بدءاً من يوم أول من أمس (الجمعة) بوشر بعرض فيلم «سيكاريو: يوم الجندي» مصحوباً بمؤشرات تقول إنه قد يتبوأ مركزاً متقدماً في الإيرادات. ليس أنه سيستطيع إزاحة وحوش «جوراسيك وورلد»، لكنه سيتقدم لأكثر مما اعتقد البعض هنا.
Sicario: The Day of the Soldado هو متابعة روائية للفيلم السابق «سيكاريو» الذي أخرجه الكندي دنيس فيلنييف قبل ثلاث سنوات. مثل الفيلم الأول يدور حول حرب المخدرات على الحدود المكسيكية ومثله يتمتع بظهور اثنين من الممثلين الذين يمكن تصديقهما في أي دور: بنثيو دل تورو وجوش برولِن. المختلف هنا، عدا القصّة والموضوع المتشابه، هو أن إميلي بْلنت، التي أدت البطولة النسائية، لم تعد موجودة هنا وأن المخرج هو ستيفانو سوليما، الذي قام مع ثلاثة إيطاليين آخرين بإخراج حلقات مسلسل تلفزيوني تشويقي هو «غومورا».
ينتقل سوليما من تناول العصابات الإيطالية إلى تلك المكسيكية لكن من دون التحديات الصعبة التي واجهتها بطلة الجزء الأول من «سيكاريو» من حيث كونها امرأة بين الرجال الذين يعتبرون أن محاربة الجريمة هو شغل ذكوري فقط.
أميركا بين معسكرين
لكن الإطار العام للحكاية يختلف كذلك عن تلك التي وردت في الفيلم السابق. نعم لا يزال «سيكاريو: يوم الجندي» يتحدث عن تهريب المخدرات لكنه دمج في أتونه الحرب على الإرهاب، إذ بين المتسللين إلى الولايات المتحدة مجنّدون يفجرون أنفسهم والغير بكبسة زر.
إنها حرب على جبهتين، لكن تلك المتجددة حول المتسللين الإرهابيين تولد من رحم الموضوع الأول، ولو أن كليهما يحط على الشاشة في تأكيد غير معلن لسياسة دونالد ترمب المعادية للمهاجرين.
أفلام المخدرات والحرب ضدها ليست جديدة. وتاريخ العلاقة بينها وبين جهود البيت الأبيض للحد منها قديمة أيضاً. لكن من دون التوغل في تاريخ تناول هوليوود للآفة (هناك فيلم قصير صامت من العشرية الأولى للسينما حول الإدمان على نبتة الكولا كونها نتاجاً مخدراً) فإن الفيلم الذي أشعل جبهة هوليوود - واشنطن كان فيلم «إيزي رايدر» (1969) مع دنيس هوبر وبيتر فوندا وجاك نيكولسون. هوبر وفوندا كتبا السيناريو وهوبر قام بالإخراج.
دار الفيلم حول راكبي دراجات نارية يصطحبان معهما محام شاب (نيكولسون) في رحلة عبر الوجه الجديد لأميركا غير التقليدية. فيه تقديم لوجه جديد للدولة التي سادتها الأعراف والتقاليد المحافظة وللغرب القديم وشخوصه. الثلاثة يتناولون السجائر الملغومة بالحشيش ويواجهون المحافظين الرافضين لهم. في أحد المشاهد يسأل الأميركي البريء الآتي من درب القانون: «لماذا يكرهوننا؟». فيرد عليه فوندا: «لأنك حر».
- «لكني كنت أعتقد أننا في بلد الحرية»
فيجيبه: «ليس هذا النوع من الحرية. حريتك هذه تخيفهم».
كان الحوار، كما الفيلم بأسره، تحبيذاً لفكرة أن شبان الدراجات النارية هم عماد الحركة المناوئة لأميركا اليمينية المحافظة وأن تعاطيهم الحشيشة ليس ضاراً كما القيام بقصف المدنيين في فيتنام.
سواء نتيجة تأثير مباشر لهذا الفيلم على الشبيبة (تبعته أفلام كثيرة أقل فناً وأكثر فوضوية حول راكبي الدراجات النارية) أم لا، فإن إدارة البيت الأبيض في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون أعلنت، وللمرة الأولى، «الحرب على المخدرات» في محاولة لإيقاف ما تبدّى من انتشارها بين طبقات مختلفة.
هذه الحرب تمتعت بقوانين صارمة من بينها أن من يتم القبض عليه من المتعاطين تطبق بحقه عقوبات قاسية. بذلك لم يعد المتعاطي ضحية بريئة، على المجتمع والحكومة معاً مساعدته والعناية به، بل مجرم كما الموزّع أو المتاجر.
بذلك أيضاً لم يعد النموذج المطروح في «إيزي رايدر» يشكل ملجأ. ذلك النموذج تحدث عن متمردين ضد المجتمع المحافظ. الحرب على المخدرات مع مطلع السبعينات هدفت لتأييد المجتمع المحافظ والنيل من دعوات التمرد الشبابي. أميركا كانت منقسمة إلى عالمين آنذاك: محافظون يمينيون ومتمردون يساريون أو ليبراليون: الأول - في مجموعه يؤيد الحرب الفيتنامية ولا يدعو لإيقاف التمييز العنصري، والثاني يعارضهما (الحرب والتمييز العنصري) معاً ويحاول - عبر السينما والموسيقى - التعبير عن مواقفه.
الفيلم الذي جسد الوضع الاجتماعي من دون الرضوخ لشروط أي من الفريقين آنذاك كان «الذعر في نيدل بارك» (The Panic in Needle Park) للجيد جيري تشاتزبيرغ (1971). هنا مجموعة من المدمنين على الهيروين بينهم بوبي (آل باتشينو) وهيلين (كيتي وين) والأخيرة نتابع انحدارها المتدرج من جديدة على الإدمان إلى قعره الأسود.
تشاتزبيرغ كان معنياً بتقديم صورة للوضع السائد ولم يكن في وارد منح الضحايا تبريراً سياسياً أو إنسانياً. لكن المخدرات بدأت تتناوب في الظهور في أفلام هوليوودية تبعاً لحاجة معظمها الدلالة على وجود هوّة اجتماعية سحيقة اسمها الإدمان أو، كما الحال في «من سيوقف المطر» Who’ll Stop the Rain لكارل زايز (1978)، لتسجيل موقف سياسي.
عناصر الجبهة
تلك الحقبة في السبعينات كانت الأشد فعلاً حيال جهود الحكومة الأميركية محاربة الإدمان. خطبة رونالد ريغان (الممثل الوحيد الذي انتقل إلى البيت الأبيض رئيساً) التي يقول فيها «قل لا للمخدرات» ما زالت مرجعاً (استخدمها فيلم «صنع أميركي» لدوغ ليمان، 2017).
خلال ذلك كانت المخدرات حقل تجاذب بين أفلام عصابات كثيرة بدأت عبر «العراب» لفرنسيس فورد كوبولا (1972) وما تلاه على نسقه من أفلام مثل «مات الدون» و«أوراق فالاتشي» و«ذا فرنش كونكشن».
لكن اللافت فعلاً أن طريق «العراب» لتقديم عائلة مافياوية لا تتورع عن القتل واستخدام النفوذ، وفي الوقت نفسه إثارة الإعجاب بها (وهو ما فعلته رواية ماريو بوتزو والفيلم جيداً) هو فصلها عن الاتجار بالمخدرات.
في الواقع، هناك ذلك المشهد المهم الذي يقف فيه مارلون براندو (في دور دون فيتو كاروليوني) خطيباً في لقاء شمل عصابات الولايات الأميركية المختلفة يقول فيه إنه إذ يترك العصابات الأخرى حرة فيما تقوم به إلا أنه لن يتعامل مع المخدرات ولن يسمح لأحد أن يتعامل معها في المناطق الخاضعة له.
«ذا فرنش كونكشن» («الاتصال الفرنسي» للمخرج ويليام فريدكن (1971) كان حول التحري (الفعلي) جيمي دويل (مثله جين هاكمن) الذي يلاحق أكبر تاجر مخدرات (فرناندو راي) ويده اليمنى (مارسل بيزوفي). لكن الفيلم لم يكن في فعله عن الحرب ضد المخدرات كمنهج، بل عن هوس التحري الشخصي في النيل من تاجر المخدرات، مما قلب الفيلم إلى تشويق بوليسي لا يعالج وضعاً اجتماعياً.
على ذلك، هو وتاريخ إنتاجه، يمثلان عناصر تلك الجبهة التي نشطت هوليوود في إنتاجها وشملت الكثير من الأفلام بما فيها أفلام البطولة السوداء مثل «شافت» و«سوبرفلاي» و«كليوباترا جونز».
لكن هوليوود ذاتها أقدمت على قرار غير ملزم بالامتناع عن تصوير أبطالها وهم يدخنون السجائر (العادية). بالتأكيد هي طامة صحية كبيرة لكن في الوقت الذي قامت فيه الاستوديوهات بالحد من تصوير أبطال أفلامها يدخنون رفعت نسبة المشاهد الذي نجد فيها أخياراً وأشراراً (ورماديين) يتعاطون شم الكوكايين كما لو أن هذا لا يساهم في نشر الرغبة في التجربة، والتجربة تتحوّل إلى إدمان بالفعل.
في «صنع أميركي» (2017) تبرز ناحية أخرى من هذا الموقف المزدوج: توم كروز هو طيار مدني (والشخصية وبعض الأحداث حقيقي) ينتقل للعمل لحساب المخابرات الأميركية التي توفر له طائرة صغيرة لنقل الوثائق والأسلحة للعصابات اللاتينية ومنها. بعد ذلك يجد أنه يستطيع زيادة دخله من خلال نقل الكوكايين.
ما يوفره الفيلم في الأساس هو شخصية رمادية لإنسان مارس الجريمة لكن معالجة الفيلم له تبقى كما لو أن الجريمة مباحة ومقبولة طالما أن بطل الفيلم (توم كروز) لا يمكن له تمثيل الشخصية بدكانة أفعالها.
هذا المبدأ ساد فيلم أوليفر ستون «وول ستريت: المال لا ينام»، حيث الشخصيات البطولية تبرر قيامها بالمضاربات غير المشروعة في البورصة، كما فيلم مارتن سكورسيزي «ذئب وول ستريت» (2013) الذي يتم تصوير بعض شخصياته الرئيسية (بما فيها الشخصية التي يؤديها ليوناردو ديكابريو المقتبسة عن شخصية حقيقية بطلها جوردان بلفورت) وهي تتعاطى الكوكايين. لكن وعلى الرغم من ممارسات تلك الشخصية غير القانونية (التسبب في نهب مضاربين وبناء ثروة والتهرب من دفع الضرائب، ناهيك بالإدمان) فإن الفيلم لا يجرؤ خدش الشخصية الحقيقية أكثر من اللازم ولا تقديم صورة داكنة تماماً لبطله ديكابريو.
لا أحد ذهب إلى العمق الذي بادر إليه آل باتشينو في «الذعر في نيدل بارك» أو في فيلمه المهم الآخر «سكارفايس» (Scarface) الذي أخرجه برايان دي بالما سنة 1983. في ذلك الفيلم الذي يحكي قصة مهاجر كوبي انضم لعصابة لاتينية ثم قتل زعيمها ليستولي على القرار. لم يتعامل المخرج مع شخصيته برأفة ولا قام آل باتشينو بتقديم شخصيته كما لو كانت ضحية. كلاهما ذهب إلى الحد الأقصى في تصوير عالم الجريمة والإدمان ووصمهما من دون حسابات أخرى.
البيت الأبيض والحرب على المخدرات... سينمائياً
من نيكسون إلى ريغان وصولاً إلى ترمب
البيت الأبيض والحرب على المخدرات... سينمائياً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة