بعد حملة انتخابية محمومة وسط اضطرابات أمنية غير مسبوقة، استدعت تكليف الجيش التصدي لعصابات الاتجار بالمخدرات والمنظمات الإجرامية المسلحة، حقق الرئيس الإكوادوري دانيال نوبوا نصراً غير متوقع لينتزع ولاية رئاسية ثانية حتى عام 2029. نوبوا، الثري اليميني المتشدد، تغلب على منافسته اليسارية لويزا غونزاليس التي رفضت الاعتراف بفوزه، متهمة أجهزة الدولة بارتكاب «أبشع عملية تزوير انتخابية»، وطالبت بإعادة فرز الأصوات تحت رقابة محايدة. لكن نوبوا، الذي ينتمي إلى إحدى أغنى العائلات في الإكوادور، رد بالقول: «لم يعد هناك أي شك حول الفائز في الانتخابات!».
المفاجأة الأكبر في شأن انتخابات الرئاسة الإكوادورية هي أنه قبل يوم الاقتراع كانت كل التوقعات تشير إلى فوز ساحق لليسار الذي حذّرت مرشحته من محاولات حثيثة يبذلها المرشح اليميني تحضيراً للطعن في النتائج التي ستعلن فوزها المؤكد، وسيرفض تسليم السلطة. إلا أن ما حصل كان العكس تماماً، عندما أعلن المجلس الانتخابي أن اليمين حقق فوزاً ساحقاً - بفارق 12 نقطة - على اليسار الذي ما زال يتزعّمه من خارج البلاد الرئيس الأسبق الدكتور رافايل كورّيا.
يندرج الفوز الذي حققه دانيال نوبوا بولاية ثانية، وهو ما زال دون الأربعين من العمر، ضمن سياق محلي وإقليمي خاص، يتسم بالعنف الذي تغرق فيه الإكوادور منذ أكثر من سنتين. وكان سبب التزايد الكبير في أعمال العنف التي روّعت المواطنين في جميع أنحاء البلاد، والاصطفاف الواضح للحكومة التي يقودها نوبوا في المعسكر الموالي للإدارة الأميركية الجديدة، والوعود بأن التحالف مع واشنطن هو المدخل إلى معالجة الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعاني منها الإكوادور.
تفويض للوكيل
لقد تولّى نوبوا الرئاسة منذ سنة ونيّف فقط، ليكمّل ولاية الرئيس السابق غيّرمو لاسّو - اليميني أيضاً - الذي اضطر إلى الاستقالة تحت وطأة الفضائح وعجزه عن ضبط الأوضاع الأمنية المتفاقمة. وعلى الأثر، كرّس نوبوا ما كان تبقّى من ولاية سلفه لتحضير فوزه في هذه الانتخابات الأخيرة التي كانت كل التوقعات تشير إلى تقدّم المرشحة اليسارية عليه بفارق كبير. وفي فبراير (شباط) الماضي تقدّم في الجولة الأولى على غونزاليس بفارق 17 ألف صوت.
تُجمع القراءات الأولى في نتائج هذه الانتخابات على أن العامل الأساسي في خطأ التوقعات والفارق الكبير الذي فاز به نوبوا على منافسته، كان مخاوف المواطنين من عودة اليسار إلى الحكم؛ وذلك بعد التجربة السابقة التي اتسمت بتفشي الفساد وقمع الحريات وتراجع الأداء الاقتصادي الذي فاقم الأزمة الاجتماعية وساعد على انتشار أعمال العنف.
ولكن كانت هناك عوامل أخرى، منها: إصرار الزعيم اليساري والرئيس الأسبق رافايل كورّيا على دعم نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا التي هاجر نصف مليون من مواطنيها إلى الإكوادور، وهؤلاء يذكّرون سكان الإكوادوريين يومياً بحال العيش في فنزويلا. وإخفاق المرشحة اليسارية في حشد تأييد السكان الأصليين الذين يشكّلون قوة انتخابية وازنة تجنح تقليدياً إلى دعم مرشحي اليسار في الانتخابات المحلية والوطنية. وأيضاً - وفق تحليلات مراقبين لهزيمة المرشحة اليسارية - نجاح حملة نوبوا في استخدام شعارات «اللعب على حبال الكلام»، التي أثمرت نتائج لصالح الأحزاب اليمينية في بلدان أخرى من أميركا اللاتينية، مثل «إكوازويلا»... للدلالة على أن وصول اليسار إلى الحكم سيدفع الإكوادور إلى نظام على غرار القائم في فنزويلا.
