عن «الرسالة» ومخرجه حكايات كثيرة

ابتعد مصطفى العقاد عن فخاخ القذافي وانتقده مثقفون

مصطفى العقاد بين أنطوني كوين وعبد الله غيث بطلي «الرسالة»
مصطفى العقاد بين أنطوني كوين وعبد الله غيث بطلي «الرسالة»
TT

عن «الرسالة» ومخرجه حكايات كثيرة

مصطفى العقاد بين أنطوني كوين وعبد الله غيث بطلي «الرسالة»
مصطفى العقاد بين أنطوني كوين وعبد الله غيث بطلي «الرسالة»

قرار السلطات السعودية السماح بعرض فيلم «الرسالة» بعد 40 سنة على منعه، يأتي في الوقت المناسب ضمن الحركة الجادة والنشطة لبلورة مجتمع سعودي جديد ومتقدّم يمتلك جدية السعي للانتقال قُدماً في مجالات كثيرة من بينها مجالات الفن والثقافة وقضاياهما المتعددة.
«الرسالة» للمخرج الراحل مصطفى العقاد يحمل في طياته محاولة جسورة لتقديم أول عمل تاريخي ملحمي برؤية إنتاجية عالمية لولادة الإسلام ونشأته. وكان الاعتراض الذي ارتفع ما إن بدأ العقاد تصوير الفيلم في المغرب سنة 1975 هو أن الفيلم يخالف الشريعة الإسلامية بصرف النظر عن فحواه وهذا كاف للمطالبة بإيقاف العمل عليه وإن لم يكن فمنعه.
- فيلم كاوبوي
لكن هناك الكثير من المسائل التي شابت قضية هذا الفيلم الذي عرض عالمياً ومُنع من العرض في معظم الدول العربية إلى أن بدأت قرصنته (غالباً) على شاشات المحطات التلفزيونية منذ عدة سنوات.
يمكن هنا أن نبدأ من نقطة متأخرة من الحكاية. نقطة تشمل في الواقع الفيلم الآخر للمخرج مصطفى العقاد تمهيداً للانتقال مجدداً صوب «الرسالة».
قبل عشرة أعوام خطر للرئيس معمّر القذافي أن يكتب قصّة سينمائية حول الاحتلال الإيطالي لليبيا. ووضع بالفعل الفكرة وتحمس لها. استدعى بعد حين المخرج السوري نجدت أنزور، وطلب منه أن يكتب عن فكرته سيناريو لتحقيق الفيلم الجديد.
في لقائه الأول أبدى المخرج أنزور استغرابه وسأل القذافي عن السبب في رغبته تحقيق ذلك الفيلم، وهو الذي كان موّل فيلم مصطفى العقاد «أسد الصحراء» الذي دار حول الموضوع نفسه. فكان جواب القذافي له هو أن «أسد الصحراء» كان فيلم «كاوبوي».
انطلق أنزور متسلحاً بنحو 50 مليون دولار وأنجز مقدّمة دعائية مصوّرة من نحو ربع ساعة كتمهيد للعمل. الأرجح أنها كانت تمهيداً لإقناع القذافي بأن أنزور يستطيع تحقيق المشروع المذكور فعلاً. لكن العمل على هذا الفيلم توقف فجأة إذ دخل على خطه المنتج التونسي طارق بن عمّار وأقنع القذافي، حسب روايات، بعدم تحقيق الفيلم واعداً إياه بالحصول على تعويض مادي لورثة ضحايا الاحتلال الإيطالي.
- تسييس
مصطفى العقاد لم يكن رجل مقايضات. كانت له أحلامه المادية بالطبع لكن من خلال السينما التي أحبها منتجاً ومخرجاً وعلى الغرار الدولي الذي نما عليه. ذلك الغرار المتمثل في أفلام ديفيد لين وجون هيوستون وسيسيل ب. ديميل. لم يسع لاتفاقات جانبية لتعزيز مكانته وفضل العودة إلى هوليوود منتجاً لأفلام لا علاقة لها بالإسلام وبالعرب على أن يقبل بتنازلات واجهها في محطات مختلفة.
كان ترك حلب في أواخر الستينات بعد وقوعه في حب السينما. قال لي ذات مرّة: «تسلحت بـ300 دولار وبمصحف أعطاني إياه والدي. وهذا كل ما كان معي عندما وصلت إلى هوليوود».
هوليوود حينها كانت لا تزال منازل ومؤسسات مزروعة وسط البراري وهو شق طريقه مساعداً في حلقات «الفرد هيتشكوك يقدم» وفي مسلسلات أخرى قام بإخراجها سينمائي مشهود آخر هو سام بكنباه.
عندما وصل إلى بيروت للإعلان عن فيلمه الأول «الرسالة» كان ذلك في فترة حاسمة من حياة الفيلم وصاحبه. كان المغرب أوقف تصوير الفيلم فاتجه العقاد إلى القذافي لإنقاذ المشروع من الاندثار. ووافق على أن يتم التصوير في ليبيا ضمن الميزانية التي رسمها المخرج الأميركي - السوري.
لم يكن في تصوّر العقاد أن الفيلم سيجد ممانعة رسمية عربية شاملة على هذا النحو: «في اعتقادي أنني لو صوّرته في المغرب لما شهد كل هذه الضجة التي أثيرت حوله». على ذلك، أطلق المخرج فيلمه هذا في عروض أميركية وأوروبية وآسيوية بنجاحات غير مسبوقة لفيلم ناطق بالعربية من قبل.
هذا ما عزَّز انتقاله إلى الفيلم الآخر الذي تم تصويره في ليبيا - القذافي وهو «أسد الصحراء» أو «عمر المختار». هذه المرّة حاول القذافي التدخل لتسييس الفيلم متسائلاً عن تلك النهاية التي لم تعجبه. قال للعقاد إثر عرض الفيلم إنه لم يفهم المشهد الأخير الذي يلتقط فيه صبي من تلامذة عمر المختار النظارة الطبية التي سقطت على الأرض عندما تم تنفيذ حكم الإعدام شنقاً بعمر المختار. قال له العقاد: «النظارة هي رمز العلم والقراءة. يعني المشهد أنه بالعلم والثقافة فقط نستطيع النجاح في شق الطريق أمام مستقبل أفضل. النظارة بالتالي هي رمز».
لم يبدُ على القذافي كثير من الاقتناع، ولو أنه سمح بعرض الفيلم متوخياً نقل قضية ليبية وطنية ضد الاستعمار الإيطالي إلى العالم. وفعل الفيلم ذلك بلا ريب ما دفع القذافي للطلب من العقاد أن ينجز فيلماً عن حياته هو.
لم يوافق العقاد على ذلك منتبهاً إلى الشرك الذي سيقع فيه إذا ما فعل. قال له: «أنا إنسان عربي تهمني القضايا العربية والإسلامية من دون تحبيذ. ليس في نيتي تحقيق فيلم عن زعيم أو سياسي منفرد، لأن هذا لن يكون مقبولاً لا مني ولا من النقاد. سيرون أنني تنازلت».
كان ذلك آخر مشهد في العلاقة بين الاثنين وتكشف أن العملية، بالنسبة للعقاد، لم تكن مقايضة ربحية تعتمد العلاقات الخاصة، كما الحال مع رغبة العقيد تحقيق فيلم ابتزاز باسم ضحايا الاحتلال الإيطالي، بل سبر غور مشاريع سينمائية فعلية تتضمن استوديوهات وأفلاماً كبيرة أخرى.
- نقد مثقفين
في «الرسالة» مارس العقاد مفهوم السينما الهوليوودية (ثم مارسه أيضاً في «عمر المختار») ليس بسبب تحقيقه فيلماً مزدوج اللغة (ما يجعله فيلمين وليس فيلماً واحداً في الواقع) ولا حتى بسبب إتيانه بممثلين أجانب مشهود لهم بالكفاءة مثل إرين باباس وأنطوني كوين ومايكل أنساره (سوري من جيل أسبق) بل بسبب أسلوب عمله منتجاً ومخرجاً. كلتا الناحيتين تمّت بالوسيلة ذاتها التي كان سيسيل ب. دميل وسواه يحققون أفلامهم التاريخية - الدينية. لكن الموضوع كان إسلامياً ناصعاً يدور حول حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة من التاريخ عندما دعا قريش ومحيطها إلى الإسلام، وما صاحب ذلك من مكائد على حياته ومعارك شكلت، كما في أفلام الملاحم التاريخية، نقطة جذب خصوصاً وأنها (بفضل مدير التصوير البريطاني جاك هيلديارد) أحسنت استخدام الصحراء كما لم يفعل مخرج عربي من قبل وكما لم يفعل سوى القلة من المخرجين الأجانب أيضاً.
لكن الفيلم لا يخلو من مشكلات ناتجة عن صعوبة سرد حكاية بطلها غائب عن الشاشة. صحيح أن هذا لم يمنع المخرج من إيجاد وسيلة ولم يمنع كذلك من إقبال المشاهدين الأجانب على الفيلم وجلهم يحملون أسئلة حول السبب في تغييب صورة النبي الكريم.
ما لم يُروَ عن الفيلم وصاحبه منذ ذلك الحين هو أن جل المثقفين والسينمائيين العرب ناهضوه. نقاد السينما، في غالبيتهم، انتقد العمل برمّته، شكلاً وأسلوباً ومحتوى. لكن هذه الممانعة (التي لم تشكل مصدر قلق للمخرج) لم تكترث للناحية الدينية كما فعلت المعارضات الدينية والرسمية حينها، بل كان لها سبب كبير آخر.
في تلك الأيام، كان السينمائيون العرب يرون أنه من الخيانة الكبرى التماثل، سينمائياً، مع منتجات فيلمية هوليوودية. قراءات سياسية كثيرة سطت على كيفية الحكم على الأفلام الجيدة الآتية من هوليوود. لم يكترث النقاد للغة السينما ولا لفن الفيلم ولا لأسلوب المخرج الأميركي بل وُصف كل ذلك بأنه «أداة إمبريالية للسيطرة على العالم» وأن الفيلم الجيد (والوحيد) هو الذي «ينتقد الرجعية الأميركية» إلى آخر ذلك الكلام المسيّس والقائم على أفكار مشوّهة. وهذا النقد طال «الرسالة» (ولاحقاً «عمر المختار») والمخرج على أساس أن إنجاز أفلام عربية تماثل ما ينتجه الغرب هو أقرب إلى خيانة لآمال وطموحات السينمات الشبابية الواعدة والمغايرة في العالم العربي.
الكثير من أهم مخرجينا المعروفين، مثل محمد ملص ويوسف شاهين، انضموا أيضاً إلى هذا الموقف ولو لسبب مختلف. المخرج السوري ملص، الذي حقق أفلاماً بديعة، رأى أن فيلمي العقاد هما وسيلة ربحية في المقام الأول لا يمكن لها أن تأتي بخير على السينما العربية. لم يأتِ هذا النقد متشنجاً كما فعل آخرون، لكنه كان قريباً من آرائهم.
بالنسبة ليوسف شاهين فإن المعيار كان مختلفاً. المخرج المصري كان أمّ أفلاماً تاريخية عدّة في حياته لم تشهد أيّاً من النجاح التجاري الذي حققه العقاد عالمياً. والرواية السائدة أن شاهين استخفَّ بقدرات العقاد فبادره ذاك بالمثل.
حسب مصطفى العقاد: «لم أدَّعِ مطلقاً أنني سينمائي محلي. أفلامي ليست عربية بل عالمية وهذا ما لا يريد الآخرون الاعتراف به».
- سعي جديد
ابنه مالك العقاد الذي ورث مملكة أبيه السينمائية (في حين انصرف أولاده الآخرون إلى أعمال مختلفة بعيدة عن السينما) هو الذي وقف وراء ترميم الفيلم بعد 40 سنة على إنتاجه. وهو يقول: «في اعتقادي أن الفيلم ثروة تاريخية للسينما ولوالدي والأولى بي أن أحافظ عليها وأعمل على إعادة تقديمها، خصوصاً في الوقت الحالي الذي يبحث فيه العالم الدين الإسلامي إما لسبر غور حقيقته أو للنيل منه». أنجز مالك العقاد فيلماً مصاحباً لـ«الرسالة»: تسجيلي طويل من المقابلات مع عدد من الذين رافقوا العمل على الفيلم أو تابعوه: «والدي شق طريقه قبل سواه. بذلك أعتقد أنه كان سباقاً لعصره ولو أنه من الصحيح القول إنه جاء في الوقت المناسب. فيلمي عن تصوير (الرسالة) تحية له كما أنه استكشاف لحكايات كثيرة صاحبت تصويره».
مالك، الذي يكمل سلسلة أفلام «هالووين» التي بدأها والده الراحل بفيلم جديد انتهى تصويره قبل أيام، واجه الكثير من التفاصيل التقنية الصعبة وقت الترميم، لكن ما كان أكثر صعوبة تجاوز معارضات المراجع الدينية السابقة التي سدت الطريق أمام عروض الفيلم التجارية في العالم العربي.
العروض السعودية المرتقبة للفيلم الآن يجب أن يُنظر إليها من زاوية أنها تأتي أيضاً في الوقت الصحيح لتبني عمل قدّم الإسلام برؤية عالمية مختلفة عن أفلام صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وسواهما من المخرجين الذين أمّوا الفيلم الديني والتاريخي العربي (بعض أفلامهم جيدة بدورها). ذلك لأن الإسلام يمر بمرحلة خطرة بسبب ما تسببت به الأطراف المتشددة منذ الثمانينات وحتى نشأة القاعدة والمنظمات المسلحة وما صاحب كل ذلك من عمليات إرهابية في أكثر من موقع حول العالم. الخطوة السعودية الشجاعة لها، بذلك، انعكاس عالمي من إذ إن الفيلم سيجد في السعودية بيتاً جميلاً يعزز من قيمته ويكمل إيصال رسالته.


مقالات ذات صلة

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)