11 % من سكان العالم تحت خط الفقر وطفل يموت كل دقيقة بالمياه الملوثة

مؤتمر الأمم المتحدة حول أهداف التنمية المستدامة

جانب من اجتماعات مؤتمر الأمم المتحدة حول أهداف التنمية المستدامة في العالم (إ.ب.أ)
جانب من اجتماعات مؤتمر الأمم المتحدة حول أهداف التنمية المستدامة في العالم (إ.ب.أ)
TT

11 % من سكان العالم تحت خط الفقر وطفل يموت كل دقيقة بالمياه الملوثة

جانب من اجتماعات مؤتمر الأمم المتحدة حول أهداف التنمية المستدامة في العالم (إ.ب.أ)
جانب من اجتماعات مؤتمر الأمم المتحدة حول أهداف التنمية المستدامة في العالم (إ.ب.أ)

أكد مسؤولون دوليون أن نحو 11 في المائة من سكان العالم لا يزالون يعيشون تحت خط الفقر، لافتين إلى ارتفاع عدد الأشخاص الذين يعانون سوء التغذية إلى 815 مليون إنسان. وأكدوا أنه «في كل دقيقة يموت طفل من المياه الملوثة أو سوء الصرف الصحي».
وطالبوا خصوصاً ببذل المزيد من الجهود المتضافرة من أجل إعطاء المزيد من الزخم لتحقيق أهداف عام 2030 للتنمية المستدامة.
وجاء ذلك في إطار الاجتماع الوزاري من المنتدى السياسي الرفيع المستوى بشأن التنمية المستدامة، الذي يُعقَد مرة كل سنة في المقر الرئيسي للأمم المتحدة في نيويورك، حيث قالت رئيسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي لدى المنظمة الدولية التشيكية ماري تشاتاردوفا إن «وقت العمل حان الآن»، لأن التقدم لا يسير بالسرعة الكافية لتحقيق الأهداف بحلول عام 2030. وكشفت أنه على رغم أن الفقر المدقع هو ثلث ما كان عليه عام 1990، فإن ما يصل إلى 10.9 في المائة من سكان العالم لا يزالون يعيشون تحت خط الفقر.
أما رئيس الدورة الثانية والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة ميروسلاف لايتشاك فقال إن «المكاسب التي تحققت ضد الفقر المدقع لم تفد الجميع»، مضيفاً أنه «في بعض مناطق العالم، خصوصاً في أفريقيا جنوب الصحراء، لا يزال الناس يعيشون في ظروف لم يكن بوسع معظمنا تخيلها».
وأشار إلى أن «الناس لا يزالون يموتون بسبب أمراض يمكن شفاؤها أو منعها، وأن الأطفال لا يزالون غير قادرين على تلقي تعليم جيد، وأن العديد من النساء والفتيات لا يزلن مستبعدات أو مضطهدات».
وحضَّ الدول الأعضاء على وضع نهج شامل لعدة قطاعات، عن طريق مشاركة المزيد من النساء والشباب والقطاع الخاص والمجتمع المدني والأطراف الإقليمية الفاعلة. لكنه لفت إلى أنه «ليس لدينا ما يكفي من المال لتحقيق أهدافنا».
وشددت نائبة الأمين العام للأمم المتحدة أمينة محمد على أن الجهود بطيئة وأن كثيراً من التحديات لا تزال مستمرة في عملية تطبيق الأهداف الـ17 للتنمية المستدامة. وقالت إن المنتدى يشكل قبل أي شيء آخر فرصة للرد على سؤالين أساسيين: هل نحن على الطريق الصحيح لتحقيق أهداف التنمية المستدامة؟ وما الذي يمكن أن نقوم به بشكل أفضل؟ ودعت إلى مشاركة أعمق وأوسع من كل أصحاب المصلحة، مشددة على أن الأمم المتحدة ستواصل العمل على مستويات عدة لضمان مواءمة السياسات والممارسات التجارية مع الأهداف الأساسية لأجندة 2030.
وأضافت أنه بين عامي 2015 و2016، ارتفع عدد الأشخاص الذين يعانون سوء التغذية من 777 مليون شخص إلى 815 مليوناً، محذرةً من تفشي الفقر في المناطق الحضرية وارتفاع نسبة الشباب العاطلين عن العمل. وأشارت إلى أن «الوصول إلى خدمات الصرف الصحي لا يزال بعيد المنال بالنسبة لملايين الناس، ففي عام 2018، لا يزال واحد من كل ستة أشخاص لا يستطيع الوصول إلى مياه الشرب النظيفة، مما يعني أنه في كل دقيقة يموت طفل من المياه الملوثة أو سوء الصرف الصحي».
ورأت أن «معدل التقدم في الحصول على الطاقة المتجددة ليس بالسرعة الكافية. ففي أفريقيا، لا يستطيع أكثر من 250 مليون شخص الحصول على الطاقة النظيفة للطهي»، آسفة لنقص الموارد المخصصة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وقالت مبعوثة الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الشباب جياثما ويكراماناياك إن تحقيق التنمية المستدامة يتطلب جيلاً يعرف عن جدول أعمال التنمية العالمية ويهتم به ويتولى زمام الأمور، مضيفةً أن «الشباب هم الذين سيقودون جدول الأعمال هذا في السنوات المقبلة»، لأن هناك حاجةً إلى الاستفادة من ديناميكية المبتكرين الشباب والنشطاء ورجال ونساء الأعمال الذين لديهم القدرة على وقف الوضع الراهن لأنهم قوة للتغيير الإيجابي.
ثم ألقت سفيرة النيات الحسنة لدى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي نجمة السينما الماليزية الأصل ميشال يوه خطاب الافتتاح فرأت أنه لن يكون هناك أي أثر حقيقي لأجندة 2013 الطموحة للتنمية المستدامة ما لم يتخذ كل مواطن عالمي قراراً واعياً بتغيير عاداته اليومية، من الملابس التي يرتديها إلى الطعام الذي يتناوله. وقالت إنه «لا يمكننا أن نستمر كالمعتاد» في هدر المياه على المنتجات الاستهلاكية اليومية، موضحة أن صناعة الأزياء والملابس تحتاج إلى أكثر من عشرة آلاف لتر من المياه، كمعدل وسطي، لإنتاج كيلوغرام واحد من القطن، وهو ما يكفي لصنع بنطالين من الجينز.
وأكدت أن الإفراط في الاستهلاك يتفشى في صناعة الأزياء التي تنمو بسرعة، مما تسبب بأضرار كبيرة للبيئة. وخاطبت المشاركين في المنتدى قائلة: «فكروا في الأثر الإيجابي الذي يمكن أن يحدثه ستة مليارات شخص عبر تغيير عاداتهم واتخاذ الخيارات الصحيحة».
واستمع المشاركون إلى عروض طوعية من دول العالم حول التقدم المحرز والتحديات في تنفيذ أجندة 2030. وتحدث نائب رئيس الوزراء اللبناني وزير الصحة غسان حاصباني باسم لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «الأسكوا» فعرض لمقررات المنتدى العربي للتنمية المستدامة لعام 2018 الذي انعقد في بيروت بالتعاون مع جامعة الدول العربية ومنظمات الأمم المتحدة العاملة في المنطقة العربية.
ونقل رسائل المنتدى التي تضمنت عدداً من المبادئ الأساسية مثل تأكيد دور البحث العلمي والتكنولوجيا لتحقيق التنمية المستدامة وأهمية توفر البيانات لتقييم الواقع ورصد التقدم.
وعرض مسؤولون حكوميون آخرون للجهود الوطنية من أجل ضمان الوصول إلى مياه الشرب وتوفير خدمات الطاقة الحديثة وجعل المدن آمنة للجميع. وقال وزير البيئة والموارد المائية السنغافوري ماساغوس زولكيفلي: «كممثلين منتخبين، تقع علينا مسؤولية القيادة» في عملية «توطين» جدول أعمال 2030 للتنمية المستدامة.
وركزت الوفود بشكل خاص على الجهود الوطنية الرامية إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي تشمل: المياه النظيفة، والصرف الصحي، والطاقة النظيفة، والمدن المستدامة، والاستهلاك والإنتاج المسؤول، الحياة على الأرض، والشراكات. وأكد عدد من المتحدثين على الحاجة إلى بناء اقتصادات تدويرية، يجري فيها استخدام الموارد لأطول فترة ممكنة، ومن ثم تجديدها قبل نهاية دورة حياتها. وأكد وزير البيئة والطاقة والإسكان الفنلندي كيمو تيليكاينن أن بلاده تسعى إلى أن تصبح خالية من الكربون بحلول عام 2025.
وأشار المندوب الإستوني سيم كيسلر إلى أن 50 ألف إستوني توحدوا في يوم التنظيف العالمي عام 2008 لجمع النفايات في جميع أنحاء البلاد خلال خمس ساعات فقط.
وتحدث وزير الأمن والتنمية الاجتماعية السوداني أحمد الأمين عبد الله عن مشروع وطني لتأمين السكن لجميع الأسر ودعم الحكومة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، مما يسمح للناس بالبقاء في «مناطقهم الأصلية».


مقالات ذات صلة

العلاج لا يصل لـ91 % من مرضى الاكتئاب عالمياً

يوميات الشرق الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)

العلاج لا يصل لـ91 % من مرضى الاكتئاب عالمياً

كشفت دراسة دولية أن 91 في المائة من المصابين باضطرابات الاكتئاب بجميع أنحاء العالم لا يحصلون على العلاج الكافي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
صحتك هناك علاقة واضحة بين مستويات التوتر العالية وخطر السكتة الدماغية (أ.ف.ب)

التوتر قد يؤدي إلى الإصابة بالسكتة الدماغية في منتصف العمر

يقول الخبراء إن هناك علاقة واضحة بين مستويات التوتر العالية وخطر السكتة الدماغية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك استخدام الحوامل لمنتجات العناية الشخصية يؤدي إلى ارتفاع مستويات «المواد الكيميائية الأبدية» السامة في دمائهن (رويترز)

دراسة تحذّر الحوامل: المكياج وصبغة الشعر يزيدان مستويات المواد السامة بحليب الثدي

حذرت دراسة جديدة من الاستخدام الزائد لمنتجات العناية الشخصية مثل المكياج وخيط تنظيف الأسنان وصبغة الشعر بين النساء الحوامل.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك صورة توضيحية تُظهر ورماً في المخ (أرشيفية)

الأول من نوعه... نموذج ذكاء اصطناعي يمكنه اكتشاف سرطان الدماغ

يفترض الباحثون أن شبكة الذكاء الاصطناعي التي تم تدريبها على اكتشاف الحيوانات المتخفية يمكن إعادة توظيفها بشكل فعال للكشف عن أورام المخ من صور الرنين المغناطيسي.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك الرجال المتزوجون يتقدمون في العمر أبطأ من الرجال العزاب (رويترز)

الزواج يبطئ شيخوخة الرجال

أظهرت دراسة جديدة أن الرجال المتزوجين يتقدمون في العمر أبطأ من الرجال العزاب، إلا إن الشيء نفسه لا ينطبق على النساء.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)