الكتاب المسموع وسيلة اطلاع حديثة تصارع من أجل الانتشار عربياً

يواجه صعوبات تحول بينه وبين الصدارة

الكتاب المسموع
الكتاب المسموع
TT

الكتاب المسموع وسيلة اطلاع حديثة تصارع من أجل الانتشار عربياً

الكتاب المسموع
الكتاب المسموع

حقق الكتاب المسموع انتشاراً خلال السنوات القليلة الماضية في المنطقة العربية، ‬‬‬‬‬‬لكنه رغم ذلك يواجه بعض الصعوبات التي تحول بينه وبين الصدارة في وسائل الاطلاع بحكم سرعة وسهولة تداوله.
ورغم أن تحويل النصوص المكتوبة إلى مواد مسموعة معروف منذ ثلاثينات القرن العشرين تقريباً عندما كانت تستخدم في المناهج التعليمية بالمدارس والجامعات، فإن الشكل الحديث لتحميل الكتب على منصات ومواقع إلكترونية وطرحها للبيع لم يظهر إلا بعد ذلك بنحو نصف قرن. وفي المنطقة العربية ظهرت هذه المواقع قبل سنوات قليلة.
وقال شريف بكر رئيس لجنة التطوير المهني والنشر الإلكتروني باتحاد الناشرين المصريين لـ«رويترز»: «لا توجد إحصاءات موثوقة عن عدد مستخدمي الكتب المسموعة في المنطقة العربية، وهو ما ينطبق كذلك على الكتب المقروءة. لكن المؤكد أن الإقبال على الكتب المسموعة في تزايد».
وأضاف: «تزايدت تطبيقات ومواقع الكتب المسموعة خلال العامين أو الثلاثة الماضية من عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة إلى العشرات عبر نظامي أندرويد و(آي أو إس)، منها مواقع جادة تقدم خدمة حقيقية وأخرى عبارة عن مشاريع وهمية ظهرت واختفت سريعاً لعدم قدرتها على مواكبة السوق واحتياجات المستخدمين».
وتابع: «ما يساعد في انتشار الكتب المسموعة هو انجذاب فئة الشبان لها، فالأجيال الجديدة معظمها تشعر بحاجز بينها وبين الكتاب بسبب الميراث المتراكم من الحفظ في مناهج التعليم، لكن الكتاب المسموع يشكل وسيلة أكثر قبولاً لهم للتفاعل مع الكتب».
وأشار إلى دراسة أجراها اتحاد الناشرين المصريين عن كيفية جذب مزيد من القراء والتوسع في سوق النشر وإدخال فئات جديدة كانت لها مؤشرات واضحة حول مستخدمي الكتب المسموعة.
وقال: «ركزنا على الفئة العمرية من 18 إلى 24 عاماً، وضعنا شاباً داخل حجرة بمفرده ومعه كتاب مطبوع فلم يقربه، ثم وضعنا معه كتاباً إلكترونياً فتردد في مطالعته، وعندما قدمنا له كتاباً مسموعاً رحب بخوض التجربة والاستماع للكتاب». وبعدما كانت المنصات الإلكترونية ومواقع الكتب المسموعة تقدم في بداياتها مجموعات شعرية وبعض المقالات فحسب، تحولت في الأعوام القليلة الماضية إلى تقديم نصوص أدبية وفكرية لكتاب كبار أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود، وحرص عدد من الروائيين على طرح إصداراتهم الجديدة في الأسواق مطبوعة ومسموعة في الوقت ذاته.
ويقول حمزة الفقهاء المدير التنفيذي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتطبيق «كتاب صوتي» الذي انطلق في 2016 ويضم نحو 100 كتاب مسموع: «لو رجعنا بالوقت لعامين ماضيين لم يكن أحد يتوقع حجم النمو في سوق الكتاب المسموع العربي، هذا المجال أحدث دهشة حتى بالنسبة للمستثمرين في مجال النشر».
وأضاف: «هناك إقبال من القارئ العربي على الكتاب المسموع، لدينا حالياً ما بين 400 إلى 500 ألف مستخدم للتطبيق معظمهم من الشباب. كنا نتوقع إقبالاً بالطبع من الشباب، لأنهم أكثر تطوراً واستخداماً للتكنولوجيا، لكن الحقيقة إقبالهم فاق التوقع، ورغم ما يبدو ظاهرياً من توجه الشباب إلى الثقافة الغربية سواء في السينما أو الموسيقى أو القراءة حظي المحتوى العربي المسموع باهتمام كبير من الشباب».‭‭

مشكلات وحلول
لكن رغم الخطوات المتسارعة التي حققها الكتاب المسموع في السوق العربية تواجهه بعض الصعوبات في سبيل تحقيق انتشار أوسع وجني عائدات أكبر تصب في صالح الشركات التي تتطلع لتطوير منتجها الثقافي.
ويقول خالد الفحام مؤسس ومدير تطبيق «اسمع كتاب» لـ«رويترز»: «المشكلة الحقيقية أن معظم المستخدمين يريدون الكتب مجاناً. وعي الناس أيضاً يحتاج إلى تطوير، كيف ندفع 100 أو 200 جنيه في وجبة ونتردد أمام دفع 20 أو 25 جنيهاً في كتاب؟».
وأضاف: «للأسف، كثير ممن قاموا بتحميل التطبيق على هواتفهم الذكية استمعوا إلى الأجزاء المجانية التي تروج للكتاب أو الكتب المجانية تماماً، ثم عزفوا بعد ذلك عن الشراء».
وعلى الجانب الآخر، يلخص الطالب الجامعي سامح سمير (19 عاماً) الذي يستخدم الكتب المسموعة منذ عام ونصف العام تقريباً الصعوبات التي تواجهه مع الكتب المسموعة في نقطتين.
قال: «جربت أكثر من تطبيق عبر الهاتف، هناك تطبيقات ضعيفة جداً سواء في محتوى الكتب الذي تقدمه أو طريقة تشغيلها. أتمنى أن تتطور هذه التطبيقات سريعاً وتتيح تنوعاً أكبر للمحتوى».
وأضاف: «لدي مشكلة أخرى في طريقة السداد. أنا لا أملك بطاقة بنكية وهذه التطبيقات تطلب الدفع إلكترونياً، وبالتالي أطلب من أحد أصدقائي أو أفراد عائلتي أن يدفعوا لي».
أما الطالبة مروة المعداوي (22 عاماً)، التي استمتعت كثيراً بتجربتها مع الكتب المسموعة، فتتركز مشكلتها في عدم توفر كل ما تريده من كتب ومؤلفات في تطبيق واحد، ما يضطرها للتنقل بين أكثر من تطبيق ويحملها تكلفة مالية أكبر ويجبرها على التعامل مع أكثر من نظام سداد، لأن بعض التطبيقات تعمل بنظام الاشتراك الشهري مع إتاحة الاطلاع المفتوح، بينما تعمل أخرى بنظام شراء كل كتاب على حدة.
ويرى بكر صاحب دار العربي للنشر والتوزيع، أن «الاتجاه مستقبلاً سيكون نحو التكامل بين منصات ومواقع الكتب المسموعة، لأنه إذا استطاعت شركة ما الحصول على حقوق مؤلفات كاتب كبير، فهي لن تستطيع جمع كل الكتب. ومن جانبه، لا يستطيع القارئ تتبع كتبه المفضلة عبر أكثر من تطبيق وموقع، ومن هنا سيصبح تشارك المواقع فيما تملكه من كتب وانفتاحها على بعضها ضرورة لا مفر منها. لكن هذا سيتحقق لاحقاً وليس الآن». وأضاف: «بالنسبة لطرق الدفع، هناك بالفعل تجارب حققت نجاحاً ملموساً مثل تسديد ثمن الكتب من خلال شركات الهاتف الجوال سواء من رصيد العميل أو عن طريق بطاقات شحن خاصة، وبالتأكيد ستتوفر وسائل أخرى في المستقبل».


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)