صحافة مصر الرياضية... أسسها جهينة و«شذّبها» المستكاوي ثم هددتها التكنولوجيا

اعتمدت في بداياتها على شرح التفاصيل ثم اتخذت منحى التحليل

كانت صياغة الأخبار الرياضية مختلفة إلى حد كبير عن المعروف الآن
كانت صياغة الأخبار الرياضية مختلفة إلى حد كبير عن المعروف الآن
TT

صحافة مصر الرياضية... أسسها جهينة و«شذّبها» المستكاوي ثم هددتها التكنولوجيا

كانت صياغة الأخبار الرياضية مختلفة إلى حد كبير عن المعروف الآن
كانت صياغة الأخبار الرياضية مختلفة إلى حد كبير عن المعروف الآن

«عقب المباراة دخل اللاعبون إلى غرفة الملابس لأخذ حمام ساخن للاغتسال ‏والراحة»، تفاصيل للأحداث الرياضية حرصت الصفحات الرياضية بالجرائد المصرية أن تغطيها عند انطلاقها في بدايات القرن العشرين، وسط غياب وسائل الإعلام الأخرى مثل الراديو والتلفزيون، والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي - مؤخراً.
ومع الوقت، تطورت الصحافة الرياضية وأدخلت عليها بعض الصياغات الأدبية، ثم التحليلات لمواكبة التطور الحادث في صناعة الإعلام، إلا أنها لم تستطع مواجهة التطور الإلكتروني السريع، وأصبح وجودها، كباقي الفنون الصحافية، مهدداً من قبل مواقع التواصل الاجتماعي.
بدأت الصحافة الرياضية في مصر في بدايات القرن العشرين، وهناك من يمنح الفضل لجريدة «الأهرام» المصرية في نشأتها وتطورها، بينما يؤكد آخرون أنها بدأت قبل ذلك عبر صحافة متخصصة في بعض الرياضات الفردية، مثل الفروسية والملاكمة، إضافة إلى مجلات الأندية، حيث عرفت مصر الألعاب الرياضية مع دخول الإنجليز مصر عام 1882، وتم تأسيس أول فريق مصري لكرة القدم عام 1895.
يقول الناقد والصحافي الرياضي خالد توحيد لـ«الشرق الأوسط»: إنه «على غير الشائع والمعروف، فإن الصحافة الرياضية في مصر لم تبدأ في منتصف القرن العشرين، في جريدة (الأهرام)، بل بدأت قبل ذلك بكثير، حيث شهدت مصر صحافة رياضية متخصصة في الألعاب الفردية، فكانت هناك مجلة لسباقات الخيل، اسمها (السباق)، وكان هناك مجلات متخصصة في رياضة الملاكمة، وأخرى على مستوى الأندية»، مشيراً إلى أن «النادي الأهلي أصدر عام 1933 العدد الأول من النشرة الشهرية التي كانت توزع على أعضاء النادي».
بينما يرجع الكاتب الصحافي والناقد الرياضي حسن المستكاوي، الفضل في بداية الصحافة الرياضية في مصر إلى جريدة «الأهرام»، ويقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «(الأهرام) هي أول صحيفة عربية تخصص مساحة للرياضة، حيث خصصت زاوية يومية في الصفحة الثانية تحت عنوان (الصحافة الرياضية) بدأتها في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1922».
ورغم أن «الأهرام» هي من بدأت الاهتمام بها، فإنها كانت معارضة للرياضة في بداياتها واعتبرتها «بدعة إنجليزية»، ويقول المستكاوي إن «(الأهرام) نشرت في عددها الصادر يوم 26 يناير (كانون الثاني) عام 1898 مقالاً تحت عنوان (رياضة الأبدان ورياضة الأذهان)، اعتبرت فيه الرياضة (بدعة إنجليزية، ينشرها الاحتلال لتغيير طبائع الشعب)».
استمر هجوم الصحافة المصرية على الرياضة فترة طويلة حتى بدايات القرن العشرين. ويرجع الفضل في إنشاء مساحة للصحافة الرياضية في جريدة «الأهرام» إلى الصحافي الرياضي إبراهيم علام، الشهير باسم «جهينة»، حيث كتب في الصفحة الأولى بعدد جريدة «الأهرام» الصادر يوم 2 نوفمبر 1922، تحت عنوان «الرياضة البدنية والصحافة المصرية، يناشد الصحيفة تخصيص مساحة ثابتة للرياضة، وبالفعل وافق رئيس التحرير على طلبه، وبدأ علام زاوية «الألعاب الرياضية»، وكان يوقع فيها مستخدماً اسم «جهينة».
ويقول المستكاوي، إن «علام، الذي كان موظفاً في وزارة العدل، يعد رائد النقد الرياضي في مصر»، مشيراً إلى أن «الأخبار الرياضية كانت تنشر في مساحات صغيرة على استحياء». ويوضح الصحافي والناقد خالد توحيد، أن اللغة المستخدمة في ذلك الوقت كانت مختلفة إلى حد كبير، حيث كان الصحافيون يستخدمون كلمة «إصابة» للتعبير عن تسديد أهداف، كما أن المساحات المخصصة للرياضة صغيرة، وكانت تعتمد على الخبر بشكل أساسي.
ويضيف توحيد: إن «علام كتب جزءاً كبيراً من تاريخ الرياضة والكرة المصرية، ويعد مؤسس الصحافة الرياضية، في حين أدخل الناقد الراحل نجيب المستكاوي الطابع الأدبي على الصحافة الرياضية المصرية بعد ثورة يوليو (تموز) 1952، حيث كان أديباً، ويرجع الفضل للصحافي الرياضي محمود بدر الدين في تأسيس الدوري المصري لكرة القدم، وهو أول معلق رياضي في الإذاعة»..
اعتمدت الصحافة الرياضية في بداياتها على شرح تفاصيل الأحداث الرياضية، وشرح قوانين الألعاب المختلفة والتعريف بها، وخلق الوجود الأجنبي في مصر شكلاً من أشكال المنافسة بين الفرق المصرية والإنجليزية، ويقول المستكاوي، إن جريدة «الأهرام» حيث نشرت خبر فوز فريق المختلط لكرة القدم، (الزمالك حالياً)، على فريق الألسترز الإنجليزي في نوفمبر عام 1922، وقالت: «أمطر المصريون الفريق الإنجليزي بإصابة تلو الإصابة من جميل عثمان أفندي، ومن علي رياض أفندي ثانياً، والمدهش ثالثاً من محمد جبر أفندي، وهنا تبدد أمل الفريق الإنجليزي وخرج مجبراً على الاعتراف بتفوق حجازي بك وفرقته».
وحظيت مباريات القمة بين فريقي الأهلي والمختلط باهتمام الصحافة الرياضية منذ بدايتها، وكانت الصياغات مختلفة إلى حد كبير عن المعروف الآن، حيث جاءت نتيجة إحدى المباريات بالتعادل السلبي، فكتبت «الأهرام»: «كانت نتيجة المباراة تساوياً لفريقين دون أن يصيب أحدهما مرمى أخيه».
ولم يمنع الاهتمام بكرة القدم الصحافة الرياضية من الاهتمام بالرياضات الأخرى، فمثلاً كتبت جريدة «الأهرام» في عددها الصادر في 2 سبتمبر (أيلول) عام 1928 في صفحتها الأولى خبراً عن «أول سباح مصري يجتاز المانش»، وأطلقت عليه لقب «تمساح النيل»، كما اهتمت بدورة الألعاب الأولمبية في باريس عام 1924، وما تلاها من دورات.
ومع دخول الإذاعة والتلفزيون إلى الساحة بدأ التغيير يطرأ على التغطية الرياضية، ويقول المستكاوي: «في عام 1934 بدأت الإذاعة المصرية تنقل مباريات كرة القدم على الهواء مباشرة، وأصبح محمود بدر الدين صوتاً معروفاً، بينما جعل التلفزيون عام 1960 صوت محمد لطيف شهيراً ومعروفاً، بصفته معلقاً رياضياً على مباريات كرة القدم». ويضيف المستكاوي «مع دخول البث المباشر للمباريات أصبح الإخبار والوصف التفصيلي للمباريات غير ملائمين للصحافة الرياضية، وبدأ الاتجاه إلى التحليل وذكر أسباب الخبر».
واصلت الصحافة الرياضية في مصر نموها وتطورها بعد الثورة، وظهر نجيب المستكاوي الذي أعطاها الطابع الأدبي، حيث أسس قسماً رياضياً في جريدة «الأهرام»، ضم له الصحافيين كامل المنياوي، وإسماعيل البقري، وبدأ في عهده إطلاق المسميات على اللاعبين مثل المجري مصطفى عبده، والنفاثة ميمي الشربيني، وغيرهما. ويقول حسن المستكاوي، إن «أحد لاعبي فريق السكة الحديد، وكان يدعى خيشة، داعب والده نجيب لأنه لم يطلق عليه اسماً جديداً، فأجابه قائلاً: «وهل هناك أجدد من خيشة».
ومع ازدهار التلفزيون انتقل كثير من الصحافيين الرياضيين، وحتى الرياضيون أنفسهم إلى التلفزيون، وبدأت تظهر قنوات رياضية متخصصة تعرض المباريات وتقدم تحليلات للألعاب الرياضية يعلق عليها إما رياضيون معتزلون أو صحافيون رياضيون.
وشكل دخول الإنترنت والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، تحدياً جديداً للصحافة الرياضية، حيث أصبحت الأخبار الرياضية والتعليقات المصاحبة لها تنتشر فور حدوثها؛ مما زاد من العبء على الصحافة الرياضية التقليدية التي كانت تهتم بالخبر، ثم انتقلت إلى التحليل، الذي نافسها فيه التلفزيون، والآن تبحث عن طريق للخروج من الأزمة والحفاظ على بقائها. ويقول توحيد «هذه ليست أزمة صحافة رياضية فحسب، بل أزمة مهنة مهددة بالموت، بسبب منافسة المواقع الإلكترونية، فالصحافة الورقية تعاني أزمة حياة أو موت، لكن للأسف فإن كثيراً من الصحافيين لم يدركوا ذلك بعد، وما زالوا متمسكين بالصحافة الإخبارية».
ويضيف: «مفهوم الصحافة الخبرية انتهى منذ بدء البث المباشر في التلفزيون، ولم يعد مقبولاً أن تنشر الصحف نتيجة مباراة بعد 16 ساعة من حدوثها مثلا، بل يجب أن تتطور إلى التحليل العميق وكواليس المباريات حتى تجد جمهوراً يقرأها».
بينما يقول المستكاوي، إن «الجمهور لم يعد يقرأ وصف المباريات ربما من أكثر من 25 عاماً، فالدنيا تطورت، لكن للأسف العقل لم يتطور»، مطالباً بوضع آليات جديدة لتطوير الصحافة الرياضية والحفاظ على بقائها.
ورغم أن الصحافة الرياضية في مصر كانت وسيلة لظهور نجوم مثل «جهينة» و«بدر الدين» و«نجيب المستكاوي»، فإنها لم تعد كذلك الآن، ويقول حسن المستكاوي «لم تعد الصحافة الرياضية تصنع نجوماً؛ فالمواهب المبتكرة لم تعد موجودة»، بحسب رأيه.


مقالات ذات صلة

تونس والسنغال تتراجعان في تقرير «مراسلون بلا حدود» السنوي لحرية الصحافة

العالم العربي تونس والسنغال تتراجعان في تقرير «مراسلون بلا حدود» السنوي لحرية الصحافة

تونس والسنغال تتراجعان في تقرير «مراسلون بلا حدود» السنوي لحرية الصحافة

أظهر التقرير السنوي لحرية الصحافة لمنظمة «مراسلون بلا حدود»، اليوم الأربعاء، أن تونس والسنغال كانتا من بين الدول التي تراجعت في الترتيب، في حين بقيت النرويج في الصدارة، وحلّت كوريا الشمالية في المركز الأخير. وتقدّمت فرنسا من المركز 26 إلى المركز 24.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم غوتيريش يندد باستهداف الصحافيين والهجوم على حرية الصحافة

غوتيريش يندد باستهداف الصحافيين والهجوم على حرية الصحافة

ندّد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش اليوم (الثلاثاء)، باستهداف الصحافيين، مشيراً إلى أنّ «حرية الصحافة تتعرّض للهجوم في جميع أنحاء العالم». وقال في رسالة عبر الفيديو بُثّت عشية الذكرى الثلاثين لـ«اليوم العالمي لحرية الصحافة»، إن «كلّ حرياتنا تعتمد على حرية الصحافة... حرية الصحافة هي شريان الحياة لحقوق الإنسان»، وفقاً لما ذكرته وكالة الصحافة الفرنسية. وأضاف أن «حرية الصحافة تتعرّض للهجوم في جميع أنحاء العالم»، مشيراً إلى أنّه «يتمّ استهداف الصحافيين والعاملين في الإعلام بشكل مباشر عبر الإنترنت وخارجه، خلال قيامهم بعملهم الحيوي.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
العالم صحافي ليبرالي في الصين يواجه تهمة «التجسس»

صحافي ليبرالي في الصين يواجه تهمة «التجسس»

ذكرت جمعية تعنى بالدفاع عن وسائل الإعلام أن تهمة التجسس وجهت رسمياً لصحافي صيني ليبرالي معتقل منذ عام 2022، في أحدث مثال على تراجع حرية الصحافة في الصين في السنوات الأخيرة، حسبما أفادت «وكالة الصحافة الفرنسية». كان دونغ يويو، البالغ 61 عاماً والمعروف بصراحته، يكتب افتتاحيات في صحيفة «كلارتي» المحافظة (غوانغمينغ ريباو) التي يملكها الحزب الشيوعي الحاكم. وقد أوقف في فبراير (شباط) 2022 أثناء تناوله الغداء في بكين مع دبلوماسي ياباني، وفق بيان نشرته عائلته الاثنين، اطلعت عليه لجنة حماية الصحافيين ومقرها في الولايات المتحدة. وقالت وزارة الخارجية اليابانية العام الماضي إنه أفرج عن الدبلوماسي بعد استجو

«الشرق الأوسط» (بكين)
العالم العربي المغرب: أربعة من وزراء الإعلام السابقين يرفضون لجنة مؤقتة لمجلس الصحافة

المغرب: أربعة من وزراء الإعلام السابقين يرفضون لجنة مؤقتة لمجلس الصحافة

بدا لافتاً خروج أربعة وزراء اتصال (إعلام) مغاربة سابقين ينتمون إلى أحزاب سياسية مختلفة عن صمتهم، معبرين عن رفضهم مشروع قانون صادقت عليه الحكومة المغربية الأسبوع الماضي، لإنشاء لجنة مؤقتة لمدة سنتين لتسيير «المجلس الوطني للصحافة» وممارسة اختصاصاته بعد انتهاء ولاية المجلس وتعذر إجراء انتخابات لاختيار أعضاء جدد فيه. الوزراء الأربعة الذين سبق لهم أن تولوا حقيبة الاتصال هم: محمد نبيل بن عبد الله، الأمين العام لحزب «التقدم والاشتراكية» المعارض، ومصطفى الخلفي، عضو الأمانة العامة لحزب «العدالة والتنمية» المعارض أيضاً، والحسن عبيابة، المنتمي لحزب «الاتحاد الدستوري» (معارضة برلمانية)، ومحمد الأعرج، عضو

«الشرق الأوسط» (الرباط)
المشرق العربي «الجامعة العربية» تنتقد «التضييق» على الإعلام الفلسطيني

«الجامعة العربية» تنتقد «التضييق» على الإعلام الفلسطيني

انتقدت جامعة الدول العربية ما وصفته بـ«التضييق» على الإعلام الفلسطيني. وقالت في إفادة رسمية اليوم (الأربعاء)، احتفالاً بـ«يوم الإعلام العربي»، إن هذه الممارسات من شأنها أن «تشوّه وتحجب الحقائق». تأتي هذه التصريحات في ظل شكوى متكررة من «تقييد» المنشورات الخاصة بالأحداث في فلسطين على مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما في فترات الاشتباكات مع القوات الإسرائيلية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

المنتدى الروسي الأول لـ«الثقافة والإعلام والرقمنة» لمواجهة هيمنة الغرب

أحد المتكلمين في المنتدى (الشرق الأوسط)
أحد المتكلمين في المنتدى (الشرق الأوسط)
TT

المنتدى الروسي الأول لـ«الثقافة والإعلام والرقمنة» لمواجهة هيمنة الغرب

أحد المتكلمين في المنتدى (الشرق الأوسط)
أحد المتكلمين في المنتدى (الشرق الأوسط)

«إحدى الوظائف الرئيسية لوسائل الإعلام الجديدة تتمثّل في القدرة على توحيد الناس وكسر الحواجز الموجودة بين الثقافات» اختتم المنتدى الأول لـ«الثقافة والإعلام والرقمنة» أخيراً أعماله في موسكو، مطلِقاً آليات لتعزيز التواصل مع المؤسسات الثقافية والإبداعية في عشرات البلدان، بهدف تحويل المنتدى -كما قال منظموه- إلى «منصة فريدة لتبادل الخبرات وتطوير أساليب الابتكار والإبداع في عالم متعدد لا تهيمن عليه الثقافة الغربية وحدها بأساليبها القديمة».

جمع المنتدى، عبر النقاشات التي دارت خلال ورشات العمل «قادة الصناعات الإبداعية من روسيا ودول أخرى، لمناقشة آفاق تطوير الصناعة والمخاطر والفرص التي أحدثها التقدم السريع للتكنولوجيا الجديدة في حياة الناس وإبداعهم».

عاصمة عالمية للإعلام والثقافة

ووفقاً لحكومة العاصمة الروسية موسكو، التي رعت تنظيم المنتدى، فإن من بين أهداف إطلاقه «تحويله إلى فعالية تُنظّم بشكل دوري وتكريس رؤية جديدة للتعاون الثقافي والإعلامي والإبداعي تقودها موسكو». ومن جهتها، رأت رئاسة المنتدى أن موسكو «عزّزت عبره مكانتها بين عواصم الثقافة في العالم، وباتت تجذب انتباه الخبراء في الصناعات الإبداعية والمتخصصين المشهورين من مختلف أنحاء العالم، من الولايات المتحدة وفرنسا إلى الهند والصين». وبهذا المعنى فإن روسيا «ما زالت تحتفظ بهويتها الثقافية، على الرغم من العقوبات والتحديات المعاصرة، بل تمضي قدماً أيضاً نحو تطوير أشكال جديدة من التفاعل في مجالات السينما ووسائل الإعلام الجديدة وغيرها من الصناعات الإبداعية».

وحقاً، جمع منتدى «الثقافة والإعلام والرقمنة» في دورته الأولى متخصصين في مجالات السينما، والألعاب، والإعلام، والتكنولوجيا، والصناعات الإبداعية؛ للبحث عن توازن جديد بين الأهداف التجارية والمصالح العامة، وإمكانيات الآلات وقدرات البشر.

ولمدة يومين، تواصل المشاركون من مختلف دول العالم في ورشات عمل لبحث المواضيع الرئيسة المطروحة التي توزّعت على عدة محاور؛ بينها: اقتصاد وسائل الإعلام الجديدة، والتأثير المتبادل بين وسائل الإعلام الجديدة والسينما، والاتصالات، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن تطوير ألعاب الفيديو، والمساحات الافتراضية، والرياضات الإلكترونية.

تقارب وأرضية مشتركة

رؤية المنتدى تقوم، بالدرجة الأولى، على محاولة تعزيز التقارب والتنسيق من أجل «إيجاد أرضية مشتركة وتطوير أساليب جديدة وفريدة للإبداع بين روسيا ودول مجموعة (بريكس+)» والدول العربية، لا سيما في مجال منصات الثقافات وتشابكها. وبذا لا يُخفي المنظمون الهدف الأساسي المتمثل في محاولة «كسر» الحصار الغربي، والعمل على تشكيل منصة فريدة تُسهم في تطوير حوار دولي بين روسيا وشركائها في الدول العربية والبلدان الأخرى التي تعمل مثل روسيا لإيجاد روابط جديدة للتعاون في ظل التغيّرات السريعة على بيئة المعلومات العالمية.

لذا، رأى المنتدى في جلسات الحوار أن إحدى الوظائف الرئيسة لوسائل الإعلام الجديدة تتمثّل «في القدرة على توحيد الناس، وكسر الحواجز الموجودة بين الثقافات واللغات المختلفة عبر استخدام الشبكات الاجتماعية، والمدوّنات، ومحتوى الفيديو». وعدّ أن تأثير مساحة الإعلام الجديدة يتمثّل أيضاً في إمكانية إنشاء مبادرات مشتركة - مشاريع مشتركة، وأحداث ثقافية، وبرامج تعليمية تهدف إلى تعزيز الروابط وتوسيع آفاق التعاون المتبادل.

برنامج اليوم الأول تضمّن جلسة رئيسة بعنوان «مستقبل التواصل والتواصل من أجل المستقبل»، شاركت فيها نخبة من كبار المخرجين العالميين؛ مثل: أمير كوستوريكا، وأوليفر ستون، استعرضوا خلالها دور السينما في تجاوز الحواجز الثقافية وتعزيز التفاهم بين الشعوب. وفي كلمته، شدّد كوستوريكا على أن «السينما لا تُقاس بقيمتها المالية بقدر ما تحمله من مضامين وأفكار عميقة»، مشيراً إلى تأثير أفلام المخرج أندريه تاركوفسكي التي على الرغم من محدودية مشاهدتها عند إصدارها، اكتسبت قاعدة جماهيرية واسعة على مر الزمن، بفضل طرحها أسئلة جوهرية عن الحياة.

أما ستون فأكد أن «السينما اليوم في مرحلة تطور مستمر، تتضمّن رؤى فنية جديدة وإمكانيات إبداعية متاحة حتى في المدن الصغيرة»، داعياً إلى احتضان هذا التغيير وتقدير الماضي في الوقت ذاته.

الحضور العربي

وفي الجلسات عن العالم العربي، شارك لوبو سيوس مقدم البرامج الحوارية في دبي، وعلي الزكري رئيس قسم التحرير الرقمي في صحيفة «البيان» في دبيّ، وعلا الشافعي رئيسة تحرير صحيفة «اليوم السابع» المصرية، والصحافي اللبناني نبيل الجبيلي. وأكد المنتدى تعزيز الروابط بين الشعوب، كونها تُسهم في خلق أرضية مشتركة وتقديم طرق مبتكرة للإبداع. ورأى المشاركون أن العلاقات بين روسيا ودول «بريكس» لا سيما الدول العربية تستند إلى التفاعل الثقافي وتشابك الثقافات؛ مما يفتح آفاقاً جديدة للتعاون والإبداع المشترك.

وعن دور السينما، بين وسائل هذا التعاون، فإنها عُدّت جسراً فعّالاً يربط بين العالمين الروسي والعربي. إذ إن الأفلام لا تكتفي بعرض جوانب من حياة شعوب معينة، بل تساعد أيضاً على تجاوز الحواجز اللغوية والثقافية؛ مما يخلق قصصاً عالمية قادرة على التأثير في قلوب المشاهدين في كل مكان.

ومن ثم، تناول المنتدى دور الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة واعدة في عملية التأليف والإنتاج السينمائي، بجانب بحث الفرص التي توفرها المنصات الرقمية لتمكين المواهب الشابة.

جانب من الحضور يسجلون اللحظة بهواتفهم الجوّالة (الشرق الأوسط)

منصة مهمة لتبادل الخبرات

مع مشاركة أكثر من 70 متحدثاً من 10 دول، شكّل المنتدى منصة مهمة لتبادل الخبرات وتعزيز التواصل الثقافي بين روسيا والعالم، بما يُسهم في دفع عجلة الابتكار والتنوع في قطاعي الإعلام والسينما العالميين. وفي تصريح لـ«الشرق الأوسط»، قال جورجي بروكوبوف، رئيس شركة موسكينو - مركز موسكو السينمائي، إن المنتدى -الأول من نوعه- يُنظّم «في لحظة محورية؛ إذ تعمل أدوات الذكاء الاصطناعي والابتكارات الرقمية على إعادة تشكيل الصناعات الإبداعية بشكل أساسي». وأردف أن «الملعب العالمي بات أكثر توازناً... وظهرت مناطق جديدة، أو عزّزت مناطق، كانت موجودة أصلاً في هذه الصناعة، مكانتها لتتحول إلى مراكز لإنتاج الأفلام والتلفزيون».

وأوضح بروكوبوف أن موسكو استثمرت، بمبادرة من رئيس بلديتها سيرغي سوبيانين، بكثافة في «بناء مجموعات إبداعية عالمية المستوى» في المدينة وإنشاء شبكات تعاون مع مراكز إبداعية مماثلة في جميع أنحاء العالم. ولقد انصب أحد البرامج الأساسية على تطوير صناعة السينما. وتابع أن «مجموعة صناعة الأفلام الروسية وصلت إلى حجم مماثل (من حيث مرافق الإنتاج ومعداتها المتطورة) لتلك الموجودة في كاليفورنيا أو مومباي (...) تتغيّر صناعة الأفلام العالمية بسرعة، ولم يعد الأمر يقتصر على (هوليوود)، النموذج القديم؛ حيث تُملى ثقافة واحدة، والأذواق العالمية تتلاشى». ثم كشف عن أن عدد الأفلام الروائية المنتجة في دول «بريكس» تضاعف أكثر من ثلاث مرات على مدى العقدين الماضيين، في حين ظل عدد الإنتاجات في الغرب ثابتاً إلى حد كبير.

داخل القاعة (الشرق الأوسط)

التطور في «بريكس» ودول الخليج العربي

ومن ثم، أفاد بأن تقنيات الذكاء الاصطناعي تسمح بتكييف المحتوى المتنوع مع السياقات المحلية بسلاسة. وبالنسبة إلى دول مجموعة «بريكس» فإنها، مثل روسيا، «تتطلّع إلى تعزيز التعاون مع القطاع الإبداعي المزدهر في الخليج العربي، بما يمثّل فرصة مثيرة لاستكشاف أسواق جديدة».

وزاد المسؤول أن الأوساط الروسية «تتابع باهتمام كبير ما يحدث في المملكة العربية السعودية. إن تفاني الحكومة في رعاية المواهب وجعل المملكة واحدة من المراكز الإبداعية الرائدة في العالم أمر رائع حقاً. ومن الملهم أن نرى كيف تتحوّل المملكة بسرعة إلى قوة إبداعية عالمية مع الحفاظ على تراثها الثقافي الغني».