يحتاج كل فيلم روائي إلى فريقين من الأبطال: فريق من الأخيار، وفريق من الأشرار. وعندما يضع الكاتب مسودة مشروعه، فإن أول ما يتجه لاختياره هو: من هم أبطال الدراما، ومن هم أشرارها؛ هذا التقسيم موجود عبر تاريخ الدراما بأسره.
في مسرحية سوفوكليس «أنتيغون»، المكتوبة سنة 441 قبل الميلاد، هناك المرأة ذات الإرادة القوية «أنتيغون» في الجانب الأول (مع آخرين)، ووالد زوجها الملك «كريون» الذي تربع على عرش مقاطعة ثيبيس بعد صراع الأخوين إتيوكليس وبولينياكس على السلطة؛ هما وأنتيغون وإسمين هم أبناء الملك الضال أوبيديوس، الذي قتل أبيه وتزوج من أمه، وانتهى مشرداً في ربوع أخرى من اليونان القديمة، حيث مات.
- خير وشر وإنسان
في تلك الدراما، تم تقسيم الأخيار والأشرار: أنتيغون وزوجها هايمون وشقيقتها إسمين من الأخيار، وكريون وبعض حاشيته من الأشرار. وعملياً، سارت كل الأعمال الدرامية أو الكوميدية أو التراجيدية على هذا النحو إلى اليوم. في كل عمل روائي، حتى لو كان من صنف «قصة حب» موضوعة في أبسط لباس من السذاجة، كما وضعها إريك سيغال (ونقلها إلى الشاشة آرثر هيلر سنة 1970)، هناك هذا التقسيم.
في تلك الرواية، جيني الفتاة الفقيرة المصابة بالسرطان، وأوليفر الشاب الآتي من أسرة ثرية، هما الأخيار. والأشرار هم الذين عارضوا حبهما لأسباب طبقية.
ما ساد الأعمال الإغريقية ساد سواها في العصور القديمة، ومسرحيات ويليام شكسبير من بين تلك التي استندت بعزم على هذا التفعيل، كذلك ما دونها من أعمال روائية في القرنين الماضيين وصولاً إلى اليوم.
هذا أكثر من كافٍ للسينما، حين تحاول سرد حكاياتها. بالإمكان أن نأخذ أي فيلم لنرى الوضع نفسه: أبطال من الأخيار، وأعداء من الأشرار؛ المختلف هو أصول تلك الشخصيات. بل موني (كلينت إيستوود) في «غير المسامَح» هو البطل الذي سينتقم مما حدث لامرأة (فرنسيس فيشر) شوهها رجل شرير. في غمار ذلك، سيجد أن شريف البلدة ليتل بل (جين هاكمن)، وصاحب الحانة التي وقعت فيها الحادثة (أنطوني جيمس)، مسؤولان، كذلك رجال الأول؛ موني يبيدهم جميعاً.
مساعداه هما أفرو - أميركي (مورغن فريمان) تم الاعتداء عليه وتعذيبه من قبل شريف البلدة ورجاله، وشاب (جيمس وولفت) بريء من كل ذنب سوى ادعائه أنه قاتل، وذلك لأجل استعراض قوة لا يمتلكها.
في ذلك الفصل الأخير من المشاهد، عندما تبدأ عملية الإبادة، يصرح بطل الفيلم مفصحاً عن هويته: «نعم، لقد قتلت نساءً ورجالاً وأطفالاً، وكل من دب على وجه الأرض، وأنا هنا لقتلك الآن». هذا الإفصاح لتاريخ موني يجعله مجرماً، لكن هذا قابع في تاريخ ما قبل بداية الفيلم؛ في الفيلم ذاته هو بطل يسعى لتحقيق العدالة.
بعض نقاد السينما يعيبون على الأفلام السائدة أنها تمارس لعبة «البطل» ضد «الشرير»، وأنها بالتالي تتشابه في مصادرها، وفي سياقها، كما في نهاياتها. لكن المسألة ليست هكذا على الإطلاق، فالخير والشر موجودان في الأفلام التي تتحدث في الفن والثقافة والإنسان وقضاياه. في فيلم إنغمار برغمان «ساعة الذئب»، نجد ليف أولمن امرأة ذات مقومات إنسانية وعاطفية صادقة، متزوجة من ماكس فون سيدو الذي سيرتكب جريمة قتل دافعها جنسي.
في فيلم كوستا - غافراس «زد»، الأخيار يسار والأشرار يمين. وعندما ووجه بذلك، قام في فيلمه اللاحق «الاعتراف» بتحويل الدفة: الأخيار يمينيون والأشرار يساريون. لكن حتى عندما لا يكون في المنظور العام شرير معين، لنقل كما في «التضحية» لتاركوڤسكي أو «روما فيلليني» لفديريكو فيلليني، فإن هناك شبحاً من الشر الهائم: الحرب النووية (وبالتالي من قد يقوم بها) في فيلم تاركوڤسكي، والنظام الفاشي في فيلم فيلليني.
وفي فيلم ستانلي كوبريك «2001: أوديسا الفضاء» مثالان: الإنسان عدو نفسه، فهو المبتدع والضحية، والتكنولوجيا هي الشر الشامل.
- عرب ومسلمون
السود هم نموذج مختلف آخر من الكيان ذاته؛ إنهم وحوش بشرية جانحة، تتسع عيونها طمعاً باغتصاب النساء البيضاويات في فيلم ديفيد وورك غريفيث «مولد أمة» (1915)، وضحايا تلك الحرب الأهلية التي يدور ذلك الفيلم في رحاها في «ماندينغو» (ريتشارد فلايشر، 1975)، و«مجد» (إدوارد زويغ، 1989)، و«مولد أمّة» آخر (نيت باركر، 2016)، والضحايا هم أبطال بعضهم أقوى من البعض الآخر. وفي فيلم رتشارد فلايشر الذي لم يلتفت النقد إلى أهميته جيداً، هم أضعف من الدفاع عن أنفسهم ضد الأشرار البيض الذين تاجروا بهم، واغتصبوا إنسانيتهم على أكثر من وجه. لكن في نسخة باركر من «مولد أمّة»، المأخوذ عن واقعة حقيقية، هم ضحايا رفضوا الضعف، وقاموا بالعصيان المسلح ضد الغالبية البيضاء ذاتها التي حكمت بمفهومها العنصري حياتهم.
ما يقال عن السود يُقال عن الأقليات الأخرى؛ السخرية من كل ما هو مسلم وعربي لم يبدأ مع ولادة المنظمات المتطرفة في السنوات العشرين الأخيرة أو نحوها، بل وُلدت في أفلام الثلاثينات وما بعد، تبعاً لمفاهيم متوارثة، تم خلالها وضع المسلمين في الصحارى العربية ومدنها في خانة القتلة والسفاحين، والغازين بدافع السرقة أو تنفيذاً لهيمنة قوى خارجية (النازيين على الأخص) ضد قوى خارجية أخرى.
معاملتهم في هذا الإطار لم تختلف عن معاملة عدد كبير من أفلام الوسترن الأميركية للهنود الحمر. هناك في شرق الولايات المتحدة، تم تصنيف المواطنين الأصليين ما بين أخيار (قبائل مؤيدة للبريطانيين قبل استقلال أميركا)، وأشرار (القبائل التي انضمت إلى الفرنسيين)، بالتالي البريطانيون كانوا الأخيار أساساً، والفرنسيون كانوا الأشرار.
ليست كل الأفلام التي دارت في رحى العرب كانت معادية، لكن كثيراً منها كان كذلك. بالبحث اليسير، سنجد أن الصورة الأكثر انتشاراً نتجت عن شكل حياة غير مدنية سادت القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وعن ما عاد به مستشرقون من حكايات فعلية، إما تم تجاوز أسبابها أو أسيء فهم منطلقاتها.
الثياب العربية (الرداء الواسع والكوفية باتت لزاماً لإظهار هوية هذه الشخصية) اعتبرت جزءاً من البداوة غير المتحضرة، بينما هي في الواقع السبيل الصحيح للعيش في الصحراء، حيث لا تنفع الملابس الغربية في تحمل الحر، أو في منح البدن أي حرية في الحركة تتناسب وطبيعة الحياة وظروفها.
