة».

وبالفعل، توصلت إدارة ترمب إلى اتفاق منفصل مع أوكرانيا، أُعلن عنه في 30 أبريل (نيسان)، لمنح الولايات المتحدة حصة في مواردها المعدنية. ولكن مع أن الاتفاق يهدف إلى الإشارة إلى استثمار الولايات المتحدة في مستقبل أوكرانيا، فهو يبدو غير مرتبط إلى حد كبير بالمسألة الأكثر إلحاحاً لها والمتمثلة في حاضرها الذي مزقته الحرب.

لم يُنشر النص النهائي للاتفاقية بعد، ولكن لا يوجد ما يشير إلى أنها تتضمن ضمانات أمنية لأوكرانيا. وبصفته القائد الأعلى، يمكن لترمب تقليص الدعم الأميركي لأوكرانيا بشكل مفاجئ ودراماتيكي. وحتى مع سعيه لتحقيق مكاسب اقتصادية من أوكرانيا، قد تُقلّص الولايات المتحدة أو تُوقف الدعم العسكري والاستخباري، كما جرى بعد المشادة الكبيرة التي جرت أمام عدسات التلفزيون مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي خلال مارس (آذار) الماضي. وما زاد من قوة الشكوك، تأكيد زيلينسكي أخيراً أن ترمب رفض طلباً بقيمة 15 مليار دولار لشراء 10 أنظمة صواريخ «باتريوت» للدفاع الجوي.

 

هدف بوتين النهائي تقويض الغرب وإظهار الناتو «نمراً من ورق»

سبق أن حذر مسؤولو الاستخبارات الأميركية من أن أولوية فلاديمير بوتين القصوى لا تزال هي السيطرة الروسية الكاملة على أوكرانيا، وأن أي مفاوضات قد تتلاعب بها روسيا لإطالة أمد الصراع. ولا تزال مسألة الحدود الإقليمية موضع خلاف، لا سيما فيما يتعلق بالأقاليم الخمسة التي تَعدّها روسيا معقلاً لها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي ضمتها عام 2014. ولقد أشار الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى أن أوكرانيا قد لا تستعيد غالبية الأراضي التي خسرتها لصالح روسيا، ما أثار مخاوف بعض الحلفاء الأوروبيين من أن تؤدي اقتراحاته إلى اعتراف واشنطن بسيطرة روسيا على أجزاء من أوكرانيا. وفيما يتمحور النقاش الآن حول كيفية الموازنة بين التنازلات الإقليمية وضمان عدم استئناف روسيا لهجومها بمجرد التوصل إلى اتفاق سلام، يعتقد المسؤولون الأميركيون أن أوكرانيا تتوسل بشكل متزايد للحصول على مساعدات وضمانات أمنية، لا سيما مع تقدم مفاوضات السلام. أيضاً يقول تقرير في مجلة «فورين أفيرز»، إنه على الرغم من أن روسيا ستظلّ تُكافح لكسب الحرب بشكل كامل، لكنها لن تُضطر للقلق بشأن خسارتها أيضاً. إذ قد تُواصل استراتيجيتها القائمة على تدمير البنية التحتية المدنية لأوكرانيا وإرهاب الأوكرانيين لدفعهم إلى مغادرة البلاد. وبينما تمتلك كييف القوى البشرية والموارد والدعم اللازم للحفاظ على السيادة في معظم أنحاء البلاد، قد تتقدم القوات الروسية ببطء وتُحقّق مكاسب إقليمية، مُنجزةً بذلك هدف بوتين المتمثل في إخضاع أربع مناطق من أوكرانيا لسيطرته الكاملة. مع هذا، يرى التقرير أنه لا يوجد لدى روسيا مسار حقيقي للمضي قدماً في أوكرانيا. فخسائرها في الأرواح لن تتوقف حتى ولو تخلت واشنطن عن أوكرانيا، وستظل الحرب خطأً استراتيجياً لروسيا. غير أن التخلي الأميركي سيثقل كاهل أوروبا بشكل كبير، ويشكك في التزام واشنطن تجاه حلفائها الأوروبيين، ومن المرجح أن يولد توترات متصاعدة بين أوروبا وروسيا. وهنا تقول الباحثة سترادنر لـ«الشرق الأوسط»، إن بوتين غير مهتم بالمفاوضات الصادقة، «هو ليس بحاجة إلى وقف إطلاق النار، لكسب المزيد من الوقت، وإعادة تموضع جيشه، ومواصلة طموحاته الإمبريالية لاستعادة مجد روسيا وإظهارها قوة عظمى. إن هدفه النهائي إخضاع أوكرانيا وإظهار أن ناتو مجرد نمر من ورق في دول البلطيق وتقويض الاتحاد الأوروبي». وبالفعل، أعلن بوتين عن العمل على «تقويض الغرب» من خلال الهجمات الإلكترونية وحرب المعلومات التي تُثير شكوكاً عالمية في عصر «ما بعد الحقيقة». كما أن تشكيك ترمب بالعلاقات مع «ناتو»، وتهديداته بضم كندا وغرينلاند، وتسببه في اضطرابات اقتصادية من جراء حرب الرسوم التجارية التي يشنها على معظم دول العالم، كلها عوامل قد تساعد سيد الكرملين على مواصلة سياسة المماطلة حتى تحقيق أهدافه.