الحقوق حين تتحول إلى قدرات تمارس عمليا في حياة الأفراد

مارثا نوسبام وحدود العدالة

مارثا نوسبام
مارثا نوسبام
TT

الحقوق حين تتحول إلى قدرات تمارس عمليا في حياة الأفراد

مارثا نوسبام
مارثا نوسبام

مارثا نوسبام فيلسوفة أميركية معاصرة ذات اهتمامات واسعة، من مواليد مايو (أيار) 1947. نوسبام مشتغلة أساسا بالأخلاق في جامعة شيكاغو، ولكنها تطرق هذا الموضوع من زوايا مختلفة. على سبيل المثال، كانت نوسبام تدرس لفترة طويلة طالبات وطلاب القانون والفلسفة مادة العدالة الشعرية، أي العدالة من منظور الشعراء على مدار التاريخ. نوسبام هنا واعية بأن القانون ليحقق العدالة يحتاج إلى روح شعرية تقوده في اتجاهين.
أولا للأمام، لإدراك المزيد من قيم العدالة الإنسانية.
وثانيا في العمق، لإدراك معان أعمق للعدالة في التجربة البشرية. هنا، نوسبام تدخل الشعراء مرة أخرى إلى مدينة العدالة التي طردهم منها أفلاطون قبل خمسة وعشرين قرنا. أصدرت نوسبام بعد هذه التجربة كتابها الشهير ««Poetic Justice سنة 1995.
ما سأتطرق إليه هنا من أعمال نوسبام، هو ما له علاقة بنظرية العدالة والجدل حولها، الذي حفزه جون رولز بكتابه «نظرية في العدالة».
في 2006، نشرت نوسبام كتابها الذي أهدته إلى الراحل جون رولز «حدود العدالة» (Frontiers of Justice). في هذا الكتاب، قدمت قراءة نقدية لنظريات العقد الاجتماعي بشكل عام، ولنظرية رولز في العدالة بشكل خاص. تطرح سؤالين جوهريين في هذا السياق: من الذين يجرون العقد الاجتماعي؟ أو بالأحرى من الغائبون عن تلك المعاقدة؟ السؤال الثاني: على ماذا يتعاقدون، أو ما معيار ومقياس العدالة؟
السؤال الأول يمكن أن يجيب عنه العنوان الفرعي لكتاب «حدود العدالة»، وهو: الإعاقة، الجنسية، وعضوية الأنواع. هنا نوسبام تلفت الانتباه إلى ثلاثة أطراف جوهرية لا تبدو بوضوح في نظريات العقد الاجتماعي.
أولا، المعاقون. العقود تجرى عادة بين من يصنفون اجتماعيا بذوي الأهلية التعاقدية. بمعنى أنهم الناس الذين يتوفرون على قدرات ذهنية محددة بمعايير اجتماعية لإجراء المعاقدات. ماذا عن من هم خارج هذه الدائرة؟ تتساءل نوسبام. ممكن ملاحظة أثر هذا الغياب على مدار قرون طويلة من التاريخ البشري وحتى اليوم في عدد من المجتمعات. هذه الفئات المصنفة اجتماعيا تحت عناوين الإعاقة تعاني تهميشا واسعا وغمطا عميقا لحقوقها. إذا كانت نظريات العقد الاجتماعي، أو على الأقل في نسختها الرولزية، تحاول أن تؤسس العقد الاجتماعي على دوافع النفع الذاتي والنفع المتبادل، فإن من المتوقع جدا تجاهل منافع أولئك الذين لا يشاركون في المعاقدة والذين يمكن النظر لهم على أنهم يأخذون ولا يعطون.
الفئة الثانية التي تفكر فيها نوسبام، هي فئة الأفراد خارج منظومة العقد الاجتماعي، بمعنى أنه في عصر الدول القطرية الذي نعيشه، فإن العقود الاجتماعية تشمل فقط الأفراد داخل تلك الدول. ماذا عن الأفراد خارج تلك الحدود؟ تتساءل نوسبام. هل يمكن تأسيس منظومة عدالة كونية على عقود محلية خاصة؟ غير المواطنين، في نهاية الأمر، بشر، والالتزامات الأخلاقية يفترض ألا تبقى أسيرة لظروف مثل الحدود السياسية، لا معنى لها أخلاقيا. رولز تصدى لهذه القضية في كتابه «قانون الناس»، وهو مخصص للعلاقات الدولية، وسنفرغ له هنا مقالا خاصا مع النقودات التي تعرض لها.
الفئة الثالثة التي تقلق نوسبام، هي فئة الكائنات الحية غير البشرية، وكيف يمكن إدراجها في نظرية العدالة. هل نظرياتنا الأخلاقية وتصوراتنا للعدالة تشمل الحيوانات والنباتات؟ نوسبام هنا لا تبحث عن مجرد حس أو مشاعر تعاطف مع الكائنات الحية، بقدر ما تسعى لنظرية عدالة تأخذ قيمة قانونية تطبيقية تحكم سلوك البشر مع بقية الكائنات الحية كما تحكم علاقات البشر بعضهم مع بعض. اليوم، خصوصا في الدول الديمقراطية، هناك وعي متزايد بظروف البيئة وآثار السلوك البشري عليها. كذلك هناك وعي بحقوق الحيوانات وأثر السلوك البشري عليها. هل تبقى هذه مجرد حواش على نظرية العدالة أم يجب أن تندرج في صلبها؟ تعتقد نوسبام أن نظريات العقد الاجتماعي المتوافرة تستوعب هذه المجالات الثلاثة الجوهرية.
ما سبق، كان عن السؤال الأول الذي شغل نوسبام في كتابها «حدود العدالة»، تحديدا سؤال: من أطراف العقد الاجتماعي؟ بالنسبة للسؤال الثاني، وهو معيار ومقياس العدالة، فتذهب نوسبام، شراكة مع أمارتيا سن، باتجاه مذهب القدرات في مقابل مذهب الخيرات الأساسية عند رولز. محاججة نوسبام وسن سهلة ومباشرة: توافر الحقوق والموارد لدى الناس لا يضمن ممارستهم لها. بمعنى أن هناك خطوة جوهرية بين مجرد الامتلاك والقدرة على الممارسة. تجادل نوسبام بأن امتلاك الموارد الأساسية يصطدم كثيرا بظروف صلبة تجعل من استثمار تلك الموارد غير ممكن. العدالة هنا يجب أن تعنى بمدى قدرة الأفراد على ممارسة حقوقهم والاستمتاع بالموارد والإمكانات التي يمتلكونها. يظهر الفرق هنا مع قائمة العشر قدرات التي تقدمها نوسبام وهي كالتالي:
1- القدرة على الحياة للعمر الطبيعي. كثير من الأطفال يموتون اليوم بسبب ضعف في الظروف الصحية التي ولدوا فيها.
2- الصحة الجسدية. لا يكفي أن تعيش طويلا، ولكن من حق كل إنسان أن يعيش بصحة جيدة.
3- النزاهة والكرامة الجسدية، وتتمثل في حرية التنقل والحركة من مكان لمكان، وحماية الجسد من الانتهاكات والعنف بكل أشكاله.
4- حق الإنسان في التفكير بحرية، وحقه في الخيال والحلم.
5- حق الإنسان في الشعور العاطفي تجاه الأشخاص والأشياء التي يحب.
6- حق الإنسان في التفكير العملي، بمعنى حقه في تحويل تصوراته للخير إلى حياة يمارسها فعلا.
7- الحق في الانتماء مع ومن أجل الجماعات التي نريد، وكذلك الحق في امتلاك الأساس الاجتماعي الذي يكفل الكرامة ويحمي من الازدراء.
8- الحق في العيش والانتماء إلى الكائنات غير البشرية من نباتات وحيوانات.
9- الحق في اللعب والمتعة.
10- الحق في المشاركة السياسية والاقتصادية التي تكفل قدرا من إدارة الإنسان الواقع المحيط به.
هذه القائمة كفيلة، بحسب نوسبام، بتحويل الحقوق إلى قدرات تمارس عمليا في حياة الأفراد، وهذه هي الإضافة الجوهرية التي تحتاجها نظرية رولز عن العدالة.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.