وحين كان يتم اختيار عربي ليكون بطل الدراما التي يتعامل معها الفيلم، فإن صانعي المغامرة، كتابة وإخراجاً، سيكشفون الستار لاحقاً على أن هذا العربي المختلف لم يكن عربياً، بل أجنبي الولادة، تاه طفلاً ورباه العرب، فانتمى إليهم لكنه حافظ على قدر من الثقافة الأم، لذلك هو مختلف (كما ورد مثلاً في «الشيخ» لجورج ملفورد، 1921).
- لا يسار ولا يمين
تطلب الأمر كثيراً من السنوات قبل أن تنحسر تلك النظرة، ولو أن البديل - في عدة مرات - لم يكن أقل أذى. بعد كل حرب خاسرة خاضها العرب ضد إسرائيل، تولت بعض الأفلام الهجوم على العرب، وتشويه صورتهم. بعد بدء قيام رأسمال العربي بالخروج من داخل بلدانه إلى العالم، قامت أفلام أخرى («نتوورك» لسيدني لوميت، أو «رولأوفر» لآلان ج. باكولا) بالتحذير من المال العربي الذي سيكبل الإعلام الحر، ويضر بالاقتصاد العالمي، ويترك ذيولاً كوارثية على الديمقراطية والحرية الغربية.
الصورة بدأت تختلف فعلياً في التسعينات، لكن مع عملية سبتمبر (أيلول) 2001، كرّت سبحة أخرى من الأفلام التي صوّرت الخطر الآتي من بلاد العرب، خصوصاً أنها مسيّسة دينياً. لا جدوى، حيال هذا المفهوم، من توفير حقائق مختلفة، لم يكن هناك بد من توفير صورة العربي والمسلم كإرهابي، لكنه بذلك انضم إلى عصابات ومنظمات تركية وروسية وألبانية وكورية وأفغانية. والملاحظ أنه في كثير من هذه الأفلام، وفي كثير من الأفلام التي لا تتعامل مع موضوع الإرهاب، قلما كان العقل الكبير للشر مسلماً.
هو مسلم في فيلم المخرج ذي الأصل الإيراني باباك نجفي «لندن سقطت»، لكنه في أفلام كثيرة أخرى، تتراوح ما بين «داي هارد» (جون مكتيرنن، 1988) و«سكايفول» (سام مندس، 2012)، هو أجنبي، قد يكون ألمانياً أو بريطانياً أو فرنسياً أو صينياً. فالعمليات المعقدة التي تتطلب ذكاءً خارقاً فوق العادة، وإلماماً علمياً بالتكنولوجيا، وقدرة فائقة على التخطيط المنظم، لا يمكن لها أن تكون عربية. التفوق، حتى في الشر، حقوق محفوظة لمرتبة أعلى من القدرات الدماغية. هذه القدرات ليست، كما جاء في تعاليم النازية، من ملكية الأعراق الأدنى، كالشعوب السامية أو الأفريقية على سبيل المثال.
لذلك، يقف العرب في درجات تتوسط السلم؛ هناك من يقودهم، وهم يقودون سواهم في الوقت ذاته. نجد ذلك جلياً في فيلم ستيفن سبيلبرغ «غزاة تابوت العهد» (1981): المصريون يعملون تبعاً لخطط النازيين الألمان؛ الأشرار الأول يتبعهم أشرار صغار، فارسهم العربي يرتدي الأسود ويحمل سيفاً يلعب به مستعرضاً قواه، لكن مهارته تنتهي برصاصة واحدة. المحيطون به من العرب هم أدنى درجة؛ جزء من الديكور الذي يمكن هدمه، كما هدم إنديانا جونز سوقهم العشوائية.
في عداد اتهامات فيلم «نتوورك» لسيدني لوميت للعرب بأنهم ساعون حثيثاً لسلب الأميركيين حريتهم الإعلامية، يورد الكاتب بادي تشايفسكي نماذج من التفكير تنتمي إلى هذا التقسيم من زوايا مختلفة.
هوارد بيل (الراحل بيتر فينش) لديه برنامج «توك شو» يقدّم فيه رؤيته لما يحدث. ذات مرّة، يصرخ في وجوه متابعيه، محذراً من أن العرب سيشترون محطات التلفزيون الأميركية، مما يهدد الحرية والديمقراطية. هو ثائر على هذا الوضع، ويصرخ ناظراً إلى المشاهدين في بيوتهم من خلال الكاميرا التي تصوّره، قائلاً: «أنا ثائر كالجحيم، ولن أحتمل ذلك بعد الآن».
المشهد كاريكاتيري عقيم، لا يمكن له أن يحدث (ولو أن الفيلم ليس خيالاً علمياً)، وطريقة حدوثه بدورها ساذجة، لكن ما يتبع ذلك أهم منه: رئيس المؤسسة التي تملك تلك المحطة، ويؤديه ند بيتي، يطلبه إلى مكتبه، ويلقي عليه خطاباً طويلاً حول وضع العالم اليوم، فيقول له إن العالم لم يعد رأسمالياً أو شيوعياً، ولا يسارياً أو يمينياً؛ ليس هناك من أمّة، ليس هناك من عرب وغير عرب، بل هناك الدولار! ويضيف: «هل تعتقد أنهم في روسيا ما زالوا يقرأون كتاب كارل ماركس؟ إنهم يعملون في الدولار!»، ثم ينتهي ليقول له: «العرب سحبوا أموالهم من أميركا، ونحن نريد إعادتها إلينا».
- الحل الأخير
لا تسل عن دقة ذلك، بل عن الدلالة الكلية للمشهد والوصف الذي وضعه الكاتب تشايفسكي، وأداه الممثل ند بيتي (لا يمت للممثل الأشهر وورن بيتي بأي قرابة)، لما آل إليه العالم فعلياً في أيامنا هذه.
فعلياً أيضاً، فإن شخصية هوارد هي الخيرة، كونها تتحدث بلسان حال الأميركي الغيور على وطنه، والأشرار هم العرب، لكن الشرير الأكبر هو الأميركي الآخر الذي يشجع العرب على الاستثمار في أميركا.
في فيلم أنطوان فوكوا الأخير «ذا إكوالايزر 2» شيء من ذلك الخطاب، يرد على لسان الشرير دايف (بدرو باسكال)، حين يقول موجهاً كلامه إلى روبرت ماكول (دنزل واشنطن)، معترفاً بذنوبه: «لم يعد هناك أخيار وأشرار، لا أعداء، فقط غير محظوظين».
المتحدث الأبيض يعمل لصالح الحكومة، والمستمع الأسود لصالح العدالة الغائبة… لأولئك غير المحظوظين كما يسميهم الأول، والصراع أفلت من أيدي الأبطال والأشرار كذلك، ودخل مناطق رمادية وواقعاً ضبابياً مهيمناً.
بدوره، فإن ماكول هو بمثابة الحل الأخير أمام البشر: أفرو - أميركي يستمد من كبريائه ومن ثقافته حول العالم، ثم من مداركه حول العدالة، أو بالأحرى غيابها، سلاحه لفرض التوازن بين الخير والشر؛ ليس «سوبر هيرو» (وهذا شأن آخر)، بل مواطن يتدخل لإعادة الحق لأهله، إذا ما وجد نفسه ملماً بقضية ما. بذلك، هو سلالة متطوّرة من أيام لم يكن أمام السود أي دور في تقرير مصيرهم إلى دور الفاعل في تقرير مصائر الآخرين (بيض وسود)، مروراً بأيام الثورات التي عاشوها، وأثمرت عن بطولات تناثرت بفعل السنين، لتتبعها حلقة أخرى من فوضى الحياة حولتهم - مجدداً - إلى ضحايا، باختلاف أنهم هذه المرة ليسوا أبرياء تماماً.
العرب في وسط سلم الشر السينمائي
الأخيار والأشرار يتقاسمون اللون الرمادي غالباً
العرب في وسط سلم الشر السينمائي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة