«غرانيتة مهدي» حكاية أول مثلجات بنكهة الليمون في الإسكندرية

فاروق وعبد الناصر والسادات من زبائنه

حفيد مهدي يقدم الغرانيتة
حفيد مهدي يقدم الغرانيتة
TT

«غرانيتة مهدي» حكاية أول مثلجات بنكهة الليمون في الإسكندرية

حفيد مهدي يقدم الغرانيتة
حفيد مهدي يقدم الغرانيتة

لم يتعرّف عم مهدي، صاحب كشك «الدندورما» أو المثلّجات، على صاحب الوجه البيضاوي، والجسد الضخم الذي ترجل من سيارته البيضاء النادرة، ليخترق الزّحام حول الكشك الخشبي الصغير على شاطئ «جليم»، أو «جليموا نوبلو»، كما كان يطلق عليه في بدايات القرن الماضي، تيمُّناً بصاحب أول بيت شُيِّد في المنطقة.
لبّى العم مهدي طلب الشّاب الثّري من مثلجات الـ«غرانيتة» بنكهة الليمون التي اشتهر بها، وتأمّل الجنيه الورقي الذي منحه إياه بدهشة، فهو يفوق ثمن الـ«غرانيتة» مئات المرّات بقيمة الجنية المصري في ذلك الزمان.
صاحب الوجه البيضاوي لم يلتفت لحيرة العم مهدي، بينما صفّق له الملتفون حول كشك «الدندورما»، محيِّين ولي العهد، وهمس أحدهم رداً على تساؤلات العم عن الزبون الكريم قائلاً: «كيف لا تعرفه، إنّه الأمير فاروق».
الواقعة السابقة واحدة من عشرات الحكايات التي صنعت شهرة «غرانيتة مهدي»، أحد أقدم المحلّات التجارية في منطقة جليم، في الإسكندرية. وفقاً لمطبوعات صادرة عن مكتبة الإسكندرية، فقد حصل المحل على رخصة تجارية خلال ثلاثينات القرن الماضي، عندما كان شاطئ جليم يمتدّ إلى طريق الحرية، ولا يسكنه سوى الأثرياء، متحصنين في قصورهم المترفة.
المحل الذي لا يزال قائماً حتى يومنا هذا، تديره عائلة مهدي، عن طريق حفيده الأكبر محمد مهدي، الذي يحفظ سيرة جده عن ظهر قلب، منذ جاء سيراً على الأقدام من محافظة سوهاج إلى الإسكندرية، وكان شاباً فقيراً، وبقي فيها حتى وفاته، كواحد من أشهر أصحاب الأعمال بالإسكندرية، كما يحتفظ حفيده محمد بديكور المحل القديم، خصوصاً السقف المميز، ذا الأحرف اللاتينية البارزة.
يقول محمد مهدي إنّ شهرة جدّه لا تقتصر فقط على استمرار محله كواحد من أقدم محالّ المثلجات في الإسكندرية، أو «الدندورما» كما كانت تُعرف وقتها، ولكن أيضاً لإدخاله الـ«غرانيتة» بنكهة الليمون للمرة الأولى، وهي عبارة عن عصير ليمون وسكر وثلج مجروش من دون إضافة الجيلاتين أو اللبن، كما في حال صناعة المثلجات التقليدية.
وخلال بدايات القرن الماضي كانت صناعة المثلجات صناعة يدوية تحتاج إلى حرفة ومهارة، وكانت آلة المثلجات عبارة عن برميل خشبي كبير، في داخلة إناء من النّحاس، توضع حوله طبقات من الثلج مع الملح الخشن، ويدار الإناء النحاسي يدوياً لساعات، بعد وضع مكونات المثلجات به.
يضيف الحفيد محمد مهدي، أنّه عقب اتّساع شهرة العم مهدي ومثلجاته المبتكرة، انتقل من الكشك الخشبي إلى محل في نفس المنطقة، لكنّه كان بعيداً قليلاً عن الشاطئ، وهو ما لم يرضِ الرجل الصعيدي الذي تعلّق قلبه ببحر الإسكندرية.
كان يضع أكواب المثلجات على صينية خشبية، ويذهب إلى الشاطئ لبيع المثلجات بنفسه، أو يوكل تلك المهمة إلى ابنه الأكبر، والد محمد. وكان يحرص على عمل كل شيء بنفسه حتى بعد شهرته واتساع رزقه، كان ينظف المحل من دون الاستعانة بأحد، وكانت شهور العمل تقتصر على الصّيف فقط، وخلال الشّتاء كان يفتح المحل لجلسات السّمر مع الأصدقاء.
جدران «غرانيتة مهدي» لا تزال تحمل آراء محبيه الذين دوّنوا كلمه أو اثنتين بعفوية، وكان من أشهرهم الملحن محمد سلطان، كما جرت محاكاة للمحل في استديوهات التصوير الخاصة بالفيلم الشهير «آيس كريم في جليم» الذي عُرض خلال التسعينات من القرن الماضي، من بطولة المطرب عمرو دياب.
الرئيس الراحل محمد أنور السادات سبقت له زيارة المحل، فقد توقفت سيارته أمام «غرانيتة مهدي» ذات يوم، ونزل منها السادات من دون حرّاسه، فاستقبله العم مهدي وأحضر له المثلّجات بنفسه، كما يؤكد حفيده محمد الذي كان موجوداً وقتها في المحل وكان طفلاً دون الخامسة.
كذلك الرئيس الرّاحل جمال عبد الناصر كان أيضاً من زبائن المحل الذي بات يحمل ذكريات أجيال من المصيفين ورواد شاطئ جليم، حتى بعد تراجع شهرته مقابل محلّات المثلّجات المتنوعة التي تستخدم آلات ونكهات حديثة، وإضافات أكثر جذباً.
يقول محمد مهدي: إنّ «روّاد المحل من كبار السّن، يقصدون المكان كنوع من الحنين إلى الماضي». ويضيف، أنّه رأى رجلاً في نهاية الثمانينات من عمره، حضر مستنداً إلى حفيده منذ بضع سنوات، لرؤية المحل، وتناول غرانيتة الليمون. ويذكر أنّ الرجل المسن الذي كان في منصب رفيع بالسلك القضائي، حكى له يومها عن علاقته بجده الذي صادقه بعد أن تعرّف على زوجته الرّاحلة وحبّ عمره، في أثناء تناوله المثلجات إلى جانب الكشك الخشبي القديم، في نهاية الأربعينات من القرن الماضي، حين كانت مثلجات مهدي مكان التنزه الوحيد في منطقة جليم.


مقالات ذات صلة

وزيرة سويدية تعاني «رهاب الموز»... وموظفوها يفحصون خلو الغرف من الفاكهة

يوميات الشرق رهاب الموز قد يسبب أعراضاً خطيرة مثل القلق والغثيان (رويترز)

وزيرة سويدية تعاني «رهاب الموز»... وموظفوها يفحصون خلو الغرف من الفاكهة

كشفت تقارير أن رهاب وزيرة سويدية من الموز دفع المسؤولين إلى الإصرار على أن تكون الغرف خالية من الفاكهة قبل أي اجتماع أو زيارة.

«الشرق الأوسط» (ستوكهولم)
صحتك رجل يشتري الطعام في إحدى الأسواق الشعبية في بانكوك (إ.ب.أ)

دراسة: 3 خلايا عصبية فقط قد تدفعك إلى تناول الطعام

اكتشف باحثون أميركيون دائرة دماغية بسيطة بشكل مذهل تتكوّن من ثلاثة أنواع فقط من الخلايا العصبية تتحكم في حركات المضغ لدى الفئران.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق خبراء ينصحون بتجنب الوجبات المالحة والدهنية في مبنى المطار (رويترز)

حتى في الدرجة الأولى... لماذا يجب عليك الامتناع عن تناول الطعام على متن الطائرات؟

كشف مدرب لياقة بدنية مؤخراً أنه لا يتناول الطعام مطلقاً على متن الطائرات، حتى إذا جلس في قسم الدرجة الأولى.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق قطع من الجبن عُثر عليها ملفوفة حول رقبة امرأة (معهد الآثار الثقافية في شينغيانغ)

الأقدم في العالم... باحثون يكتشفون جبناً يعود إلى 3600 عام في مقبرة صينية

اكتشف العلماء أخيراً أقدم قطعة جبن في العالم، وُجدت ملقاة حول رقبة مومياء.

«الشرق الأوسط» (بكين)
يوميات الشرق التفوُّق هو الأثر أيضاً (أ.ف.ب)

الشيف دانييل هوم... أرقى الأطباق قد تكون حليفة في حماية كوكبنا

دانييل هوم أكثر من مجرّد كونه واحداً من أكثر الطهاة الموهوبين في العالم، فهو أيضاً من المدافعين المتحمّسين عن التغذية المستدامة، وراهن بمسيرته على معتقداته.

«الشرق الأوسط» (باريس)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».