تداعيات تحرير درنة الليبية (الحلقة الأخيرة) : حفتر إلى غرب ليبيا... رحلة محفوفة بالعراقيل والإكراهات

يحتاج إلى تحالفات جديدة وتنازلات صعبة لبعض القبائل المحسوبة على النظام السابق

جانب من تدريبات الجيش الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر قبل إعلانه عن بدء عمليات تحرير درنة (أ.ف.ب)
جانب من تدريبات الجيش الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر قبل إعلانه عن بدء عمليات تحرير درنة (أ.ف.ب)
TT

تداعيات تحرير درنة الليبية (الحلقة الأخيرة) : حفتر إلى غرب ليبيا... رحلة محفوفة بالعراقيل والإكراهات

جانب من تدريبات الجيش الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر قبل إعلانه عن بدء عمليات تحرير درنة (أ.ف.ب)
جانب من تدريبات الجيش الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر قبل إعلانه عن بدء عمليات تحرير درنة (أ.ف.ب)

يتجه المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي، إلى فرض السيطرة على مدن غرب البلاد، بعد أن تمكن أخيرا من القضاء على معاقل الجماعات المتطرفة في الشرق، وترسيخ أقدام موالين له في الجنوب. لكن هذه الطريق في اتجاه الغرب تحتاج إلى تحالفات جديدة، وتقديم تنازلات صعبة لبعض القبائل المحسوبة على النظام السابق، بعضها يتعلق بمبادئ «ثورة فبراير»، التي أطاحت بحكم معمر القذافي وأدت إلى مقتله عام 2011.
ومنذ بداية هذا الشهر تعكف أطراف موالية للمجلس الرئاسي على جمع معلومات عن مدينة «بني وليد»، التي تبعد نحو 150 كيلومترا جنوب شرقي العاصمة الليبية، تمهيدا لإطلاق عملية عسكرية ضدها، على أمل الحصول على مساعدة من الولايات المتحدة الأميركية، مثل تلك التي جرت ضد تنظيم داعش في سرت قبل عامين. وقد بادرت الولايات المتحدة قبل أيام بتنفيذ عملية ضد تنظيم داعش قرب «بني وليد» بالفعل. لكن قيادات المدينة تقول إن ثلاثة من بين القتلى الأربعة لا علاقة لهم بتنظيم داعش المتشدد.
وتعد «بني وليد» العاصمة الروحية لقبيلة «ورفلة» كبيرة العدد، والمنتشرة في عموم ليبيا، حيث توجد مخاوف من أن ينجح المشير حفتر في خلق تحالفات جديدة تشملها.
وتبع إجراءات «التصدي المعنوي» لحفتر من جانب بعض أهل الحكم في طرابلس، الموافقة من بعض أعضاء المجلس الرئاسي على الإفراج عن قيادات من مسجوني النظام السابق، وإعادة أملاك قيادات أخرى كان قد تم مصادرتها عقب مقتل القذافي.
بخصوص الموقف في مدينة بني وليد، يقول الدكتور محمد الورفلي، القيادي في مؤتمر القبائل الليبية وابن المدينة: «إذا التحم الجيش الوطني، الذي يقوده المشير حفتر، مع قبيلة ورفلة والتفت حوله، فهذا يعني أن طرابلس انتهى أمرها، وأصبحت في قبضة الجيش».
*أهمية بني وليد الاستراتيجية
إبان الحرب العالمية الثانية، أطلق رودولفو غراتسياني، الحاكم العسكري الإيطالي لليبيا، على مدينة «بني وليد» لقب «دردنيل طرابلس الغرب»، في كتابه «نحو فزان». وكان يعني بهذا أن من يريد أن يدخل إلى طرابلس عليه أن ينطلق إليها من بني وليد. وفي هذا السياق يقول الورفلي إن «غراتسياني كان صادقا في هذا التوصيف».
واشتهرت هذه المدينة بأسماء كثيرة ومهمة في تاريخ جهاد الليبيين ضد الاحتلال الإيطالي في عموم البلاد. وحاليا ينتمي إليها عسكريون متمرسون، ينظر إليهم كقوة ضاربة، من بينهم العميد يونس فرحات، وزير الدفاع الذي يعمل مع حفتر، وآمر عمليات سلاح الجو، العقيد سعد الورفلي. وقد بذلت قيادات أخرى من «بني وليد» جهودا مضنية للقضاء على المتطرفين في درنة خلال الأيام الماضية، من بينهم من ضحوا بأرواحهم، مثل العميد عبد الحميد الورفلي، بالإضافة إلى الرائد محمود الورفلي الذي حاز شهرة عالمية، وأصبح مطلوبا للمحاكمة الدولية بسبب قيامه بإعدام متهمين بالانضمام للمتطرفين في بنغازي.
ومع هذا لا يبدو أن حفتر سيتمكن من إرضاء كل القيادات الاجتماعية في قبيلة ورفلة، التي لديها علاقات تعاون وتفاهم مع قبائل أخرى، محسوبة على نظام القذافي، مثل قبيلة القذاذفة، وقبيلة المقارحة التي ينتمي إليها رئيس المخابرات العسكرية السابق عبد الله السنوسي. وحتى لو تمكن من ذلك فإن هناك من يضع العراقيل أمامه.
فقد جرت في طرابلس أكبر حركة استعداد لإطلاق سراح قيادات من النظام السابق في سجون تديرها ميليشيات موالية للسراج. ومن بين هؤلاء الساعدي، أحد أبناء القذافي، بالإضافة إلى السنوسي نفسه.
وعلى نفس الخطى لاستقطاب قيادات النظام السابق من جانب أطراف في المجلس الرئاسي، يجري الترتيب منذ بداية هذا الشهر لرفع الحراسة عن أملاك نحو عشرة من هذه القيادات، رغم أن معظم الأملاك (العقارات) ما زالت محتلة من قبل ميليشيات لا سلطان عليها في طرابلس ومدن أخرى.

عراقيل بالجملة أمام حفتر
بالتزامن مع هذه الإجراءات، تحاول قوى في طرابلس وضع أكبر قدر من العراقيل والحواجز مبكرا أمام أي تقدم لحفتر في اتجاه الغرب. وفي هذا الصدد كشف مصدر أمني أن بعض القيادات في العاصمة سعت للتواصل مع أحد كبار القيادات، التي يعتمد عليها قائد الجيش الوطني في قوات الصاعقة لاستقطابه إليها، إلا أنها لم تتمكن من تحقيق أي نتيجة. وقال موضحا: «لقد اتصلوا في بنغازي بنجله كريم، لكنهم لم ينجحوا في إقناعه».
كما جرت في الأيام التالية محاولات مماثلة مع قيادات عسكرية من قبيلة التبو، ممن يحاربون مع حفتر، بيد أنها لم تأت بأي نتائج.
أما بخصوص المحسوبين على أنصار النظام السابق، فيقول أحد قيادات قبيلة المقارحة، موضحا إذا كان يمكن الاستمرار في التحالف مع ورفلة، إذا قررت هذه الأخيرة التعاون مع حفتر: «مثل هذه الأمور السياسية لا علاقة لها بمساعينا للإفراج عن أبنائنا من السجون، أو استعادة أملاكنا المنهوبة منذ 2011».
لكن هذا لا يمنع من أن عدة جلسات عقدت لقيادات من قبائل محسوبة على القذافي، تبادلت في جلسات بمصر أخيرا قضية مساعي حفتر للتوجه غربا، ودور القبائل من دعمه، وحجم التنازلات المطلوب أن يقدمها لها، وإمكانية أن يتخذ من بني وليد نقطة انطلاق لطرابلس. ومع كل ذلك أيضا قامت بتوجيه الشكر لمن بادروا لإخلاء سبيل المسجونين.
وتتميز بني وليد بتضاريسها الوعرة، وتوجد فيها وديان وتحيط بها جبال. وقد مكث فيها القذافي لمدة يوم تقريبا أثناء انتقاله من طرابلس التي كان يقصفها حلف الناتو، إلى مسقط رأسه في سرت المجارة لـ«بني وليد» من الشرق. وقد حاولت القوات التابعة للحكام الجدد في ليبيا إخضاع المدنية مرتين: الأولى في 2011 والثانية في 2012 إلا أنها لم تتمكن من البقاء فيها، ولم تتمكن أيضا من تشكيل أي مجالس عسكرية، أو كتائب موالية لها، مثلما فعلت في عدد من المدن الأخرى.
يقول واحد من القيادات العسكرية من قبيلة ورفلة: «لقد انضم عدد كبير من أبناء القوات المسلحة من القبيلة إلى حفتر، ليس تأييدا لثورة فبراير، ولكن من أجل استعادة الدولة الليبية». مضيفا أن معظم قيادات المجلس الاجتماعي في القبيلة لا تنظر إلى حفتر بارتياح لأسباب ترتبط بتمسكه بمبادئ ثورة فبراير، وهو أمر مرفوض لدى معظم القيادات الاجتماعية في المدينة. وتابع موضحا «نحن نتمسك بالنظام الجماهيري (للقذافي)... ويمكن أن نتناقش على حلول وسط، لكن بشروط».

خصوم حفتر
يبدو أن خصوم حفتر أصبحوا يؤمنون بشكل جدي، خاصة في الأسابيع الأخيرة، بخطر أي تحالف له مع بني وليد، لا سيما بعد انتصاراته المتعاقبة في درنة. ومن هذا المنطلق حاول بعض منافسي حفتر تجييش قوات لاقتحام بني وليد مجددا خلال الشهور الماضية. إلا أن تحصينات المدينة أصبحت أكثر قوة من ذي قبل، وفقا لما أفاد به تقرير جرى رفعه لأطراف في المجلس الرئاسي في طرابلس مؤخرا.
ويقول مسؤول أمني، تحفظ على ذكر اسمه، إنه «جرى رفع عدد من التقارير حول الوضع العسكري والسياسي لمدينة بني وليد» إلى جهات، يفترض أنها تسعى لبسط الاستقرار في ليبيا، موضحا أن هذه التقارير تضمنت شكاوى من أن المدينة فيها «أزلام (أي أنصار النظام السابق)»، وأن بعض التقارير اتهمت بني وليد، بعد ذلك، بإيواء مجاميع من تنظيم داعش، في محاولة لإقناع الجهات الدولية بتوجيه غارات جوية على مواقع مهمة في المدينة.
ووفقا لمصدر عسكري في طرابلس، فإن بعض قادة المجلس الرئاسي، ممن أطلقوا عملية «عاصفة الوطن» ضد «داعش» مطلع أبريل (نيسان) الماضي، يأملون في تعاون أميركا لقصف مواقع في النطاق الجغرافي للعملية، مثلما جرى من الجانب الأميركي أثناء عملية «البنيان المرصوص»، التي أسفرت عن دحر تنظيم داعش في سرت أواخر 2016.
ويضم نطاق عملية «عاصفة الوطن» كلا من «بني وليد» و«ترهونة»، و«مسلاتة» و«الخمس» و«زليتن». لكن المصدر أضاف أن «التركيز الأكبر ينصب في الوقت الراهن، على بني وليد».
وبحسب المصدر نفسه، فإنه «في إطار هذا الاهتمام، طلب الجانب الأميركي معلومات تفصيلية عن مدينة بني وليد ومحيطها». وقال موضحا: «تلقينا طلبا من قوات أفريكوم (القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا) مطلع هذا الشهر لتزويدها بكل شيء عن بني وليد، ونحن لدينا تعاون مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب».
وعما إذا كان المجلس الرئاسي يمتلك ما يثبت وجود «إرهابيين» في بني وليد، أضاف المصدر ذاته «نعم يوجد تنظيم داعش هناك. والقوات الأميركية ضربت مجموعة تابعة للتنظيم قبل أيام».
من جهته، قال مستشار أمني في طرابلس، إن «التقرير، الذي جرى رفعه إلى الجانب الأميركي عن بني وليد، يشير إلى أن المدينة أصبحت تحوي عناصر لتنظيم داعش... وهذا يعطي ذريعة للولايات المتحدة لقصف المدينة في أي وقت، وإذا ما عارضتها الدول الكبرى، فإنها ستقدم التقرير الذي تلقته من الجانب الليبي. المعلومات التي لدينا تقول إن العسكريين في (أفريكوم) رفضوا التعامل مع أي تقارير شفهية، وأصروا على أن يكون التقرير الليبي مثل طلب رسمي بالتدخل لمحاربة الإرهاب في المدينة. أعتقد أنهم سيدرسون جدية الأمر قبل أي تدخل. فهم لا يعملون اعتباطا».
وزاد المستشار موضحا: توجد عملية عسكرية ليبية جاهزة بالفعل لتلقي أي مساعدات لوجيستية من الولايات المتحدة، أو غيرها لمحاربة الإرهاب، وهي عملية «عاصفة الوطن» لمحاربة تنظيم داعش في الصحراء الليبية، ومن بينها مدينة «بني وليد». مبرزا أن هناك فقرة وردت في أحد التقارير المرفوعة لأفريكوم تقول إن عملية «عاصفة الوطن» لا تستطيع وحدها اجتثاث «داعش» من هذه المدينة تحديدا.
ومنذ مقتل القذافي وحتى اليوم، باتت مدينة بني وليد تمثل مشكلة للحكام في طرابلس. وينظرون إليها كتهديد محتمل، كونها لم تخضع للسلطات الجديدة منذ ذلك الوقت. ويقول مثل شهير في بني وليد إنه «من السهل لأي قوات اقتحامها. لكن من الصعب البقاء فيها». ويوضح الدكتور الورفلي ذلك بقوله: «أعتقد أن المشكلة تكمن في أنه من السهل لأي ميليشيا، سواء من طرابلس أو من مصراتة أو غيرها، اقتحام المدينة. لكن من الصعب البقاء فيها أكثر من ساعتين أو ثلاثة... فقد أصبح أبناء المدينة أكثر قدرة على التعامل مع أي قوة غازية. وهذا لم يحدث في الماضي، ولن يحدث اليوم. شباب المدينة أصبحوا من المقاتلين الذين اعتادوا على حرب الشوارع، وأخذوا دروسا عملية كبيرة مما حدث في الماضي».
وبسؤاله عما إذا كان هناك وجود لتنظيم داعش في بني وليد، قال الدكتور الورفلي: «تنظيميا لا يوجد، لكن هناك أفراد من (داعش) يعودون لقبائلهم. فبني وليد مجتمع قبلي. وإذا جاءك ابن عمك، مثلا، فإنه لا يمكن أن تقول له: لا... أنت من (داعش)، أو من (الإخوان)، ارحل من هنا. أو تقول له: لا... لا تقعد في بيتك. الناس يقبلون بهم. أنا لا أنفي وجودهم كأشخاص، وربما كان هناك عدد مهم منهم. لكنهم ليسوا منظمين كتنظيم. أعتقد أن الموضوع يتعلق بالشكل الاجتماعي، وبالشكل القبلي؛ أي أن الأرض ضاقت عليهم بما رحبت، فعادوا إلى قبائلهم وإلى عائلاتهم، لا أكثر ولا أقل. وليس لهم نشاط على الإطلاق».
في السادس من الشهر الجاري أعلنت «أفريكوم»، أنها شنت غارة جوية دقيقة استهدفت مسلحين تابعين لتنظيم داعش قرب بني وليد، مبرزة أن الغارة جرت بالتنسيق مع حكومة الوفاق، وأسفرت عن مقتل أربعة من «داعش». فيما قالت مصادر محلية في المدينة إن من قتلوا في القصف هم عبد العاطي إشتيوي أبو ستة، وهو قيادي في «داعش»، وثلاثة من مرافقيه، هم معتوق سعد ميلاد، ومحمد ونيس أبو ستة، وسليم الدروعي، حينما كانوا في سيارة واحدة في وادٍ غرب منطقة أشميخ.
يقول الدكتور الورفلي: «أعرف هؤلاء الأربعة بشكل شخصي... وقد ماتوا بالفعل في غارة (أفريكوم)». وقرية أشميخ التي كانوا فيها تقع في منطقة زراعات، جنوب «بني وليد» بنحو 40 كيلومترا. مبرزا أن عبد العاطي معروف بأنه «داعشي». أما الآخرون فهم مجرد أقارب له من الجانب القبلي، ولا يعتنقون الفكر «الداعشي»، كما أوضح أن عبد العاطي من سكان مدينة سرت. لكن بعد أن اقتحمت قوات «البنيان المرصوص» سرت، جاء هو وأسرته إلى «بني وليد».
ويتابع الدكتور الورفلي موضحا «لقد جاء إلى قبيلته... وفي ذلك اليوم كان الأربعة متجهين لمزرعة أبو ستة في أشميخ. عبد العاطي كان مرصودا. والمعلومات وصلت لأفريكوم من الأرض (أي من المنطقة)».
من جهته، قال المجلس البلدي لمدينة «بني وليد»، بشكل رسمي، إن الثلاثة الذين قتلوا مع عبد العاطي، لا ينتمون لأي تنظيم إرهابي. بينما أعلن المكتب الإعلامي لـ«أفريكوم»، في إيجاز صحافي أن الضربة الجوية كانت بتنسيق مع حكومة الوفاق، وأنهم غير متأكدين من أن القصف أسفر عن سقوط ضحايا مدنيين.
وعن سبب الاهتمام الأخير من جانب أطراف في المجلس الرئاسي وقوات «أفريكوم» بمدينة بني وليد، وعما إذا كان هذا الاهتمام يرجع إلى الخوف من أنها تضم أنصارا للنظام السابق، أم الخوف من أن يستوطن فيها دواعش؟ قال الدكتور الورفلي: «لا شك أن البعض يخشى من وجود قوي لأنصار النظام السابق في المدينة. فحتى الآن معروف عن بني وليد أنها لم ترفع علم فبراير (ذا الألوان الثلاثة)، وإلى الآن لم تشكل فيها مجالس عسكرية، ولا يوجد فيها كتائب ولا ميليشيات، مثل تلك التي ظهرت منذ 2011 في كثير المدن الأخرى». مضيفا أن «بني وليد» ما زالت حتى الآن ترفع العلم الأخضر (للنظام السابق)، وترفع صور العقيد معمر القذافي. وتخرج أحيانا في مظاهرات ومسيرات تأييدا لليمن أو سوريا أو غيرها، حيث تتفاعل مع الأحداث في العالم العربي. أضف إلى ذلك أن المدينة تعد عاصمة لقبائل ورفلة المنتشرة على كل مساحات ليبيا، من طبرق شرقا إلى حدود تونس غربا.
وعما إذا كان بإمكان الجيش بقيادة المشير حفتر أن يتعاون مع بني وليد وقبائل ورفلة، أو أن يقوم بعمل تمركزات في المدينة استعدادا للانطلاق نحو باقي ليبيا، خاصة الغرب كما يرجح البعض، أوضح الدكتور الورفلي أن هناك إشكالية بين قيادة الجيش، تتمثل في المشير حفتر، وقبائل ورفلة، وذلك بسبب حديث سابق أطلقه المشير على أبناء بني وليد، حينما وصفهم أثناء أحداث 2011 بأنهم مرتزقة بسبب مقاومتهم لمن انضموا للثورة على القذافي. و«هذا الإشكال ما زال قائما. وهو يدور حول تسجيل فيديو يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي، ويبث في بعض القنوات الفضائية التي هي ضد خليفة حفتر. ويرجع تاريخ الفيديو إلى أيام محاصرة بني وليد من كل الجهات، حيث استمرت في المقاومة حتى النهاية، وحينها قالت عنها وسائل الإعلام في ذلك الوقت إنها (تستعصي على الثوار)».
ويضيف الورفلي مبرزا أن «الفيديو ظهر في تلك الفترة، وفيه يقول حفتر إن من يدافع عن بني وليد جرى جلبهم من أفريقيا وآسيا. وهذا ما اعتبره الناس هنا مساسا بكرامتهم، واعتداء على تاريخ ورفلة، وعلى بطولات ورفلة. وهذا الموضوع ما زال شائكا. فلا حفتر قام بتبرير ما ورد على لسانه في هذا الشريط، ولا قدم لهم اعتذارا بأنه كان تحت تأثير حملة إعلامية وقتها، وأنه لم يكن هناك مرتزقة في المدينة، ولا يحزنون».
وما زال الفيديو موجودا على موقع «اليوتيوب» حتى الآن. وفي هذا الصدد يقول القيادي في مؤتمر القبائل الليبية: «هذا الفيديو وما ورد فيه ما زال يتسبب في نوع من الجفاء ما بين ورفلة والمشير حفتر حتى الساعة. ومن يسعون للوقيعة بين ورفلة وبين الجيش يركزون على هذا الموضوع، وكلما تحدث ورفلي بشكل طيب عن حفتر، يرد عليه من يريدون التفريق بينهما، بالقول: هل نسيت أنه قال كذا وكذا، في إشارة إلى ما ورد في ذلك الفيديو».
لكن الدكتور الورفلي يوضح أن هذا الموقف من حفتر يقتصر إلى حد كبير على الجانب الشعبي فقط، وهو أمر يختلف عما يتعلق بموقف العسكريين من أبناء القبيلة، ويقول حول هذه النقطة تحديدا: «الوضع مختلف على مستوى الضباط، فهم منخرطون في عملية الكرامة (التابعة للجيش)، وعددهم غير قليل، ويشغلون مراكز حساسة، وبعضهم في قيادة الجيش. أما في المستقبل فلا أحد يعلم ما سيقع من أحداث».



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.