هل ستؤدي هشاشة عالم الإنترنت إلى إضعاف الأمن الإلكتروني؟

مبادرة التحالف للشبكة العنكبوتية شفافة وآمنة

يوجين كاسبرسكي رئيس مجلس إدارة شركة كاسبرسكي لاب
يوجين كاسبرسكي رئيس مجلس إدارة شركة كاسبرسكي لاب
TT

هل ستؤدي هشاشة عالم الإنترنت إلى إضعاف الأمن الإلكتروني؟

يوجين كاسبرسكي رئيس مجلس إدارة شركة كاسبرسكي لاب
يوجين كاسبرسكي رئيس مجلس إدارة شركة كاسبرسكي لاب

تحالفت هيئات أمن إلكتروني وأمن المستخدمين لإطلاق مبادرة تدعى «التحالف لإنترنت شفاف وآمن» Coalition for a Secure and Transparent Internet بهدف حماية أمن المستخدمين على الإنترنت من عمليات التحايل الإلكتروني، وخصوصا الأطفال من المعتدين. وتحدثت «الشرق الأوسط» مع «يوجين كاسبرسكي»، المدير العام ورئيس مجلس إدارة شركة «كاسبرسكي لاب» المتخصصة بالأمن الرقمي للتحدث حول أحدث نزعات الأمن الإلكتروني.
ويرى «يوجين كاسبرسكي» بأن قطاع الأمن الإلكتروني قد وصل إلى مفترق طرق، وأصبح عليه أن يقرر أي الطرق يسلك، حيث إن الاختيار الذي سنحدده من شأنه أن يساهم في صياغة مستقبل قطاعنا وأمن الإنترنت والفضاء الإلكتروني لسنوات قادمة، ولذلك فإننا بحاجة إلى اتخاذ القرار الأفضل والأنسب. ويؤكد بأن نتيجة قرارنا سينعكس على كل واحد منا؛ هل سنتحمل تكاليف أكثر دون أن نحظى بالأمان الكافي؟ وهل ندفع مبالغ تأمين مرتفعة ورسوما مصرفية عالية لتغطية العدد المتزايد من الحوادث الأمنية الإلكترونية؟ ومن وجهة نظره، فإننا نقف اليوم في وسط العاصفة، لا على صعيد السياسة الجغرافية فحسب، وإنما كذلك على صعيد السياسة الإلكترونية، ويبدو الأمر وكأن الثقة قد تزعزعت كثيرا، والشك والارتباك أضحيا سيدي الموقف في عالمنا الإلكتروني الهش.
وهناك طريقان أمامنا، الأول يكمن في تجزئة القطاع وعزله، الأمر الذي يعتبر رد فعل طبيعيا للخوف وانعدام الثقة، فعندما يخاف المرء يذهب إلى بيته ويغلق عليه الأبواب. ولكن التجزؤ في الأمن الإلكتروني يعني تنامي التدخل السياسي وانهيار المشاريع الدولية وتراجع مستويات التعاون، الأمر الذي قد يترك كل بلد يواجه التهديدات الإلكترونية العالمية بمفرده. أما فيما يتعلق بالمستخدمين، فقد يعني ذلك ارتفاع التكاليف مع سعي الشركات إلى تعويض الأموال التي خسرتها جراء تعرضها لجرائم الإنترنت، فضلا عن انخفاض مستويات الحماية بسبب قلة الخيارات المتاحة ومحدودية المنافسة التي تعتبر محركا للابتكار. أما الطريق الثاني، ففيه يكمن التنسيق وتشارك المعلومات والتعاون بين قوات الشرطة الوطنية وشركات الأمن الإلكتروني وسلطات التحقيق المشتركة، لتشكيل مجتمع موحد ضد التهديدات الإلكترونية التي لا تعرف الحدود الجغرافية. ومن شأن هذا المشهد المفتوح أن يشجع بناء قطاع أمن إلكتروني حيوي يتسم بالتنافسية التي تؤدي إلى ابتكار تقنيات أفضل وتحقيق مستويات حماية أقوى للجميع.
وأكدت شركة IBM بأن مواجهة تحديات الأمن الإلكتروني تتطلب اتخاذ إجراءات شجاعة لا يمكن أن تقوم بها شركة واحدة بمفردها، في حين قالت شركة RSA لأمن البيانات بأننا بحاجة إلى التعاون بين الفرق الداخلية من جهة ومع المعنيين خارج شركاتنا الخاصة. أما البيان الصادر عن «اتفاقية الأمن الإلكتروني» التي تم توقيعها حديثا فيؤكد بأن الشركات الأمنية ستعمل معا وستقيم علاقات شراكة رسمية وغير رسمية لتحسين التعاون الفني والإفصاح المنسق عن الثغرات وتبادل المعلومات بشأن التهديدات.
- مشهد التهديدات الإلكترونية المتغير
وتتزايد التهديدات عبر الإنترنت من ناحيتي التطور والحدة، وتتبع شركة «كاسبرسكي لاب» الآن أكثر من 100 من الجهات التخريبية الرئيسية، ومعظمها مجموعات تجسس تمتلك ترسانات هائلة من الأدوات والأساليب والتقنيات المصممة لجمع المعلومات الاستخبارية. كذلك تفعل شركات الأمن الأخرى؛ فالكل يبحث في العشرات من الهجمات الموجهة التي تقف وراءها جهات تتحدث الكثير من اللغات كالإنجليزية والروسية والكورية والصينية والإسبانية والإيطالية والعربية، ويحاربها. ويُعتقد بأن إيران تقف خلف الكثير من الجهات الرئيسية التي تستهدف المنطقة العربية، وخصوصا المملكة العربية السعودية. ولا تقتصر هذه التهديدات على استهداف الجهات الحكومية والبنية التحتية، وإنما تستهدف أيضا سلاسل التوريد والشركات الأخرى وحتى الأفراد، ويتم استهداف بعض الضحايا استهدافا مباشرا، فيما يُعتبر البعض الآخر أضرارا جانبية.
ولما كانت الحكومات ترغب بالطبع في حماية مواطنيها والشركات والصناعات ومرافق البنية التحتية التي تزداد اتصالا وترابطا من هذه التهديدات، فإن أسهل الطرق وأبسطها وأقلها تكلفة للقيام بذلك تتمثل في التحصن وإغلاق الباب! ولكن يشهد الواقع كثيرا من الأمثلة على التوجه المتمثل بـ«الأبواب المغلقة»؛ فقطاع الأمن الإلكتروني يواجه تجزؤه إلى وحدات تفصلها حواجز سياسية وأخرى تنظيمية، وهذه الأخيرة تتزايد بتزايد التشريعات التنظيمية التي تضعها الحكومات، ما يوجد حواجز إضافية أمام شركات الأمن الإلكتروني، الأمر الذي يُصعب حماية المواطنين والشركات، إن لم يجعلها مستحيلة. وخلال السنوات القليلة الماضية، قدّم كل من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وسنغافورة والصين وغيرها من البلدان متطلبات تنظيمية جديدة صارمة، وهي متطلبات من الممكن أن تؤدي إلى الحمائية، ما يزيد من صعوبة عمل الشركات في البلدان الأخرى، كما يمكن أن يؤدي إلى سباق تسلح في فضاء الإنترنت، حيث أعلنت أكثر من 30 دولة دوائر عسكرية إلكترونية، وربما يكون الرقم الحقيقي أعلى من ذلك، إذ تجري عسكرة فضاء الإنترنت بسرعة هائلة.
وبصرف النظر عن السلبيات المعتادة للعسكرة، كارتفاع الضرائب وانعدام الثقة وزيادة الغموض، ثمة أمر آخر مهم؛ فسوف ينتهي أمر الأسلحة الإلكترونية عاجلا أم آجلا في أيدي الأشرار. ويصعب سرقة صاروخ وإطلاقه، ولكن يسهل كثيرا سرقة الأسلحة الإلكترونية. ويكفي مثالا على هذا الأمر الأداة الخبيثة EternalBlue التي يُزعم أن دولة أنشأتها للاستفادة من ثغرة أمنية غير منشورة، وما إن تم الكشف عنها على الإنترنت في أبريل (نيسان) من العام الماضي 2017. حتى استولت عليها جهة أخرى وجرى دمجها بعد شهر واحد فقط في البرمجية الخبيثة WannaCry سيئة السمعة التي استخدمت في شن هجمات واسعة لطلب الفدية، حتى باتت برمجية «الاستغلال» الأولى في العام 2017، هذا عدا عن أمثلة أخرى مشابهة.
وتحتاج شركات الأمن الإلكتروني إلى التعاون وهي راغبة فيه، ولا توجد حدود في الإنترنت ولذلك من غير المستغرب ألا تعرف تهديدات الإنترنت حدودا هي الأخرى، بيد أن التجزؤ يعطل القدرات المشتركة لشركات الأمن الإلكتروني لمحاربتها والوقوف في وجهها. ولا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولكن المستقبل واعد، رغم عالم الإنترنت قد نما في أماكن مظلمة أحيانا، إلا أن القدرة موجودة للكشف عن تلك الأماكن لتصبح أكثر شفافية ووضوحا، وتمنح الناس دليلا على أن باستطاعتهم الوثوق في عمل شركات الأمن الإلكتروني والاتكال على الدور الحيوي الذي تؤديه.
وأسست شركة «كاسبرسكي لاب» مبادرة الشفافية العالمية Global Transparency Initiative التي أتاحت من خلالها شيفراتها البرمجية للمراجعة المستقلة، وذلك لإحداث تعديلات في كيفية إنشاء المنتجات وتحديث البرمجيات ووضع قواعد للكشف عن التهديدات، ولتضع تغييرات في طريقة معالجة البيانات الواردة من الكثير من المستخدمين حول العالم. وتسعى الشركة إلى جانب شركات أخرى في مجال الأمن الإلكتروني على مواصلة الضغط من أجل إيجاد المزيد من قنوات التعاون وفتح الأبواب المغلقة لإنقاذ عالم الإنترنت خطوة بخطوة. وتجدر الإشارة إلى أن الشركة تفحص يوميا نحو 320 ألف ملف خبيث جديد غير معروف سابقا، الأمر الذي يبرهن مدى حجم وجدية الجهات التي تقف خلف تلك البرمجيات الخبيثة. ويمكن الحصول على المزيد من المعلومات حول مبادرة الشفافية العالمية بزيارة الرابط التالي:
https://www.kaspersky.co.uk/about/transparency


مقالات ذات صلة

إيلون ماسك يجري مقابلة اليوم مع زعيمة حزب ألماني شعبوي على منصة «إكس»

العالم أليس فايدل زعيمة حزب «البديل لأجل ألمانيا» اليميني الشعبوي (رويترز)

إيلون ماسك يجري مقابلة اليوم مع زعيمة حزب ألماني شعبوي على منصة «إكس»

يعتزم رجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك إجراء مقابلة مع أليس فايدل زعيمة حزب «البديل لأجل ألمانيا» اليميني الشعبوي على منصة «إكس»، اليوم (الخميس).

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
تكنولوجيا يؤدي ارتفاع استخدام أجهزة إنترنت الأشياء (IoT) إلى ظهور ثغرات جديدة يمكن لمجرمي الإنترنت استغلالها (شاترستوك)

ملصق لتصنيف مستوى أمان الأجهزة المتصلة بالإنترنت... في أميركا

كشف البيت الأبيض، اليوم الثلاثاء، عن ملصق جديد لتصنيف معايير السلامة الإلكترونية للأجهزة المتصلة بالإنترنت مثل منظمات الحرارة الذكية وأجهزة مراقبة الأطفال…

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
آسيا علما تايوان والصين يظهران في صورة مركبة (رويترز)

تايوان تتهم الصين باستخدام معلومات مضللة «لتقويض ديمقراطيتها»

كشفت تايوان أن الصين تضاعف جهودها لتقويض الثقة في ديمقراطية الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي وعلاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة من خلال نشر المعلومات المضللة.

«الشرق الأوسط» (تايبيه)
أوروبا صورة ملتقطة في 17 ديسمبر 2024 بالعاصمة الألمانية برلين تظهر فيها أليس فايدل زعيمة الكتلة البرلمانية لحزب «البديل من أجل ألمانيا» خلال مؤتمر صحافي (د.ب.أ)

إيلون ماسك سيستضيف زعيمة اليمين المتطرف الألمانية في مقابلة مباشرة

أعلنت المرشحة الرئيسية للانتخابات البرلمانية الألمانية عن حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، أنها ستُجري حواراً مباشراً عبر الإنترنت مع إيلون ماسك.

«الشرق الأوسط» (برلين)
يوميات الشرق تاريخياً كانت المواقع تتطلب كلمات مرور معقدة بمزيج من الأحرف والرموز الأبجدية الرقمية (رويترز)

كلمات المرور المعقدة قد لا تكون فعالة كما تعتقد... ما السبب؟

وجد المعهد الوطني للمعايير والتقانة أن «فائدة مثل هذه القواعد أقل أهمية مما كان يُعتقد في البداية»، حيث إنها تفرض عبئاً «شديداً» على ذاكرة المستخدمين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)