أيضاً، نجح نوبوا في الحملة الواسعة التي أطلقها لاستقطاب الذين تجاوزوا سن الـ65، وهؤلاء ليسوا ملزمين بالاقتراع الإجباري في الإكوادور؛ ما رفع نسبة المشاركة إلى رقم قياسي بلغ 84 في المائة.
اليسار يواصل رفض النتيجة
في المقابل، لا تزال المعارضة اليسارية على موقفها الرافض للاعتراف بفوز نوبوا، مصرّة على إعادة الفرز بإشراف «منظمة البلدان الأميركية»، وهي تراهن في ذلك على قدرتها في تحشيد الشارع للاحتجاج والتهديد بالعصيان المدني.
بيد أن الفارق الكبير في الأصوات بين المرشحين، الذي يزيد على مليون صوت، يجعل من الصعب جداً على المعارضة اليسارية قلب المعادلة التي أسفرت عنها هذه الانتخابات. وهي وفق المحللين من شأنها تعزيز «الجبهة الترمبية» اليمينية المتشددة في أميركا اللاتينية إلى جانب الأرجنتين والسالفادور.
إذ إن هذا الفوز لليمين في الإكوادور يوسّع دائرة الدعم الأميركي اللاتيني لدونالد ترمب الذي يبني تحالفاته السياسية عادة على أساس العلاقات الشخصية، كتلك التي تربطه بالرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي ورئيس السالفادور نجيب بوكيلة، وطبعاً نوبوا... الذي يقيم أبوه في فلوريدا، حيث له مصالح مالية واقتصادية ضخمة.
وحقاً، شهدت الأسابيع القليلة المنصرمة سلسلة من اللقاءات والاتفاقات الثنائية والتطورات المعزّزة لهذا التحالف الإقليمي اليميني. وهو تحالف بدأت إدارة ترمب توليه اهتماماً متزايداً في أعقاب تعثّر خطواتها على الجبهات الأخرى وتنامي الاحتجاجات الداخلية على وقع تراجع ملحوظ في شعبية الرئيس الأميركي.
نشاط واشنطن المتزايد
... بدءاً من الأرجنتينومطلع الأسبوع الفائت، جاءت الزيارة التي قام بها وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت إلى بوينس آيرس لترسخ التماهي العميق بين ترمب والرئيس الأرجنتيني ميلي، الذي منذ توليه الحكم نهاية عام 2023 زار الولايات المتحدة سبع مرات، ووضع نفسه في تصرّف الرئيس الأميركي «لتطبيق البرنامج الليبرالي الذي يحمله في أميركا والعالم»، على حد تعبيره. ولقد نوّه بيسنت بجهود الحكومة الأرجنتينية المتسارعة للتفاوض حول حزمة من التدابير التجارية المتبادلة مع الولايات المتحدة، وأعرب عن استعداد واشنطن لترسيخ موقع الأرجنتين شريكاً اقتصادياً تفضيلياً للولايات المتحدة.
ولكن إلى جانب التصريحات الرسمية التي تناولت تعزيز الشراكة بين البلدين، توقف الوزير الأميركي طويلاً عند «البُعد الآيديولوجي» للتعاون الأميركي - الأرجنتيني، مؤكداً «أن في صميم التيارين اللذين يقودهما ترمب وميلي اعتقاداً راسخاً بأن السلطة هي للشعب وحده وليس للبيروقراطيين وأجهزتهم، وأن تقديم الديمقراطية على البيروقراطية هو الباب إلى تحقيق النمو الاقتصادي والرخاء».
في المقابل، أعرب الرئيس الأرجنتيني ميلي عن عميق امتنانه للدعم الذي تقدمه واشنطن لبلاده لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الأميركي للتنمية من أجل إعادة جدوَلة الديون المستحقة التي تتجاوز 55 مليار دولار... ولا مؤشرات إلى أن الأرجنتين قادرة على سدادها في القريب المنظور. وشدّد ميلي على أن الأهم من التحوّل الجذري في العلاقات بين البلدين «القيم والمبادئ المشتركة التي يتقاسمها الطرفان، مثل الحياة والحرية والملكية الخاصة». وبعدما كرّر الزعيم الأرجنتيني اليميني حملته وانتقاداته المعهودة لليسار والاشتراكية، قال إنه «يتفهّم» قرار الإدارة الأميركية فرض زيادة بنسبة 10 في المائة على الرسوم الجمركية للصادرات الأرجنتينية وغيرها من بلدان المنطقة - باستثناء نيكاراغوا وفنزويلا - وذكر أن بلاده جاهزة لتوقيع اتفاقية تجارية مع واشنطن وفقاً للشروط الجديدة.
«الحليف» السالفادوري
وقبل أن ينهي بيسنت زيارته إلى الأرجنتين، التي وصفها ميلي بـ«المحطة التاريخية»، كان الرئيس ترمب يستقبل في «المكتب البيضاوي» رئيس السالفادور نجيب بوكيلة، الذي سبق له الإعراب مراراً عن إعجابه العميق بمضيفه. وجاء هذا اللقاء بعدما وضع بوكيلة في تصرّف الإدارة الأميركية الجديدة «معتقل الإرهاب»، وهو أضخم سجون العالم وأحدثها، و«درة التاج» في الحرب التي يشنّها بوكيلة منذ وصوله إلى السلطة ضد العصابات التي كانت تزرع الرعب في السالفادور، وتسيطر على مفاتيح حياتها الاقتصادية والسياسية.
وللعلم، كانت حكومة بوكيلة قد استقبلت أواسط الشهر الماضي في ذلك السجن أكثر من 250 مهاجراً طردتهم السلطات الأميركية بسبب انتمائهم إلى عصابات فنزويلية، لكن المحكمة الأميركية العليا أمرت لاحقاً بتسهيل عودة أحدهم، وهو سالفادوري طُرد بالخطأ. وحتى تاريخه ما زالت حكومة السالفادور تتجاهل هذا الطلب الذي تجاهلته أيضاً الإدارة الأميركية. بل، وأعرب بوكيلة في نهاية لقائه بترمب، أنه لن يعيد «إرهابياً إلى الولايات المتحدة».
ثم إنه، رغم الانتقادات الشديدة التي تتعرض لها سياسة بوكيلة العقابية في الكثير من وسائل الإعلام الكبرى ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والوكالات الدولية، وفي طليعتها الأمم المتحدة، فإنها لقيت ترحيباً واسعاً عند الإدارة الأميركية، التي فتحت لرئيس السالفادور خطاً مباشراً للتواصل مع الرئيس ترمب، الذي أعرب – بدوره - عن «تقديره وإعجابه» لما يقوم به بوكيلة. وتابع: «أنتم مثلنا، تريدون القضاء على الجريمة والإرهاب، وسياستكم في هذا الصدد تكللت بنجاح باهر. أريد أن أقول لشعب السالفادور إن لهم رئيساً مذهلاً». وردّ بوكيلة بالقول: «نعرف أنكم تواجهون مشكلة مع الإرهاب والجريمة، ونحن بإمكاننا أن نساعد في ذلك. ثمة من يقول إننا اعتقلنا الآلاف، أما أنا فأقول إنّنا حرّرنا الملايين». فسارع ترمب إلى إبداء إعجابه الشديد بهذا التعبير، وطلب من بوكيلة أن يأذن له باستخدام هذا التشبيه.
واشنطن تكافئ حلفائها
لكن التناغم بين الطرفين لم يقتصر على تبادل الإطراء والمدائح؛ إذ حصلت السالفادور مقابل تسهيلها تطبيق سياسة الهجرة التي وضعتها الإدارة الأميركية، على مساعدات مالية ضخمة من واشنطن، وعلى قرار من وزارة الخارجية الأميركية - سيفتح شهية الكثير من البلدان الأميركية اللاتينية - وهو رفع مستوى الضمانات الأمنية في السالفادور إلى أعلى الدرجات. وبذا تتجاوز السالفادور بلدان مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا. وقال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، في هذا المجال، إن زعامة بوكيلة كانت حاسمة في اتخاذ هذا القرار الذي يفتح أبواب سفر المواطنين الأميركيين إلى السالفادور على مصاريعها.
روبيو كان أيضاً أول الذين هنأوا نوبوا على إعادة انتخابه رئيساً للإكوادور ضد المرشحة اليسارية غونزاليس. وقال الوزير الأميركي (الكوبي الأصل)، الذي أصبح اللاتيني الأول الذي يتولى حقيبة الخارجية في الولايات المتحدة: «سنعمل معاً من أجل حماية بلدينا والمنطقة من المنظمات الإجرامية الخطرة، والتصدي لتدفق الهجرة غير الشرعية».
واشنطن تتعامل مع قيادات أميركا اللاتينية... وعينها على التوسّع الصيني
> بعد أيام قليلة من فوز نوبوا في الانتخابات الرئاسية الإكوادورية، توجّه إلى مسقط رأسه مدينة ميامي الأميركية، وقال إنه يتوقّع الحصول على مساعدات من الإدارة الأميركية لمواجهة أزمة العنف التي تزرع الرعب والفوضى في الإكوادور، وعلى دعم اقتصادي يساعد على معالجة مشكلة البطالة بين الشباب. وأيضاً، تحدّث نوبوا في حوار مع محطة «سي إن إن» الأميركية، عن إعجابه بسياسة الرئيس الأميركي الذي قال إنه سيلتقيه في الأسابيع المقبلة لتوقيع اتفاق للشراكة التجارية والتعاون الأمني بين بلديهما. في أي حال، يمكن القول، إنه خلافاً للتوقعات الأولى ورغم تعيين الرئيس الأميركي دونالد ترمب أميركياً لاتينياً في منصب وزير الخارجية، لم تتشدد السياسة الإقليمية للرئيس الأميركي في مواجهة القيادات التقدمية - أو اليسارية - في المنطقة، كالمكسيكية كلاوديا شاينباوم، والبرازيلي إيغناسيو لولا والكولومبي غوستافو بترو. إذ ما زال هؤلاء الرؤساء يحافظون على قدر من المودة في علاقاتهم مع واشنطن، ويبقون على مسافة حذرة من قراراتها. ولكن، بلا شك، تجهد إدارة ترمب لبناء تحالفات وطيدة مع الحكومات اليمينية التي تدور في فلكها العقائدي، أو تلك التي تشعر بحاسة ماسة للسير في ركبها. وبالتالي، يتوقّع مراقبون أن هذه الخطوات الأولى التي يشرف عليها ترمب مباشرة، والتي رسّخت أقدام إدارته في أميركا الوسطى عبر السالفادور، و«منطقة الآنديز» عبر الإكوادور، و«المخروط الجنوبي» عبر الأرجنتين، هي «منصة» لتحالفات أوسع يبدو الرئيس الأميركي اكثر اقتناعاً بضرورتها إذا ظلت سياساته على الجبهات الأخرى متعثرة. هنا يقول هؤلاء إن الانعطاف نحو المزيد من اهتمام واشنطن ببلدان القارة الأميركية، يأتي تجاوباً مع إصرار الأوساط الاقتصادية على ضرورة التصدي، بسرعة وحزم، للتوسّع الصيني في المنطقة الذي بات يهدد الهيمنة التقليدية للولايات المتحدة على حديقتها الخلفية. وتراقب هذه الأوساط، بقلق شديد منذ سنوات، تغلغل الصين الاقتصادي والتجاري، وتنامي استثماراتها الاستراتيجية في المواني والمطارات في بلدان مثل المكسيك، والبرازيل، والبيرو وبوليفيا. وهي تخشى أن تتحول هذه البلدان «حزاماً ضاغطاً» على الاقتصاد الأميركي الذي يواجه تحديات متعددة.