تعاني غالبية الأسواق الناشئة من حالة من الاضطراب الاقتصادي، الأمر الذي تخشاه الاقتصادات المتقدمة خوفا من «العدوى»، ومثل هذه المخاوف مبررة بالنظر إلى سوابق أخرى مؤلمة، ولكن في الوقت ذاته تخشى كل البلدان تقلبا على المدى القصير، وتباطؤا في النمو على المدى الطويل.
وقادت الاقتصادات الناشئة «المتفرقة في الأداء الاقتصادي» وصفة للاستقرار النسبي لبلدانهم وللاقتصاد العالمي، حيث مثلت تلك الدول ما نسبته 29 في المائة من التجارة العالمية في السلع، و24 في المائة من التجارة العالمية في الخدمات، وقادت نصف الاستهلاك العالمي خلال العقدين الماضيين... وهو ما دعم فكرة أنه يمكن لهذه الاقتصادات، وغيرها من الاقتصادات التي تسعى لمحاكاة هذا النموذج، أن تستمر في العمل كمحرك للنمو العالمي في السنوات المقبلة.
وحقق متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الصين وهونغ كونغ وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايلاند نموا سنويا لا يقل عن 3.5 في المائة في أكثر من نصف قرن حتى عام 2016.
وفي 11 دولة أخرى، نما متوسط نصيب الفرد بنسبة لا تقل عن 5 في المائة لمدة 20 عاما من 1996 إلى عام 2016. وأظهرت الكثير من هذه الاقتصادات مرونة من خلال التعافي السريع من الأزمات المالية، لا سيما خلال الأزمة الآسيوية في عام 1997 وصمدوا أيضا في مجابهة أزمة 2008. وأرجع معهد ماكينزي العالمي للأبحاث الاقتصادية هذا النجاح، لجدول أعمال مؤيد للنمو يتضمن خطوات واضحة لزيادة تراكم رأس المال، والجهود المبذولة لتحسين فعالية الحكومة، كما سعت بعض هذه الدول إلى خلق ديناميكيات أكثر تنافسية في أسواقها المحلية.
وتلعب الشركات العامة بالأسواق الناشئة دورا بارزا أيضا في تعزيز الإنتاج المحلي وكانت محفزا للتغير. وأظهر بحث ماكينزي أن شركات الأسواق الناشئة تستمد 56 في المائة من الإيرادات في ابتكار المنتجات والخدمات الجديدة، وفي المتوسط، تتخذ قرارات استثمارية مهمة أسرع في مدة من ستة إلى ثمانية أسابيع من نظيراتها في الاقتصادات ذات الدخل المرتفع.
ورغم ذلك فإن مستويات الديون في هذه الدول لا تزال تثير القلق، فعلى سبيل المثال إجمالي ديون الشركات في الصين بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي من بين أعلى المعدلات في العالم، ونمت ديون الشركات بقوة في كل من فيتنام وشيلي وتركيا وبيرو.
ومن شأن ارتفاع أسعار الفائدة عالميا أن يضع هؤلاء المقترضين من الشركات في خطر أكبر، على الرغم من أن إجمالي مستويات الديون في الأسواق الناشئة - بما في ذلك الأسر والشركات والحكومات - لا يزال أقل من مستوياتها في الاقتصادات المتقدمة. ولكن برغم ذلك من الغريب أن نفترض أن أي اقتصاد ناشئ يمكن أن يكون في «مأمن» من التقلبات العالمية.
- سلاح ذو حدين
واستفاد المقترضون في الدول الناشئة بشكل كبير من البيئة العالمية لسيولة وفيرة وانخفاض أسعار الفائدة الأميركية في السنوات التي تلت الأزمة المالية العالمية في 2008 لتسجل بعض البلدان لا سيما تركيا والأرجنتين وشيلي وجنوب أفريقيا وإندونيسيا أكثر نسب الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي والمقومة بالدولار الأميركي ارتفاعا في نهاية الربع الأول من 2018، وهذا يبرر ضعفها الكبير أمام تشديد السياسة النقدية الأميركية واستمرار انخفاض عملاتهم المحلية.
وارتفعت ديون القطاعات العامة والخاصة في الاقتصادات الناشئة على مدى السنوات العشر الماضية، وتواجه البلدان الآسيوية، ولا سيما الصين مشكلة في الديون المقومة بالعملة المحلية، فيما سجلت إندونيسيا فقط ارتفاعا في ديونها المقومة بالدولار كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي دول أميركا اللاتينية وتركيا وجنوب أفريقيا، ارتفعت ديون الشركات المقومة بالدولار بشكل كبير.
وقالت كرستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، إنها لا ترى من وجهة نظرها «انتشارا لعدوى» الأزمات الاقتصادية والمالية في الكثير من بلدان الأسواق الناشئة؛ على عكس شركات الطيران - على سبيل المثال - التي بدأت تستشري بينها حمى المشكلات والإضرابات، وتقاتل في الوقت الحالي للحفاظ على مكانتها.
لكنها حذرت من أن «هذه الأمور» يمكن أن تتغير بسرعة، واستشهدت «بعدم اليقين وعدم الثقة التي أنتجتها التهديدات في الحرب التجارية، حتى قبل أن تتجسد لحقيقة» باعتبارها واحدة من المخاطر الرئيسية التي تواجه العالم النامي.
وجاءت تصريحات لاغارد في الوقت الذي يستعد فيه الرئيس الأميركي دونالد ترمب لفرض رسوم جمركية جديدة على مائتي مليار دولار من الواردات الصينية، مما أدى إلى تصاعد حاد في حرب التجارة الأميركية مع بكين، وتعهدت الصين بالرد وقال ترمب إنه مستعد لفرض رسوم على 267 مليار دولار إضافية في المنتجات الصينية ردا على ذلك.
- نمو في التحديات
وتزايدت حدة التحديات مع كل هذه التصعيدات التي تكافح فيها الأسواق الناشئة لاستعادة ثقة السوق بعد موجات بيع حادة بسبب ارتفاع العملة الأميركية، الأمر الذي أثار تساؤلات حول ما إذا كان بإمكان الحكومات والشركات سداد المليارات من الديون المقومة بالدولار.
وحتى الآن، تتركز أزمة العالم النامي في الأرجنتين وتركيا، وكلاهما له قضايا مالية أو سياسية محددة تثير مخاوف المستثمرين، في حين هناك بلدان مختلفة مثل جنوب أفريقيا وإندونيسيا والبرازيل شهدت في الأسابيع الأخيرة نزوح رؤوس الأموال مما يزيد من خطر حدوث أزمة أوسع.
ومن المقرر أن يجتمع المركزي التركي اليوم الخميس بعد أن أشار لاستعداد لرفع أسعار الفائدة لاستعادة ثقة المستثمرين، وطالبت الأرجنتين تسريع قرض الإنقاذ من صندوق النقد الدولي بقيمة 50 مليار دولار لدعم مواردها المالية.
وقالت لاغارد، إن الإجراءات التقشفية الجديدة التي أعلنها ماوريسيو ماكري رئيس الأرجنتين، سيكون «عاملا حاسما» للسياسة المالية في المستقبل.
وكان صندوق النقد يبحث ما إذا كانت إجراءات تقشف ماكري ستوفر الميزانية المتوازنة الموعودة قبل عام من الموعد المخطط لها أصلا، فضلا عن دراسة تدابير الإصلاح الاقتصادي وتأثيرها على الاقتصاد.
وقالت لاغارد إنه من الضروري مواصلة التركيز على المواطنين الضعفاء في الأرجنتين، الذين يتعرضون لضربات اقتصادية نتيجة التضييق.
وفعليا لا يحظى صندوق النقد بشعبية كبيرة في الأرجنتين بسبب البرامج السابقة التي يعتقد الكثير من الناخبين أنها تركز بشكل مفرط على التقشف.
وأشارت مديرة الصندوق إلى أن زيادة الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة والصين سيكون لها «تأثير قابل للقياس على النمو في الصين»، وسيؤدي إلى «إثارة نقاط الضعف» بين جيرانها الآسيويين بسبب سلاسل التوريد المتكاملة الخاصة بهم.
فيما أكدت على أن التأثير السلبي في الولايات المتحدة سيشعر به في الغالب «الأشخاص ذوو الدخل المنخفض من السكان الاستهلاكيين» الذين سيتعرضون لارتفاع الأسعار على مجموعة كبيرة من السلع والخدمات… «ومن شأن ذلك كله أن يضيف صدمة لا توجد فيها عدوى ولكن هناك نقاط ضعف مجزأة»، وفقا للاغارد.
- أسواق آسيا تعاني
وانخفضت الأسهم الصينية أمس إلى أدنى مستوياتها في 31 شهر، ليهبط مؤشر شانغهاي المركب بنسبة 0.3 في المائة ليغلق عند أدنى مستوي له منذ أواخر يناير (كانون الثاني) 2016، في حين استمرت مخاوف المتداولين بسبب تصاعد وتيرة التهديدات في الحرب التجارية.
وعانت الأسهم في الصين بسبب تأثير تعريفات ترمب، لأنها ستضر الطلب على البضائع الصينية في أميركا، كما أن ثأر الانتقام المتبادل في بكين يدفع الأسواق للتدهور، ويجعل السلع الأميركية أكثر سعرا في الداخل.
وسحب القلق من الحرب التجارية أمس مخزونات الأسواق الناشئة إلى أدنى مستوي منذ مايو (أيار) 2017.
في حين عزز الدولار مكاسبه مع استمرار توخي الأسواق الحذر بشأن محادثات التجارة بين الولايات المتحدة وكندا، في حين تأثرت المعنويات بالضعف المستمر في العملة الصينية.
وفي ظل شهية محدودة للمخاطرة - حيث تراجع مؤشر للأسهم الآسيوية لليوم العاشر على التوالي وهبطت عملات الأسواق الناشئة بقيادة الروبية الهندية - فقد باع المتعاملون العملات التي تعتبر منكشفة على مخاطر أي تصعيد في النزاع التجاري.
وتصدر الدولار الأسترالي خسائر العملات الرئيسية وهبط 0.3 في المائة إلى 0.7102 دولار أميركي، غير بعيد بذلك عن قاع فبراير (شباط) 2016 البالغ 0.7085 دولار.
وارتفع الدولار الأميركي نحو واحد في المائة في الأسبوعين الأخيرين لتصل مكاسب الأشهر الستة المنصرمة إلى أكثر من ستة في المائة.
واستقر مؤشر الدولار، الذي يقيس قوة العملة الأميركية مقابل سلة عملات، عند 95.20 مقتربا من أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع 95.74 الذي بلغه الأسبوع الماضي.
وقال مصدران كنديان الليلة الماضية إن أوتاوا مستعدة لفتح سوق الألبان الكندية بشكل محدود أمام الولايات المتحدة كتنازل في المفاوضات الجارية لتعديل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية.
ولم يطرأ تغير يذكر على الدولار الكندي الذي سجل 1.3073 للدولار الأميركي بعد أن صعد نحو ثلاثة أرباع في المائة أواخر الجلسة الأميركية.
لكن القلق بشأن النزاع التجاري بين الصين والولايات المتحدة - أكبر اقتصادين في العالم - ظل مسيطرا على معظم المستثمرين.
ونزل اليوان الصيني 0.1 في المائة في المعاملات الخارجية إلى 6.8857 للدولار بعد أن هبط في وقت سابق إلى 6.8888 هو أقل سعر له في أكثر من أسبوعين.