عودة أدبية فرنسية لاستلهام الحروب الصليبية

آخرها «قصة قصيرة حول الصليبية والجهاد» لأليساندرو باربرو

لوحة تمثل الحروب الصليبية
لوحة تمثل الحروب الصليبية
TT

عودة أدبية فرنسية لاستلهام الحروب الصليبية

لوحة تمثل الحروب الصليبية
لوحة تمثل الحروب الصليبية

لم يحظَ حدث تاريخي من تأليف وإصدارات بشتى ضروب المعرفة والأدب مثلما حظيت وقائع الحروب الصليبية في كل الدول الأوروبية عامة، وفي فرنسا خاصة. فمنذ بداية انطلاقتها في عام 1095م، بعد النداء الشهير للبابا أوربان الثاني في كليرمونت بفرنسا لمسيحيي أوروبا وملوكها وأمرائها بالتوجه خفافاً وثقالاً إلى الشرق لتحرير قبر المسيح من «الكفار» المسلمين، لم يتوقف التأليف في هذا الحدث لغاية اليوم؛ إذ لا يمر عام دون أن نشهد إصدارات جديدة تتناول الحملات الصليبية بحد ذاتها: أهدافها المعلنة والمخفية، وصف وتأريخ إماراتها المختلفة، وقائع معاركها، انعكاساتها، روايات عن ملوكها وأمرائها الذي شاركوا بها وحكموا في ممالكها وإماراتها... وكان للأدب نصيب كبير من هذه المؤلفات التي قارب عددها ألفاً وخمسمائة إصدار بحيث يمكن أن نطلق عليه: «الأدب الصليبي». وآخر مؤلف يصدر حول هذا الموضوع: «قصة قصيرة حول الصليبية والجهاد»، مايو (أيار) 2018، لأليساندرو باربرو.
- ما خلفية هذا الاهتمام؟
أولاً، إن كلمة صليبية لم تظهر في الأدبيات الغربية إلا في القرن الرابع عشر، واستخدمها العرب نقلاً عنها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، إذ كان العرب يطلقون على الصليبيين اسم «الفرنجة» وهو التسمية البيزنطية التي كانوا ينعتون فيها من جاء من أوروبا بشكل عام، ولكن استخدام هذه الكلمة تعزز أكثر كون معظم الصليبيين كانوا من الفرنسيين أي (les francs) فالمؤرخون العرب الذين عاصروا هذه الحملات كابن الأثير، والمقريزي، والقلقشندي وسواهم لم يستخدموا كلمة «الصليبيين» في مؤلفاتهم بل كانوا جميعاً يستخدمون كلمة «الفرنجة». قادة الصليبيين، والبابوات الذين حرضوا مسيحيي أوروبا للمشاركة بها بدورهم كانوا يدرجونها في مؤلفاتهم وخطابهم تحت أسماء مختلفة مثل: «الرحلة»، أو «حجاج بيت المقدس»، أو «مسعفو القدس». هذا ما جاء في كتب التاريخ، والمراسلات بين الكنيسة والملوك، وأكدها معجم تاريخ اللغة الفرنسية الذي أرجع استخدام هذه الكلمة إلى عام 1460م. أما «الصليبيون» فلا نجد في مؤلفاتهم كلمة «عربي»، بل كانوا يصفون العرب والمسلمين بـ«السارازيين» ((les sarasins اختلف الكتاب حول أصل هذه الصفة، التي كانت تستخدم أيضاً في الحروب التي اندلعت في الأندلس بين الإسبان والعرب.
لكن هذه الحملات التي كانت تأخذ في الوعي الشعبي الأوروبي طابع الفروسية والبطولة وخدمة المسيحية، وكان لا بد أن تنعكس في أعمال أدبية تواكبها، وتمجدها، وتمجد فرسانها. غير أن الأدب في اللغة الفرنسية لم يظهر إلا متأخراً جداً كون اللغة الفرنسية التي نعرفها اليوم تختلف اختلافاً كبيراً عن اللغة الفرنسية ما قبل القرن الحادي عشر، فهي وليدة مزيج من لغة الغال (لغة محكية لقبائل الغال)، واللغة الرومانية الشعبية (لاتينية شعبية)، وبعض الروافد الأخرى التي دخلت عليها لاحقاً، كاللغة العربية (بسبب الاحتكاك عبر الحروب الصليبية واستعمار بعض الدول العربية، خصوصاً الجزائر)، أو الإنجليزية. وأول نص أدبي بهذه اللغة كان نصاً شبه شعري غنائي اصطلح على تسميته بـ«أنشودة رولان»، وهي أنشودة طويلة جداً تمجِّد الإمبراطور شارلمان وبطولاته. هذه الأنشودة فتحت الباب واسعاً فيما بعد لأناشيد كثيرة كلون أدبي سيطغى خلال ثلاثة قرون لاحقة (كـ«أنشودة أنطاكية»، و«أنشودة القدس») هي فترة تطوير اللغة وتنقيتها، وبناء أسسها. ومعظمها كانت أناشيد تمجد الفرسان «الحجاج» إلى بيت المقدس، أو تحكي ملاحم أبطال هذه الحملات وملوكها، وأمرائها، (خصوصاً لويس السابع ولويس التاسع الذي يُكنَّى بـ«لويس القديس») وتحث «الحجاج» على الانخراط بـ«الرحلة» إلى قبر المسيح، في بلاد ما وراء البحار.
في القرن الثاني عشر بدأت ملامح التأثر الشرقي في هذا الأدب، بظهور الرومانسية الشرقية بأناشيد تحكي قصص حب عذري تقي نقي. وظهرت أيضاً الكتب التي تؤرخ لهذه الحملات ربما أشهرها كتاب: «تاريخ ما وراء البحار» لغيوم الصوري، و«تاريخ فتح القسطنطينية» لجوفري فيلهاردوان، و«كتاب الكلام المقدس والأعمال الخيرة» لجان جوانفيل. الكثير من الأعمال الشعرية التي اصطلح على تسميتها بالأناشيد كانت مجهولة المؤلفين، ومنها ما اندثر، لكن جميعها تحمل طابع الفكر الإقطاعي الذي كان سائداً في ذاك العصر قبل أن تتدخل البورجوازية الصاعدة وتفرض نظرة أدبية مختلفة تعتمد على الشعر الروائي المستقاة من القصة الشهيرة «تريستان وايسولت»، ورواية «الوردة» لغيوم دولاريس. وقد ظهرت أول ملامح التأثر بالأدب «الشرقي» في أعظم عمل شعري إيطالي «الكوميديا الإلهية» لدانتي، المستوحاة من «رسالة الغفران» للمعري.
كل الأعمال التي ظهرت خلال فترة الحروب الصليبية، أي من عام 1095 إلى العام 1291 (الحروب الصليبية لم تنتهِ بتحرير القدس في عام 1187م)، كانت نسخاً مكتوبة بخط اليد ولكن مع اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر وتطور اللغة الفرنسية، بدأت تظهر ملامح أدب مختلف ومتنوع في الشكل والمضمون. فالقرن السادس عشر يعتبر نقطة تحول كبرى في الأدب الأوروبي بشكل عام والفرنسي بشكل خاص مع ظهور مجموعة شعراء لابلياد وكتاب «الأدب الكلاسيكي»، كالراهب فرنسوا رابليه صاحب المؤلفين الشهيرين: «كارغانتوا» و«بنتاغويل»، وجواكيم دو بيلي في كتابه: «الندم»، أو ميشيل مونتيني في: «مقالات» ويعتبر أول من ابتدع هذا النوع من الكتابة - المقالة، التي كانت بداية لعصر نهضة أدبية منقطعة النظير، ومدخل إلى عالم الكتابة الصحافية التي ستشهدها أوروبا في بدايات القرن السابع عشر، والنص النثري بعد أن كان الشعر هو اللون السائد («دون كيشوت» لسيرفنتس التي تعتبر أول رواية نثرية في أوروبا) ورغم أن معجم الأدب الفرنسي يؤكد أن الحركة الصليبية كانت عاملاً أساسياً في إنتاج أدب غزير لم يكن له وجود فيما قبل، فإن الحركة الأدبية في عصر النهضة تنظر إلى هذا الأدب بكثير من الاستخفاف، بعد أن برز أدباء أفذاذ برعوا فكرياً ولغوياً، خصوصاً في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ موليير، راسين، لافونتين، لا روش فوكو... (وهنا أيضاً يظهر التأثر لدى فونتين في كتابه «خرافات» بنظيره ابن المقفع في «كليلة ودمنة»)، لكن الحروب الدينية بعد الثورة على الكنيسة الكاثوليكية من قبل البروتستانت شغلت ملوك فرنسا وأدباءها، بيد أن الحركة الصليبية بقيت حية، لا سيما بعد أن استطاع محمد الفاتح أن يسقط الإمبراطورية البيزنطية، وقام البابوات بحثّ مسيحيي أوروبا وملوكها على حملات صليبية جديدة ضد العثمانيين المسلمين هذه المرة، واشتد الطلب بعد حصار فيينا من قبل السلطان سليمان القانوني. مع بداية القرن السابع عشر، عاد الاهتمام بالحملات الصليبية وتدوين حيثياتها في أكبر مؤلف تدويني لكل مجالات الحياة في «ممالك الصليبيين» (مجموعة مؤرخي الفترة الصليبية) لجاك بونغار الصادر في عام 1611 (وأعيدت طباعته في 1841 و1906 و1967) ويحتوي هذا المؤلف الضخم على المؤرخين العرب ووصف لحياة صلاح الدين ونور الدين الزنكي.
مع بداية الحركة الاستشراقية والاستعمارية التي وصفها البعض بالصليبية الجديدة بدأت تظهر أعمال كثيرة (لا مجال لذكرها جميعاً في هذا الحيِّز) ولكن نذكر كتابي شاتوبريان «رحلة إلى بيت المقدس»، و«مذكرات ما وراء القبر»، وكتاب «الحروب المقدسة فيما وراء البحار» لمكسيم فورشو.
وجاءت حملة نابليون على مصر وسوريا وهزيمته في عكا ثم تراجعه وانسحابه من مصر، لتعيد إلى الأذهان الحروب الصليبية؛ فالفرنجة عادوا برداء جديد هذه المرة باسم «تحرير الشرق من المماليك». الحركة الاستشراقية التي حاولت مد الجسور الاستعمارية مجدداً إلى بلاد الشرق حاولت بمجموعة من المؤلفات أن تظهر أن الحروب الصليبية لم تكن سيئة بالنسبة للمسلمين لأنها جلبت لهم حضارة ومعرفة (في حين أن الواقع كان العكس). في تلك الفترة بدأت تظهر الرواية التاريخية الذي يعتبر وولتر سكوت من مؤسسيها في روايته «التميمة» 1825، حول الحروب الصليبية، التي فتحت الباب واسعا أمام أعمال أخرى... مع سقوط الإمبراطورية العثمانية وعودة فرنسا وبريطانيا إلى بلاد المشرق عادت الحروب الصليبية إلى الأذهان (لا سيما بعد جملة الجنرال غورو على قبر صلاح الدين: «ها قد عدنا يا صلاح الدين»). موريس باريس عبر عن ذلك في روايته التاريخية «حديقة على العاصي»، التي يُظهِر فيها أن أميرة سورية تعشق قائداً صليبياً ثم تنتهي كراهبة في دير بعد اعتنقت المسيحية (1925)، ومن بعدها ظهرت عشرات المؤلفات، نذكر منها «أسامة أمير سوري في مواجهة الصليبيين» للمستشرق أندريه ميكل، ويحكي فيها عن الأمير أسامة بن المنقذ، و«مشرق ومغرب في زمن الصليبيين» للمستشرق كلود كاهن.


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أوروبا أعضاء فرع الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية يحضرون اجتماعاً في دير القديس بانتيليمون في كييف يوم 27 مايو 2022 (رويترز)

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أعلن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أنه يدرس حظر كييف للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المرتبطة بروسيا، قائلاً إنه يثير مخاوف جدية بشأن حرية المعتقد.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
آسيا البابا فرنسيس أثناء وصوله إلى مطار سوكارنو هاتا الدولي في جاكرتا (أ.ف.ب)

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في مستهل أطول رحلة خارجية خلال ولايته

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في محطة أولى ضمن جولة له على 4 دول. وتتمحور الزيارة بشكل خاص حول الحوار الإسلامي المسيحي.

«الشرق الأوسط» (جاكرتا)
أميركا اللاتينية الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي خلال زيارته إلى القدس 6 فبراير 2024 (أ.ب)

كيف تحول تأييد الرئيس الأرجنتيني لإسرائيل واهتمامه المتزايد باليهودية مصدر قلق لبلاده؟

لقد أظهر الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، وهو كاثوليكي بالميلاد، اهتماماً عاماً متزايداً باليهودية، بل وأعرب حتى عن نيته في التحوّل إلى اليهودية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
آسيا رجال الشرطة يقفون للحراسة مع وصول المسلمين لأداء صلاة الجمعة في مسجد جيانفابي في فاراناسي 20 مايو 2022 (أ.ف.ب)

الهند: قوانين مقترحة للأحوال الشخصية تثير مخاوف المسلمين

من المقرر أن تطرح ولاية هندية يحكمها حزب رئيس الوزراء ناريندرا مودي قوانين الأحوال الشخصية العامة الجديدة المثيرة للجدل والتي ستطبَّق على جميع الأديان.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
آسيا رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال حفل الافتتاح (رويترز)

مودي يفتتح معبداً هندوسياً بُني على أنقاض مسجد تاريخي

افتتح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي اليوم معبداً هندوسياً، بني على أنقاض مسجد تاريخي، في خطوة تكتسي أهمية كبيرة في سياسته القومية المحابية للهندوسية.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!