«قيسارية جرجا» عاصمة مماليك مصر لا تزال تجتذب الزائرين

مسجد سيدي جلال
مسجد سيدي جلال
TT

«قيسارية جرجا» عاصمة مماليك مصر لا تزال تجتذب الزائرين

مسجد سيدي جلال
مسجد سيدي جلال

على باب «دكان» صغير لبيع العطارة، وقف أبو عمر علي، يتأمل بقايا سور الوكالة الأثرية بمنطقة «القيسارية» بمركز جرجا» بمحافظة سوهاج (500 كيلومتر جنوب القاهرة) التي كادت أن تتهدم، فيما تحول ما تبقى من غرفها الكثيرة، إلى مخازن عشوائية لبضائع تجار السوق من الملابس الرخيصة وغيرها من المنتجات بسعر الجملة.
وتشير كلمة «القيسارية» إلى مراكز التجارة والبيع والشراء خلال العصر العثماني، وكانت جرجا قديما تسمى «دجرجا»، ومثلت واحدة من نقاط مرور قوافل التجارة الرئيسية، فيما يرى سكان المنطقة أن تاريخ مدينة جرجا العريق، وبخاصة «القيسارية»، دليل على وجود كنوز تحت الأرض، خبأها تجار المنطقة الأغنياء قديما، كما يقول أبو عمر علي، الذي يضيف: «أسفل القيسارية توجد واحدة أخرى أكبر مطمورة تحوي خيرات الله، بس اللي يصبر ويدور».
إبان الحكم العثماني لمصر، كانت «جرجا» عاصمة لإقليم الصعيد، حيث عمد السلطان «سليم الأول» إلى تقسيم مصر إداريا لعدة أجزاء، وتوزيع حكمها بين ثلاث جهات متنافسة، هم الديوان والوالي والمماليك، حتى لا تفكر جهة في الاستقلال بالحكم دون الأخرى، فكان الصعيد من نصيب المماليك، بحسب ما جاء في دراسة للدكتور عبد العظيم أحمد، بعنوان «التقسيم الإداري لمصر العليا».
وإضافة إلى الوكالة، تحتوي منطقة «القيسارية» على 4 مساجد أثرية مهمة، تشيع جوا روحانيا في المنطقة، ينعكس على الوجوه البشوشة للأهالي، ونداء البائعين على بضاعتهم بنغمات رائقة، لا تحمل صخب الأسواق الشعبية الأخرى، ومن معالم المنطقة أيضاً، حمام أثري بناه الأمير محمد بن عمر بن عبد العزيز، المعروف بمحمد أبو السنون، المنتمي لقبيلة «هوارة»، أحد أقدم القبائل العربية التي استقرت «بجرجا»، فيما تم تجديد الحمام على يد الأمير علي بك الفقاري.
يعتقد الأهالي أن مياه الحمام الأثري، الذي كان مفتوحا للاستخدام اليومي، له قدرات مباركة في الشفاء من الأمراض، وأن كثيرا ممن قدموا إلى الحمام تم شفائهم بعد بضعة زيارات، حدث ذلك قبل أن تقرر وزارة الآثار وقف استخدامه، والاكتفاء بالزيارات الصباحية، حفاظا على الأثر. يقول «إسلام الناصر»، الذي توارثت عائلته الإشراف على الحمام منذ خمسة أجيال أو أكثر، أن الحمام كان قديما يشبه النادي الاجتماعي، وهو واحد من الحمامات الأثرية القليلة المتبقية في صعيد مصر، وكانت تقسم أيام الأسبوع بين النساء والرجال، ولا ينقطع الإقبال عليه طوال ساعات العمل، وما زالت عائلة ناصر تهتم بحمايته حتى الآن، للقيمة المعنوية التي يمثله الأثر للعائلة.
إلى ذلك، يعد المسجد الصيني أيضا من معالم منطقة القيسارية المهمة، ورغم ترديد الأهالي أنه بُني على يد مواطنين صينيين قدموا إلى جرجا خلال العصر العثماني، فإن المصادر التاريخية تؤكد أن المسجد بني على يد محمد بك الفقاري أيضا، وتم نقله إلى مكانه الحالي عام 1209 هجريا بعد حدوث فيضان النيل، بواسطة الشيخ عبد المنعم أبو بكر الخياط. وترجع تسمية المسجد بهذا الاسم إلى القيشاني التركي، المستخدم في تغطية جدرانه الداخلية، الذي تحمل نقوشاً باللون الأزرق الزاهي، وقد تمت المحافظة على القيشاني عند نقل المسجد، الذي يتميز بأعمدة من الخشب، وقاعة خشبية معلقة في نهاية المسجد، خصصت لصلاة النساء.
لا تنقطع حلقات الذكر وقراءة القران في المسجد الصيني، كعادة متوارثة عن الأجداد، حيث كانت جرجا مقرا مهما لدارسي الأزهر وشيوخها من سكان صعيد مصر، هناك أيضا مسجد «الزبدة»، أو مسجد الفقراء، الذي بناه شخص مجهول، وتم تجديده عام 1148 على يد الأمير ريان أبو عابد، الذي ينتمي إلى قبيلة «هوارة».
من جهته، يقول أحمد هاشم، إمام مسجد «الزبدة»: إن «تعدد المساجد في منطقة القيسارية بجرجا يرجع إلى أهمية تلك المنطقة خلال الحكم الإسلامي، وزيادة عدد المتوافدين عليها قديما، مؤكدا أن جميع المساجد الأثرية تفتح للصلاة، وأنه يتعمد الحفاظ على مظهره كإمام أزهري احتراما للسيرة التاريخية للمساجد.
مسجد «سيدي جلال» واحد من أقدم المساجد في محافظة سوهاج، أنشئ عام 1189 هجريا، على يد الشيخ عبد الجواد الأنصاري، ويُطل على شارعي سيدي جلال، وشارع القيسارية، ويصل سمك جدرانه إلى متر، وفى مدخلة وضعت آيات من سورة مريم، وكان يعقد أمامه سوق الغلال.
يقول «علي السيد» أحد أقدم رواد المسجد، إن أهالي جرجا يعتزون بهذا المسجد تحديدا، بسب عمارته البديعة ومقاومته لعوامل الزمن، مؤكداً أن وزارة الآثار تهتم بتفقد حالة المسجد بشكل دائم، فيما يتوافد على المسجد باحثو الآثار والسائحون الأجانب، من محبي العمارة الإسلامية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)