نساء حكمن الهند القديمة بقبضة من حديد

سكنّ البلاط الملكي في بهوبال لأكثر من 157 سنة

البيغوم الأربع اللاتي حكمن ولاية بهوبال الهندية
البيغوم الأربع اللاتي حكمن ولاية بهوبال الهندية
TT

نساء حكمن الهند القديمة بقبضة من حديد

البيغوم الأربع اللاتي حكمن ولاية بهوبال الهندية
البيغوم الأربع اللاتي حكمن ولاية بهوبال الهندية

تشيد المجتمعات الحديثة، اليوم، بتحرّر المرأة، وتسعى عبر جمعيات حقوقية خاصة بها لتحقيق المساواة بينها وبين الرجل، ولكن بالعودة إلى ماضي الهند، فقد شهدت البلاد حكم أربع نساء قويّات، قدّمن قصصاً فريدة في تاريخ الهند إبان القرن التاسع عشر وهن: الأرملة البالغة من العمر 18 سنة التي نصَّبت ابنتها الرضيعة ملكة، والزوجة التي نجت من محاولة اغتيالها وسجنت زوجها أسيراً، والأميرة التي تنازلت عن العرش من أجل والدتها، والحاكمة التي شغلت منصب المستشارة الوحيدة لجامعة عليكرة الإسلامية.
وفي نادرة من نوادر الميراث الذكوري في المجتمع الهندي، كانت هؤلاء النساء الراحلات في البلاط الملكي في بهوبال ثاني أكبر ولاية مسلمة في الهند، من أقوى وأكثر الحكام نشاطاً بين عام 1819 و1926 ولفترة بلغت 157 سنة.
وكانت السيدات الحاكمات تُعرف بالهند باسم «بيغوم»، وهو الاسم الرسمي للحكم النسوي. حينها أيضاً واجهت الحاكمات الأربع معارضة قوية من الجيران الأقوياء والرجال المطالبين بالحكم، حتى إن شركة الهند البريطانية قد عارضت في بداية الأمر حكم النساء في بهوبال، فذكرت النساء الحاكمات الملكة فيكتوريا كنموذج وإلهام للحكم النسوي الرشيد، وفرضت كل بيغوم (ملكة)، شخصيتها القيادية على الحكم ونجحت في السيطرة على أغلب السكان الهندوس.

قدسية بيغوم
كانت قدسية أول «بيغوم» تتحدّى النبلاء والأعراف الملكية، عندما أعلنت عن تنصيب ابنتها الرضيعة سيكاندار ملكة في عام 1819، وكانت قد حكمت بنفسها نيابة عنها لمدة 18 عاماً، ودافعت عن المملكة ضد الجيوش الغازية القوية من ماراثاس وسيندياس وهولكارس وغايكوادس، وحفظت ميراث ابنتها الملكي ضد المعارضة الداخلية في البلاد. وقد تمكّن بعض النبلاء من إقناع المستعمر البريطاني، بأن وجود امرأة على سدّة الحكم ينافي الشريعة الإسلامية، لكنّ قدسية ناضلت ودافعت بشدة عن حكمها وواجهت البريطانيين وبالفعل تمكنت من إلغاء الحكم الصادر ضدها. كما استطاعت ابنتها من بعدها ثم حفيدتها تولي مقاليد الحكم في بهوبال كملكات ورثن عرش البلاد كابراً عن كابر. كانت قدسية أُمِّية، إلا أنها ارتقت إلى مستوى المسؤولية عندما اشتدت الحاجة لوجودها.
وجاء ذكر الجدات العظام في كتاب يحمل عنوان «حاكمات بهوبال» من تأليف شاهاريار خان وزير خارجية باكستان الأسبق، وهو حفيد آخر «بيغوم» حكمت ولاية بهوبال.

سيكاندار بيغوم
نشأت سيكاندار (1844 - 1868)، ابنة قدسية، نشأة ملكية كريمة، الأمر الذي قضى على المطالب الذكورية المتتالية بحكم البلاد. كانت بنيتها الجسدية قوية وشبيهة بمحاربات الأمازون في أميركا الجنوبية، وكانت من أبرز المصلحين في القرن التاسع عشر، شهدت بهوبال فترة حكمها عصراً ذهبياً.
تميّزت سيكاندار بقوة شخصيتها، وكانت ترتدي زي الأمراء المسلمين، وتمتطي ظهر الخيل من دون البرقع، وكانت تمارس رياضة البولو، وتخرج في رحلات لاصطياد النمور إلى جانب خبرتها الكبيرة في مبارزة السيف. تمكنت من إعادة تنظيم الجيش الذي تولت قيادته بنفسها. أيدت الطرف المنتصر في تمرد عام 1857، وصارت نجمة كثير من الاحتفاليات البريطانية التي كانت تُعقَد للحكام الهنود. كانت أول حاكمة هندية تخرج في رحلة الحج إلى مكة. وكانت أول من يتم قبولها رسميّاً كوصية على عرش بهوبال.
قالت عابدة سلطان، إحدى المنحدرات من سلالة بهوبال الحاكمة إنّ «سيكاندار بيغوم التي عُرفت بحماسها الشديد للإصلاح القضائي والتعليم، كانت ذات نزعة عدائية واضحة. فبعدما رفع زوجها الساخط عليها السيف في وجهها، صارت رياضتها المفضلة هي إخافته وإرهابه برمي السهام وإطلاق النار، أو من خلال مسابقات الفرسان العنيفة».

شاهجهان بيغوم
انتقل الحكم بعد وفاة سيكاندار بيغوم إلى ابنتها شاهجهان (1868 - 1901). وعلى غرار والدتها، كانت قوية، وتمكنت من إصلاح إدارة الدولة، وقد عملت فعلاً على إصلاح نظام الضرائب والجيش والشرطة والقضاء والسجون. وتمكنت من توسيع الرقعة الزراعية، وأنشأت شبكات الرّي والأشغال العامة على نطاق واسع. غير أنّها أبدت تناقضاً واضحاً مع شخصية والدتها القوية. وعلى الرغم من أن سنوات حكمها الطويلة قد شهدت معارضة مستمرة من كل من البريطانيين والرعايا الهنود إثر النفوذ الظاهر لزوجها الذي لا يحظى بنفس شعبيتها، فإنها تركت علامة كبيرة في الهندسة المعمارية والموسيقى والشعر والفنون، كما أنّها ألَّفَت كثيراً من الكتب.
اكتسبت شاهجهان سمعة جيدة في تحويل بهوبال إلى ولاية نموذجية. وكانت حاضرة في البلاط الإمبراطوري البريطاني في دلهي عام 1877. وخلال سنوات حكمها التي بلغت 49 عاماً أنشأت ثاني أكبر مسجد في آسيا (تاج المسجد)، وقد كلّفت بإنشاء أول مسجد في بريطانيا عام 1889. ارتبط اسمها أيضاً بأقدم مؤسسة إسلامية، ألا وهي كلية محمد أنجلو الشرقية في عليكرة التي تبرعت لها بمنحة مالية كبيرة، وهي الكلية التي تحوّلت فيما بعد إلى جامعة عليكرة الإسلامية.

سلطان جاهان بيغوم
كانت سلطان جاهان (1901 - 1926) آخر بيغوم ومعها ختمت سلالة حكم الأسرة بشخصيتها القوية. كانت من كبار المصلحين على نفي التقاليد والأعراف التي أرستها والدتها وجدتها من قبل. وأنشأت كثير من المؤسسات التعليمية في بهوبال، وأسست نظام التعليم الأساسي المجاني والإلزامي في عام 1918. وخلال فترة حكمها ركزت بشكل خاص على التعليم العام ولا سيما تعليم الإناث. بنت كثيراً من المعاهد الفنية والمدارس وزادت من أعداد المعلمين المؤهلين. ومنذ عام 1920 وحتى وفاتها، كانت المستشارة المؤسسة لجامعة عليكرة الإسلامية، وهي وحدها من شغل هذا المنصب الرفيع في الجامعة، وكانت تتحدث الإنجليزية بطلاقة.
انطلقت سلطان جاهان الحاكمة التي كانت ترتدي البرقع والعاشقة للسفر والترحال إلى مكة لتأدية فريضة الحج في عام 1904، وتحمّلت خلال الرحلة مشاق كبيرة لدى عبورها البحار والصحراء. حضرت مراسم تنصيب الملك جورج الخامس على عرش بريطانيا. وكانت الحاكمة الهندية الوحيدة التي زارت إنجلترا، ثم جالت في رحلة سياحية في كل من باريس وفيينا وبودابست.
وقد كتب سي إتش باين، المستشار التعليمي للبيغوم سلطان جاهان، مذكراته حول زيارتها إلى أوروبا قائلاً: «ازدحم ميناء مرسيليا بكثير من الصحافيين والمراسلين، واجتمع حشد كبير من المواطنين لمشاهدة (بيغوم). فقد كان الأمراء الهنود يمثلون هالة ضخمة من الغموض والسحر للأوروبيين. ولكن السيدة الحاكمة كانت من النوادر الكبيرة التي أثارت فضول كثيرين من الناس الذين جاءوا إلى رصيف الميناء لمشاهدتها. وتمكنت الشرطة الفرنسية من إخلاء الرصيف حتى تتمكن (البيغوم) من الدخول في عربة مغطاة والانتقال إلى محطة القطارات حيث استقلت واحداً مخصصاً لها بتكليف من الحكومة الفرنسية. وفي العاصمة باريس، أقامت (البيغوم) سلطان جاهان في فندق (ماجستيك). وكانت إدارة الفندق مؤهلة بشكل كامل وسمحت بتقسيم نصف مطبخ الفندق بحيث يتمكن طهاة البيغوم من تحضير طعامها وفقاً للتعاليم الإسلامية. وخلال حفل التتويج، أثارت البيغوم قدراً من التسلية الخفيفة بسبب البرقع الذي غطت به وجهها مع الأوسمة والنياشين التي كانت تزين ملابسها. ويبدو أنّها قد ضربت على وتر مؤثر بشكل خاص مع والدة الملك جورج الخامس، الملكة ألكسندرا التي توفي زوجها أخيراً، حيث تقاسمت معها فقدان ثلاثة من الأحبة، الزوج وابنتين بالغتين».
وكتب إيرا ماثور عن جدته الكبيرة البيغوم سلطان جاهان قائلاً: «عادت إلى إنجلترا في عام 1926، للتنازل عن العرش لصالح ابنها الصغير المفضل، حميد الله خان، بدلاً من ابنها الكبير، في خطوة لم يُسمع بها من قبل قطّ، وكانت غير قانونية كذلك في البلدان ذات الحكم الأميري. ولقد خلعت برقعها أمام الملك وقالت: (لم يسبق لرجل غريب أن اطلع على وجهي. ولقد خلعت برقعي لأنّني شقيقتك ولأنك أخي. إنّني أتنازل عن عرش البلاد لصالح ولدي حميد الله خان). وبعد قدر من الاستياء، رأف الملك بحالها. وبالتالي، وبعد قرن كامل من حكم النساء، انتقلت عباءة الحكم في بهوبال إلى أيدي الرجال. ولكنها كانت فترة قصيرة للغاية، إذ كتب حميد الله خان مرسوماً يقضي بانتقال الحكم بعد وفاته إلى ابنته. وكانت ابنته الكبرى عابدة سلطان قد هاجرت إلى باكستان، وتولت ابنته الصغرى ساجدة سلطان شؤون الحكم في البلاد».
ويُعتَبَر حكم السيدات في بهوبال من الفترات المفعمة بكثير من الأحداث التاريخية، وهي فترة تستحق الدراسة المتفحصة للوقوف على الفروق بين الحكم الذكوري والأنثوي في حياة البلاد والعباد.


مقالات ذات صلة

امرأة تلد في سن الـ61 وتصبح أكبر أم جديدة في مقدونيا الشمالية

يوميات الشرق امرأة مع طفلها المولود (رويترز - أرشيفية)

امرأة تلد في سن الـ61 وتصبح أكبر أم جديدة في مقدونيا الشمالية

أصبحت سيدة تبلغ 61 عاماً أكبر امرأة تلد طفلاً في مقدونيا الشمالية، وفق ما أعلنت السلطات الصحية في الدولة الواقعة في منطقة البلقان الثلاثاء.

«الشرق الأوسط» (سكوبيي (مقدونيا الشمالية))
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
يوميات الشرق جانب من جلسة في دورة سابقة لمنتدى المرأة العالمي في دبي (الشرق الأوسط)

منتدى المرأة العالمي ينطلق اليوم في دبي ويناقش دورها في 3 محاور رئيسية

ينطلق منتدى المرأة العالمي دبي 2024 اليوم ويناقش محاور رئيسية ذات أبعاد استراتيجية تتعلق بدور المرأة العالمي ويبحث اقتصاد المستقبل والمسؤوليات المشتركة.

مساعد الزياني (دبي)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
يوميات الشرق في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)

3 سيّدات يروين لـ«الشرق الأوسط» رحلة الهروب من عنف أزواجهنّ

«نانسي» و«سهى» و«هناء»... 3 أسماء لـ3 نساءٍ كدن يخسرن حياتهنّ تحت ضرب أزواجهنّ، قبل أن يخترن النجاة بأنفسهنّ واللجوء إلى منظّمة «أبعاد».

كريستين حبيب (بيروت)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».