تداعيات تحرير درنة الليبية (الحلقة الأخيرة) : حفتر إلى غرب ليبيا... رحلة محفوفة بالعراقيل والإكراهات

يحتاج إلى تحالفات جديدة وتنازلات صعبة لبعض القبائل المحسوبة على النظام السابق

جانب من تدريبات الجيش الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر قبل إعلانه عن بدء عمليات تحرير درنة (أ.ف.ب)
جانب من تدريبات الجيش الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر قبل إعلانه عن بدء عمليات تحرير درنة (أ.ف.ب)
TT

تداعيات تحرير درنة الليبية (الحلقة الأخيرة) : حفتر إلى غرب ليبيا... رحلة محفوفة بالعراقيل والإكراهات

جانب من تدريبات الجيش الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر قبل إعلانه عن بدء عمليات تحرير درنة (أ.ف.ب)
جانب من تدريبات الجيش الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر قبل إعلانه عن بدء عمليات تحرير درنة (أ.ف.ب)

يتجه المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي، إلى فرض السيطرة على مدن غرب البلاد، بعد أن تمكن أخيرا من القضاء على معاقل الجماعات المتطرفة في الشرق، وترسيخ أقدام موالين له في الجنوب. لكن هذه الطريق في اتجاه الغرب تحتاج إلى تحالفات جديدة، وتقديم تنازلات صعبة لبعض القبائل المحسوبة على النظام السابق، بعضها يتعلق بمبادئ «ثورة فبراير»، التي أطاحت بحكم معمر القذافي وأدت إلى مقتله عام 2011.
ومنذ بداية هذا الشهر تعكف أطراف موالية للمجلس الرئاسي على جمع معلومات عن مدينة «بني وليد»، التي تبعد نحو 150 كيلومترا جنوب شرقي العاصمة الليبية، تمهيدا لإطلاق عملية عسكرية ضدها، على أمل الحصول على مساعدة من الولايات المتحدة الأميركية، مثل تلك التي جرت ضد تنظيم داعش في سرت قبل عامين. وقد بادرت الولايات المتحدة قبل أيام بتنفيذ عملية ضد تنظيم داعش قرب «بني وليد» بالفعل. لكن قيادات المدينة تقول إن ثلاثة من بين القتلى الأربعة لا علاقة لهم بتنظيم داعش المتشدد.
وتعد «بني وليد» العاصمة الروحية لقبيلة «ورفلة» كبيرة العدد، والمنتشرة في عموم ليبيا، حيث توجد مخاوف من أن ينجح المشير حفتر في خلق تحالفات جديدة تشملها.
وتبع إجراءات «التصدي المعنوي» لحفتر من جانب بعض أهل الحكم في طرابلس، الموافقة من بعض أعضاء المجلس الرئاسي على الإفراج عن قيادات من مسجوني النظام السابق، وإعادة أملاك قيادات أخرى كان قد تم مصادرتها عقب مقتل القذافي.
بخصوص الموقف في مدينة بني وليد، يقول الدكتور محمد الورفلي، القيادي في مؤتمر القبائل الليبية وابن المدينة: «إذا التحم الجيش الوطني، الذي يقوده المشير حفتر، مع قبيلة ورفلة والتفت حوله، فهذا يعني أن طرابلس انتهى أمرها، وأصبحت في قبضة الجيش».
*أهمية بني وليد الاستراتيجية
إبان الحرب العالمية الثانية، أطلق رودولفو غراتسياني، الحاكم العسكري الإيطالي لليبيا، على مدينة «بني وليد» لقب «دردنيل طرابلس الغرب»، في كتابه «نحو فزان». وكان يعني بهذا أن من يريد أن يدخل إلى طرابلس عليه أن ينطلق إليها من بني وليد. وفي هذا السياق يقول الورفلي إن «غراتسياني كان صادقا في هذا التوصيف».
واشتهرت هذه المدينة بأسماء كثيرة ومهمة في تاريخ جهاد الليبيين ضد الاحتلال الإيطالي في عموم البلاد. وحاليا ينتمي إليها عسكريون متمرسون، ينظر إليهم كقوة ضاربة، من بينهم العميد يونس فرحات، وزير الدفاع الذي يعمل مع حفتر، وآمر عمليات سلاح الجو، العقيد سعد الورفلي. وقد بذلت قيادات أخرى من «بني وليد» جهودا مضنية للقضاء على المتطرفين في درنة خلال الأيام الماضية، من بينهم من ضحوا بأرواحهم، مثل العميد عبد الحميد الورفلي، بالإضافة إلى الرائد محمود الورفلي الذي حاز شهرة عالمية، وأصبح مطلوبا للمحاكمة الدولية بسبب قيامه بإعدام متهمين بالانضمام للمتطرفين في بنغازي.
ومع هذا لا يبدو أن حفتر سيتمكن من إرضاء كل القيادات الاجتماعية في قبيلة ورفلة، التي لديها علاقات تعاون وتفاهم مع قبائل أخرى، محسوبة على نظام القذافي، مثل قبيلة القذاذفة، وقبيلة المقارحة التي ينتمي إليها رئيس المخابرات العسكرية السابق عبد الله السنوسي. وحتى لو تمكن من ذلك فإن هناك من يضع العراقيل أمامه.
فقد جرت في طرابلس أكبر حركة استعداد لإطلاق سراح قيادات من النظام السابق في سجون تديرها ميليشيات موالية للسراج. ومن بين هؤلاء الساعدي، أحد أبناء القذافي، بالإضافة إلى السنوسي نفسه.
وعلى نفس الخطى لاستقطاب قيادات النظام السابق من جانب أطراف في المجلس الرئاسي، يجري الترتيب منذ بداية هذا الشهر لرفع الحراسة عن أملاك نحو عشرة من هذه القيادات، رغم أن معظم الأملاك (العقارات) ما زالت محتلة من قبل ميليشيات لا سلطان عليها في طرابلس ومدن أخرى.

عراقيل بالجملة أمام حفتر
بالتزامن مع هذه الإجراءات، تحاول قوى في طرابلس وضع أكبر قدر من العراقيل والحواجز مبكرا أمام أي تقدم لحفتر في اتجاه الغرب. وفي هذا الصدد كشف مصدر أمني أن بعض القيادات في العاصمة سعت للتواصل مع أحد كبار القيادات، التي يعتمد عليها قائد الجيش الوطني في قوات الصاعقة لاستقطابه إليها، إلا أنها لم تتمكن من تحقيق أي نتيجة. وقال موضحا: «لقد اتصلوا في بنغازي بنجله كريم، لكنهم لم ينجحوا في إقناعه».
كما جرت في الأيام التالية محاولات مماثلة مع قيادات عسكرية من قبيلة التبو، ممن يحاربون مع حفتر، بيد أنها لم تأت بأي نتائج.
أما بخصوص المحسوبين على أنصار النظام السابق، فيقول أحد قيادات قبيلة المقارحة، موضحا إذا كان يمكن الاستمرار في التحالف مع ورفلة، إذا قررت هذه الأخيرة التعاون مع حفتر: «مثل هذه الأمور السياسية لا علاقة لها بمساعينا للإفراج عن أبنائنا من السجون، أو استعادة أملاكنا المنهوبة منذ 2011».
لكن هذا لا يمنع من أن عدة جلسات عقدت لقيادات من قبائل محسوبة على القذافي، تبادلت في جلسات بمصر أخيرا قضية مساعي حفتر للتوجه غربا، ودور القبائل من دعمه، وحجم التنازلات المطلوب أن يقدمها لها، وإمكانية أن يتخذ من بني وليد نقطة انطلاق لطرابلس. ومع كل ذلك أيضا قامت بتوجيه الشكر لمن بادروا لإخلاء سبيل المسجونين.
وتتميز بني وليد بتضاريسها الوعرة، وتوجد فيها وديان وتحيط بها جبال. وقد مكث فيها القذافي لمدة يوم تقريبا أثناء انتقاله من طرابلس التي كان يقصفها حلف الناتو، إلى مسقط رأسه في سرت المجارة لـ«بني وليد» من الشرق. وقد حاولت القوات التابعة للحكام الجدد في ليبيا إخضاع المدنية مرتين: الأولى في 2011 والثانية في 2012 إلا أنها لم تتمكن من البقاء فيها، ولم تتمكن أيضا من تشكيل أي مجالس عسكرية، أو كتائب موالية لها، مثلما فعلت في عدد من المدن الأخرى.
يقول واحد من القيادات العسكرية من قبيلة ورفلة: «لقد انضم عدد كبير من أبناء القوات المسلحة من القبيلة إلى حفتر، ليس تأييدا لثورة فبراير، ولكن من أجل استعادة الدولة الليبية». مضيفا أن معظم قيادات المجلس الاجتماعي في القبيلة لا تنظر إلى حفتر بارتياح لأسباب ترتبط بتمسكه بمبادئ ثورة فبراير، وهو أمر مرفوض لدى معظم القيادات الاجتماعية في المدينة. وتابع موضحا «نحن نتمسك بالنظام الجماهيري (للقذافي)... ويمكن أن نتناقش على حلول وسط، لكن بشروط».

خصوم حفتر
يبدو أن خصوم حفتر أصبحوا يؤمنون بشكل جدي، خاصة في الأسابيع الأخيرة، بخطر أي تحالف له مع بني وليد، لا سيما بعد انتصاراته المتعاقبة في درنة. ومن هذا المنطلق حاول بعض منافسي حفتر تجييش قوات لاقتحام بني وليد مجددا خلال الشهور الماضية. إلا أن تحصينات المدينة أصبحت أكثر قوة من ذي قبل، وفقا لما أفاد به تقرير جرى رفعه لأطراف في المجلس الرئاسي في طرابلس مؤخرا.
ويقول مسؤول أمني، تحفظ على ذكر اسمه، إنه «جرى رفع عدد من التقارير حول الوضع العسكري والسياسي لمدينة بني وليد» إلى جهات، يفترض أنها تسعى لبسط الاستقرار في ليبيا، موضحا أن هذه التقارير تضمنت شكاوى من أن المدينة فيها «أزلام (أي أنصار النظام السابق)»، وأن بعض التقارير اتهمت بني وليد، بعد ذلك، بإيواء مجاميع من تنظيم داعش، في محاولة لإقناع الجهات الدولية بتوجيه غارات جوية على مواقع مهمة في المدينة.
ووفقا لمصدر عسكري في طرابلس، فإن بعض قادة المجلس الرئاسي، ممن أطلقوا عملية «عاصفة الوطن» ضد «داعش» مطلع أبريل (نيسان) الماضي، يأملون في تعاون أميركا لقصف مواقع في النطاق الجغرافي للعملية، مثلما جرى من الجانب الأميركي أثناء عملية «البنيان المرصوص»، التي أسفرت عن دحر تنظيم داعش في سرت أواخر 2016.
ويضم نطاق عملية «عاصفة الوطن» كلا من «بني وليد» و«ترهونة»، و«مسلاتة» و«الخمس» و«زليتن». لكن المصدر أضاف أن «التركيز الأكبر ينصب في الوقت الراهن، على بني وليد».
وبحسب المصدر نفسه، فإنه «في إطار هذا الاهتمام، طلب الجانب الأميركي معلومات تفصيلية عن مدينة بني وليد ومحيطها». وقال موضحا: «تلقينا طلبا من قوات أفريكوم (القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا) مطلع هذا الشهر لتزويدها بكل شيء عن بني وليد، ونحن لدينا تعاون مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب».
وعما إذا كان المجلس الرئاسي يمتلك ما يثبت وجود «إرهابيين» في بني وليد، أضاف المصدر ذاته «نعم يوجد تنظيم داعش هناك. والقوات الأميركية ضربت مجموعة تابعة للتنظيم قبل أيام».
من جهته، قال مستشار أمني في طرابلس، إن «التقرير، الذي جرى رفعه إلى الجانب الأميركي عن بني وليد، يشير إلى أن المدينة أصبحت تحوي عناصر لتنظيم داعش... وهذا يعطي ذريعة للولايات المتحدة لقصف المدينة في أي وقت، وإذا ما عارضتها الدول الكبرى، فإنها ستقدم التقرير الذي تلقته من الجانب الليبي. المعلومات التي لدينا تقول إن العسكريين في (أفريكوم) رفضوا التعامل مع أي تقارير شفهية، وأصروا على أن يكون التقرير الليبي مثل طلب رسمي بالتدخل لمحاربة الإرهاب في المدينة. أعتقد أنهم سيدرسون جدية الأمر قبل أي تدخل. فهم لا يعملون اعتباطا».
وزاد المستشار موضحا: توجد عملية عسكرية ليبية جاهزة بالفعل لتلقي أي مساعدات لوجيستية من الولايات المتحدة، أو غيرها لمحاربة الإرهاب، وهي عملية «عاصفة الوطن» لمحاربة تنظيم داعش في الصحراء الليبية، ومن بينها مدينة «بني وليد». مبرزا أن هناك فقرة وردت في أحد التقارير المرفوعة لأفريكوم تقول إن عملية «عاصفة الوطن» لا تستطيع وحدها اجتثاث «داعش» من هذه المدينة تحديدا.
ومنذ مقتل القذافي وحتى اليوم، باتت مدينة بني وليد تمثل مشكلة للحكام في طرابلس. وينظرون إليها كتهديد محتمل، كونها لم تخضع للسلطات الجديدة منذ ذلك الوقت. ويقول مثل شهير في بني وليد إنه «من السهل لأي قوات اقتحامها. لكن من الصعب البقاء فيها». ويوضح الدكتور الورفلي ذلك بقوله: «أعتقد أن المشكلة تكمن في أنه من السهل لأي ميليشيا، سواء من طرابلس أو من مصراتة أو غيرها، اقتحام المدينة. لكن من الصعب البقاء فيها أكثر من ساعتين أو ثلاثة... فقد أصبح أبناء المدينة أكثر قدرة على التعامل مع أي قوة غازية. وهذا لم يحدث في الماضي، ولن يحدث اليوم. شباب المدينة أصبحوا من المقاتلين الذين اعتادوا على حرب الشوارع، وأخذوا دروسا عملية كبيرة مما حدث في الماضي».
وبسؤاله عما إذا كان هناك وجود لتنظيم داعش في بني وليد، قال الدكتور الورفلي: «تنظيميا لا يوجد، لكن هناك أفراد من (داعش) يعودون لقبائلهم. فبني وليد مجتمع قبلي. وإذا جاءك ابن عمك، مثلا، فإنه لا يمكن أن تقول له: لا... أنت من (داعش)، أو من (الإخوان)، ارحل من هنا. أو تقول له: لا... لا تقعد في بيتك. الناس يقبلون بهم. أنا لا أنفي وجودهم كأشخاص، وربما كان هناك عدد مهم منهم. لكنهم ليسوا منظمين كتنظيم. أعتقد أن الموضوع يتعلق بالشكل الاجتماعي، وبالشكل القبلي؛ أي أن الأرض ضاقت عليهم بما رحبت، فعادوا إلى قبائلهم وإلى عائلاتهم، لا أكثر ولا أقل. وليس لهم نشاط على الإطلاق».
في السادس من الشهر الجاري أعلنت «أفريكوم»، أنها شنت غارة جوية دقيقة استهدفت مسلحين تابعين لتنظيم داعش قرب بني وليد، مبرزة أن الغارة جرت بالتنسيق مع حكومة الوفاق، وأسفرت عن مقتل أربعة من «داعش». فيما قالت مصادر محلية في المدينة إن من قتلوا في القصف هم عبد العاطي إشتيوي أبو ستة، وهو قيادي في «داعش»، وثلاثة من مرافقيه، هم معتوق سعد ميلاد، ومحمد ونيس أبو ستة، وسليم الدروعي، حينما كانوا في سيارة واحدة في وادٍ غرب منطقة أشميخ.
يقول الدكتور الورفلي: «أعرف هؤلاء الأربعة بشكل شخصي... وقد ماتوا بالفعل في غارة (أفريكوم)». وقرية أشميخ التي كانوا فيها تقع في منطقة زراعات، جنوب «بني وليد» بنحو 40 كيلومترا. مبرزا أن عبد العاطي معروف بأنه «داعشي». أما الآخرون فهم مجرد أقارب له من الجانب القبلي، ولا يعتنقون الفكر «الداعشي»، كما أوضح أن عبد العاطي من سكان مدينة سرت. لكن بعد أن اقتحمت قوات «البنيان المرصوص» سرت، جاء هو وأسرته إلى «بني وليد».
ويتابع الدكتور الورفلي موضحا «لقد جاء إلى قبيلته... وفي ذلك اليوم كان الأربعة متجهين لمزرعة أبو ستة في أشميخ. عبد العاطي كان مرصودا. والمعلومات وصلت لأفريكوم من الأرض (أي من المنطقة)».
من جهته، قال المجلس البلدي لمدينة «بني وليد»، بشكل رسمي، إن الثلاثة الذين قتلوا مع عبد العاطي، لا ينتمون لأي تنظيم إرهابي. بينما أعلن المكتب الإعلامي لـ«أفريكوم»، في إيجاز صحافي أن الضربة الجوية كانت بتنسيق مع حكومة الوفاق، وأنهم غير متأكدين من أن القصف أسفر عن سقوط ضحايا مدنيين.
وعن سبب الاهتمام الأخير من جانب أطراف في المجلس الرئاسي وقوات «أفريكوم» بمدينة بني وليد، وعما إذا كان هذا الاهتمام يرجع إلى الخوف من أنها تضم أنصارا للنظام السابق، أم الخوف من أن يستوطن فيها دواعش؟ قال الدكتور الورفلي: «لا شك أن البعض يخشى من وجود قوي لأنصار النظام السابق في المدينة. فحتى الآن معروف عن بني وليد أنها لم ترفع علم فبراير (ذا الألوان الثلاثة)، وإلى الآن لم تشكل فيها مجالس عسكرية، ولا يوجد فيها كتائب ولا ميليشيات، مثل تلك التي ظهرت منذ 2011 في كثير المدن الأخرى». مضيفا أن «بني وليد» ما زالت حتى الآن ترفع العلم الأخضر (للنظام السابق)، وترفع صور العقيد معمر القذافي. وتخرج أحيانا في مظاهرات ومسيرات تأييدا لليمن أو سوريا أو غيرها، حيث تتفاعل مع الأحداث في العالم العربي. أضف إلى ذلك أن المدينة تعد عاصمة لقبائل ورفلة المنتشرة على كل مساحات ليبيا، من طبرق شرقا إلى حدود تونس غربا.
وعما إذا كان بإمكان الجيش بقيادة المشير حفتر أن يتعاون مع بني وليد وقبائل ورفلة، أو أن يقوم بعمل تمركزات في المدينة استعدادا للانطلاق نحو باقي ليبيا، خاصة الغرب كما يرجح البعض، أوضح الدكتور الورفلي أن هناك إشكالية بين قيادة الجيش، تتمثل في المشير حفتر، وقبائل ورفلة، وذلك بسبب حديث سابق أطلقه المشير على أبناء بني وليد، حينما وصفهم أثناء أحداث 2011 بأنهم مرتزقة بسبب مقاومتهم لمن انضموا للثورة على القذافي. و«هذا الإشكال ما زال قائما. وهو يدور حول تسجيل فيديو يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي، ويبث في بعض القنوات الفضائية التي هي ضد خليفة حفتر. ويرجع تاريخ الفيديو إلى أيام محاصرة بني وليد من كل الجهات، حيث استمرت في المقاومة حتى النهاية، وحينها قالت عنها وسائل الإعلام في ذلك الوقت إنها (تستعصي على الثوار)».
ويضيف الورفلي مبرزا أن «الفيديو ظهر في تلك الفترة، وفيه يقول حفتر إن من يدافع عن بني وليد جرى جلبهم من أفريقيا وآسيا. وهذا ما اعتبره الناس هنا مساسا بكرامتهم، واعتداء على تاريخ ورفلة، وعلى بطولات ورفلة. وهذا الموضوع ما زال شائكا. فلا حفتر قام بتبرير ما ورد على لسانه في هذا الشريط، ولا قدم لهم اعتذارا بأنه كان تحت تأثير حملة إعلامية وقتها، وأنه لم يكن هناك مرتزقة في المدينة، ولا يحزنون».
وما زال الفيديو موجودا على موقع «اليوتيوب» حتى الآن. وفي هذا الصدد يقول القيادي في مؤتمر القبائل الليبية: «هذا الفيديو وما ورد فيه ما زال يتسبب في نوع من الجفاء ما بين ورفلة والمشير حفتر حتى الساعة. ومن يسعون للوقيعة بين ورفلة وبين الجيش يركزون على هذا الموضوع، وكلما تحدث ورفلي بشكل طيب عن حفتر، يرد عليه من يريدون التفريق بينهما، بالقول: هل نسيت أنه قال كذا وكذا، في إشارة إلى ما ورد في ذلك الفيديو».
لكن الدكتور الورفلي يوضح أن هذا الموقف من حفتر يقتصر إلى حد كبير على الجانب الشعبي فقط، وهو أمر يختلف عما يتعلق بموقف العسكريين من أبناء القبيلة، ويقول حول هذه النقطة تحديدا: «الوضع مختلف على مستوى الضباط، فهم منخرطون في عملية الكرامة (التابعة للجيش)، وعددهم غير قليل، ويشغلون مراكز حساسة، وبعضهم في قيادة الجيش. أما في المستقبل فلا أحد يعلم ما سيقع من أحداث».



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».