مسيحيو العراق... ماضٍ لن يعود ومستقبل لن يأتي

الحوادث الأمنية تخلق عندهم هاجسين

مسيحيو العراق... ماضٍ لن يعود ومستقبل لن يأتي
TT

مسيحيو العراق... ماضٍ لن يعود ومستقبل لن يأتي

مسيحيو العراق... ماضٍ لن يعود ومستقبل لن يأتي

في مكان مقدس عند المسيحيين هو الكنيسة، وفي مناسبة تأبينية أبكت كل العراقيين من مختلف الأديان والطوائف والمذاهب وهي قتل عائلة مسيحية مكوّنة من طبيب مشهور وزوجته {وهي طبيبة أيضاً} ووالدتها، وسط بغداد الأسبوع الماضي، بدت الكنيسة شبه مهجورة. السبب المباشر والوحيد للقلق الذي عبّر عنه المسيحيون أنهم يخشون استهدافهم واستهداف كنائسهم لأسباب تتعلق بكراهية الآخر المختلف.
منظر الكنيسة شبه الفارغة كان أكثر إثارة للحزن بالنسبة إلى مرتاديها من المسيحيين مع أن المناسبة كانت قداساً أُقيم على روح عائلة الدكتور هشام مسكوني، وهو واحد من أبرز مَن بقي في العراق من أطبائه المسيحيين المعروفين. ذلك أنه خلال السنوات الماضية غادر معظم -إن لم يكن جميع أفراد- نخبة الأطباء العراقيين الذين تعدّدت مستويات استهدافهم وأسبابه وتفاصيله، بدءاً من الاستهداف على الهوية (العرقية أو الطائفية)، وانتهاء بغرض الابتزاز المالي أو الفصل العشائري. بل، حتى في حال توفي مريض في أثناء إجراء عملية له... فعندها دائماً يكون الطبيب هو المسؤول.
كثيرون يرون أن هذه الحوادث، سواءً تلك التي تستهدف المسيحيين أم باقي العراقيين من كل المكوّنات والأطياف، تعود في النهاية إلى وجود «خلل في الأمن»، كما قال البطريرك لويس رفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم، في البيان الذي أصدره عقب مقتل الطبيب وعائلته. كذلك، استبعد يونادم كنا، النائب المسيحي في البرلمان العراقي، وجود غاية سياسية وراء قتل تلك العائلة، وعدّ الجريمة مجرد جريمة جنائية تتعلق بسرقة منزل فقط.
البطريرك ساكو قال بيانه إن عمليات الاغتيال التي تتكرّر تتباين بين «الاستيلاء على أموالهم (أموال الناس)، أو بهدف أخذ الثأر والانتقام، ومن بين هؤلاء الأشخاص الذين تم قتلهم بدم بارد خلال الأيام الأخيرة شاب وزوجته، وهما طبيبان، إضافة إلى والدة الزوجة، وجميعهم مسيحيون، وتمت سرقة أموالهم أمام الملأ».
واللافت في بيان البطريرك ساكو، الذي يعد أرفع شخصية مسيحية في العراق، ليس فقط دعوته «الحكومة لاتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحماية المواطنين وممتلكاتهم، وملاحقة الجناة وتقديمهم للعدالة ومعاقبتهم بقسوة لتطمين المواطنين» بل دعوته «الجهات الدينية والتربوية والإعلامية إلى إشاعة ثقافة السلام والحياة واحترام الآخر والعيش المشترك». وهذه الأخيرة تبدو لب المشكلة في العراق اليوم. إذ يجري استهداف أبناء الطوائف والديانات التي يطلق عليها مسمى «الأقليات الدينية» في العراق، ويأتي في المقدمة المسيحيون بمختلف طوائفهم (من كلدان وسريان وآشوريين) والذين كان يبلغ تعدادهم حتى الأمس القريب (2003) نحو مليون ونصف المليون نسمة بينما يقرب اليوم من نصف مليون نسمة فقط.
جريمة قتل عائلة مسكوني المسيحية لم تكن الأولى، وكل المؤشرات تقول إنها لن تكون الأخيرة. إلا أنها أثارت على نحو مختلف هذه المرة إشكالية التعايش في العراق، ولا سيما بعد القضاء على تنظيم داعش الإرهابي المتطرف، الذي كان ينظر إلى أتباع الديانات الأخرى على أنهم كفّار يتوجب قتلهم أو سبيهم أو تهجيرهم، أو حتى اغتصاب نسائهم، وبيعهن في أسواق النخاسة، كما فعل بالفعل مع الطائفة الأيزيدية في قضاء سنجار غربي مدينة الموصل، كبرى مدن شمال العراق.
- القانون المفقود
النائب المسيحي جوزيف صليوة تحدث إلى «الشرق الأوسط»، فقال إنه على الرغم من أن الدوافع «قد تكون متباينة... إذ قد تكون جنائية صرفة بدافع السرقة مثلما يحصل لباقي العراقيين من كل المكوّنات، تبقى المسألة هي كيف يمكننا أن نضمن حمايةً للمواطن في هذا البلد بصرف النظر عن ديانته أو قوميته أو مذهبه؟».
من جانبه، يرى الدكتور دريد جميل، المتحدث الرسمي باسم «حركة بابليون» المسيحية وأستاذ علم النفس في الجامعة المستنصرية ببغداد، أيضاً في لقاء مع «الشرق الأوسط»، أنه «مهما كان الدافع، فإنه فضلاً عن كونه يؤشر لوجود خلل يستوجب المعالجة، فالأمر بالنسبة إلى المسيحيين يختلف عنه مع باقي العراقيين من المكوّنات الأخرى». ويستطرد: «هناك أسباب موضوعية لذلك لعل في المقدمة منها أن المسيحيين أقلية، وبالتالي، فإن حادثة واحدة تبث فيهم كل أنواع الخوف والقلق، بل والرعب، بينما إذا حصلت حادثة مماثلة لمواطن عراقي من أبناء المكوّنات الكبيرة فإنه يمكن أن تضيع وسط تجمّعات سكانية وبشرية كبيرة». ويعرّج جميل على مسألة يرى أنها في غاية الأهمية، «وهي أن المسيحي حين يتعرض لأي موقف يجد نفسه وحيداً، إذ لا توجد حوله، بخلاف الشيعي أو السنّي، عشيرة كبيرة يمكن أن تأخذ حقه في ظل غياب القانون، أو تثأر له حتى بالعرف العشائري. نحن ليس لنا سوى القانون، لكن هذا القانون ضعيف أو مفقود». ويرى جميل أن «العراقيين جميعاً يشكون ضعف القانون، وهم جميعاً ضحايا لذلك، لكن المشكلة بالنسبة إلى المكوّن المسيحي أو عموم أبناء الأقليات، أنه حتى ما يبدو جريمة عادية جنائية قد يكون لها غطاء سياسي... بمعنى أن جريمة القتل التي وقعت ضد الطبيب المسيحي وعائلته قد يكون دافعها المباشر جنائياً، غير أن لها أبعادها السياسية لأنها تدفع باقي المسيحيين الخائفين، الذين يفتقرون إلى قانون يحميهم، إلى الهجرة وترك بيوتهم وأملاكهم.... ومن ثمّ، تأتي العصابات، ومن يقف خلفها، لتسيطر عليها». ويبيّن الأكاديمي المسيحي العراقي أن «ملف تزوير عقارات المسيحيين والاستيلاء عليها من قبل جهات متنفذة هو أحد الملفات المثيرة للحزن والأسى معاً».
- مفصل تاريخي للمسيحيين
في السياق نفسه، قال عضو البرلمان العراقي عماد يوخنا (وهو آشوري) لـ«الشرق الأوسط»، شارحاً «التعايش المجتمعي في العراق، وهو التعايش الذي كان يميّز المكونات العراقية على امتداد آلاف السنين على الرغم من كل دورات العنف التي مر بها التاريخ العراقي، لم يحصل له مثل ما يحصل اليوم». وأشار إلى أن استهداف المسيحيين «يبدو الآن منهجياً ومنظماً في ظل صمت دولي مريب». وأردف يوخنا: «من شأن ذلك تهديد، أو ربما نسف، التجانس المجتمعي والثقافي داخل العراق».
مع ذلك، فإن العديد من الباحثين في شؤون العراق السياسية والاجتماعية يرون أن الأزمات المجتمعية التي يتعرض لها العراق بين فترة وأخرى، والتي غالباً ما تأخذ أبعاداً وأشكالاً مختلفة مما يسمى «الإقصاء» و«التهميش» و«المظلومية»، ترتبط في الغالب بدورات الحكم السياسي فيه. ويرى هؤلاء أن الحكم في العراق، منذ عام 1921 وحتى سقوط النظام العراقي السابق عام 2003، كان يدافع عن فكرة قوامها أن العراق «دولة أمة». لكن بعد عام 2003 أصبح العراق «دولة مكوّنات». وفي حين وجدت الأقليات في الحقب الماضية نوعاً من القدرة على التعايش مع الكبار بسبب قوة السلطة المركزية والقانون النافذ، فإن شعور الشيعة والأكراد من تهميش وإقصاء وظلم إنما نتج -كما كانوا يشكون– عن منعهم من الحصول على ما يوازي حجمهم على صعيد السلطة بكل تفرّعاتها.
أما بعد عام 2003، ومع تغيير معادلة السلطة والدولة إلى «دولة المكوّنات»، فإن الأقليات وجدت نفسها في الهامش، لا سيما، بعد أن باتت أحجام الكتل أو المكونات تُحسب على أساس ما تحصل عليه من مقاعد نيابية، وهي التي تحدد حصة كل مكوّن -ديني أو مذهبي أو عرقي- من الوزارات والمؤسسات... وما يترتب عليها من مغانم ومغارم.
- أقليات ضد الأقليات
الصورة تبدو أوضح في ضوء سرد الباحث الدكتور دريد جميل بعض وقائع ما يجري، وتحديداً عند الذهاب شمالاً إلى سهل نينوى الذي يعد المعقل الرئيسي للأقليات الدينية والعرقية في العراق سواء كانوا مسيحيين (كلدان أو آشوريين أو سريان) أو أيزيديين أو شبكاً.
هنا، ما حصل للأقليات لم يأتِ فقط نتيجة عوامل خارجية، بل بسببهم هم أيضاً. إذ يقول جميل إن «المشكلة التي نعانيها كأقليات، وبالذات، في سهل نينوى هو عدم وجود (وحدة موقف) بيننا، نحن أبناء الأقليات. ذلك أن الشبك –مثلاً- منقسمون بين كون بعضهم شيعة يستقوون بجهات سياسية وفصائل بهدف حمايتهم وبين كون بعضهم الآخر يرى أنهم أكراد فيستقوي بالأحزاب الكردية». ويتابع الدكتور جميل، مشيراً إلى أن «المفارقة أننا، كمسيحيين، مثلاً، نجد أنفسنا في سهل نينوى أقرب إلى القوى الشيعية غير أننا مختلفون فيما بيننا. بل، حتى ككلدان مختلفون... حيث كل طرف يرى نفسه أنه هو الأصل، أو الأهم. بل والمصيبة الأكبر أن بعض رجال ديننا، حتى الكبار منهم، دخلوا عالم السياسة بحيث اختلط الأمر علينا بوصفنا أقليات ضد بعضنا». ويؤكد جميل أن «انعدام وحدة الصف داخل البيت المسيحي بات يسهل تماماً كل المؤامرات التي يمكن أن تحاك ضدنا، لأن تنفيذها يكون من السهولة بمكان».
- سهل نينوى
جغرافياً تقع منطقة سهل نينوى في شمال العراق، وتتألف من 3 أقضية هي الحمدانية والشيخان وتلكيف. ويعد هذا السهل الذي يحدّ مدينة الموصل ومحيطها من الشرق، الموطن التاريخي لمسيحيي العراق، وهم يشكلون النسبة الأكبر من سكانه، إلى جانب جيرانهم من الأيزيديين والتركمان والشبك والعرب.
ثم إن هناك وجوداً للكنائس العراقية الرئيسية في هذه المنطقة وهي: الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، والكنيسة السريانية الأرثوذكسية، والكنيسة السريانية الكاثوليكية، وكنيسة المشرق القديمة وكنيسة المشرق الآشورية. ولقد تحوّلت منطقة سهل نينوى إلى نقطة تجمع لمسيحيي العراق بعد فرارهم من المناطق الساخنة في بغداد وجنوب ووسط العراق قبل عدة سنوات. وراهناً، يعد سهل نينوى من المناطق المتنازع عليها حسب المادة 140 من الدستور العراقي. وبسبب جرائم «داعش» فقد تبددت الآمال الضائعة باستحداث محافظة ضمن مسعى لإقامة «منطقة آمنة» من قبل الأمم المتحدة لحماية هذه الأقليات.
ولدى الربط بين ما حصل للمسيحيين وأبناء الأقليات الأخرى في العراق، سواء منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة حتى اليوم، أو بعد استيلاء «داعش» على أراضٍ واسعة من العراق بما فيها سهل نينوى -أهم موطن للمسيحيين ومعظم أبناء الأقليات الأخرى- فإن كل المؤشرات تذهب إلى أن مستقبل الأقليات في خطر. وهو سيبقى في خطر ما داموا ظلوا يائسين من إمكانية عودة الماضي البعيد الذي كان يصنفهم على أنهم أبناء هذه الأرض الأصليين ومتخوفين من مستقبل لن يأتي لهم بما يتمنونه من أمن ورخاء... والأهم من هذا وذاك، الإحساس بالمواطنة.
ومثل اقتناع الدكتور دريد جميل دريد بأن «السند الوحيد للمسيحي هو القانون»، كما قال لـ«الشرق الأوسط»، فإن مطران الموصل للسريان الأرثوذكس نيقوديموس داوود شرف، يؤمن تماماً بأن «المسيحي لا يمكنه العيش حيث لا سيادة للقانون. بإمكاننا العيش فقط في مكان يحكمه القانون». وحتى في ظل العدد المستقر نسبياً من المسيحيين الذين يعيشون اليوم في مراكز آمنة في كركوك وأربيل في إقليم كردستان العراق، تراجع عدد المسيحيين من الذي كان مقدراً بـ1.5 مليون (في عموم العراق) عام 2003 إلى نحو 200 ألف بقوا راهناً في شمال البلاد. وبالتالي، فإن إعطاء هذه الجماعات فرصة بناء استقرارها الخاص قد يكون الحل للحفاظ على وجودها في العراق.


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أوروبا أعضاء فرع الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية يحضرون اجتماعاً في دير القديس بانتيليمون في كييف يوم 27 مايو 2022 (رويترز)

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أعلن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أنه يدرس حظر كييف للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المرتبطة بروسيا، قائلاً إنه يثير مخاوف جدية بشأن حرية المعتقد.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
آسيا البابا فرنسيس أثناء وصوله إلى مطار سوكارنو هاتا الدولي في جاكرتا (أ.ف.ب)

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في مستهل أطول رحلة خارجية خلال ولايته

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في محطة أولى ضمن جولة له على 4 دول. وتتمحور الزيارة بشكل خاص حول الحوار الإسلامي المسيحي.

«الشرق الأوسط» (جاكرتا)
أميركا اللاتينية الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي خلال زيارته إلى القدس 6 فبراير 2024 (أ.ب)

كيف تحول تأييد الرئيس الأرجنتيني لإسرائيل واهتمامه المتزايد باليهودية مصدر قلق لبلاده؟

لقد أظهر الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، وهو كاثوليكي بالميلاد، اهتماماً عاماً متزايداً باليهودية، بل وأعرب حتى عن نيته في التحوّل إلى اليهودية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
آسيا رجال الشرطة يقفون للحراسة مع وصول المسلمين لأداء صلاة الجمعة في مسجد جيانفابي في فاراناسي 20 مايو 2022 (أ.ف.ب)

الهند: قوانين مقترحة للأحوال الشخصية تثير مخاوف المسلمين

من المقرر أن تطرح ولاية هندية يحكمها حزب رئيس الوزراء ناريندرا مودي قوانين الأحوال الشخصية العامة الجديدة المثيرة للجدل والتي ستطبَّق على جميع الأديان.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
آسيا رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال حفل الافتتاح (رويترز)

مودي يفتتح معبداً هندوسياً بُني على أنقاض مسجد تاريخي

افتتح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي اليوم معبداً هندوسياً، بني على أنقاض مسجد تاريخي، في خطوة تكتسي أهمية كبيرة في سياسته القومية المحابية للهندوسية.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.