تشيد المجتمعات الحديثة، اليوم، بتحرّر المرأة، وتسعى عبر جمعيات حقوقية خاصة بها لتحقيق المساواة بينها وبين الرجل، ولكن بالعودة إلى ماضي الهند، فقد شهدت البلاد حكم أربع نساء قويّات، قدّمن قصصاً فريدة في تاريخ الهند إبان القرن التاسع عشر وهن: الأرملة البالغة من العمر 18 سنة التي نصَّبت ابنتها الرضيعة ملكة، والزوجة التي نجت من محاولة اغتيالها وسجنت زوجها أسيراً، والأميرة التي تنازلت عن العرش من أجل والدتها، والحاكمة التي شغلت منصب المستشارة الوحيدة لجامعة عليكرة الإسلامية.
وفي نادرة من نوادر الميراث الذكوري في المجتمع الهندي، كانت هؤلاء النساء الراحلات في البلاط الملكي في بهوبال ثاني أكبر ولاية مسلمة في الهند، من أقوى وأكثر الحكام نشاطاً بين عام 1819 و1926 ولفترة بلغت 157 سنة.
وكانت السيدات الحاكمات تُعرف بالهند باسم «بيغوم»، وهو الاسم الرسمي للحكم النسوي. حينها أيضاً واجهت الحاكمات الأربع معارضة قوية من الجيران الأقوياء والرجال المطالبين بالحكم، حتى إن شركة الهند البريطانية قد عارضت في بداية الأمر حكم النساء في بهوبال، فذكرت النساء الحاكمات الملكة فيكتوريا كنموذج وإلهام للحكم النسوي الرشيد، وفرضت كل بيغوم (ملكة)، شخصيتها القيادية على الحكم ونجحت في السيطرة على أغلب السكان الهندوس.
قدسية بيغوم
كانت قدسية أول «بيغوم» تتحدّى النبلاء والأعراف الملكية، عندما أعلنت عن تنصيب ابنتها الرضيعة سيكاندار ملكة في عام 1819، وكانت قد حكمت بنفسها نيابة عنها لمدة 18 عاماً، ودافعت عن المملكة ضد الجيوش الغازية القوية من ماراثاس وسيندياس وهولكارس وغايكوادس، وحفظت ميراث ابنتها الملكي ضد المعارضة الداخلية في البلاد. وقد تمكّن بعض النبلاء من إقناع المستعمر البريطاني، بأن وجود امرأة على سدّة الحكم ينافي الشريعة الإسلامية، لكنّ قدسية ناضلت ودافعت بشدة عن حكمها وواجهت البريطانيين وبالفعل تمكنت من إلغاء الحكم الصادر ضدها. كما استطاعت ابنتها من بعدها ثم حفيدتها تولي مقاليد الحكم في بهوبال كملكات ورثن عرش البلاد كابراً عن كابر. كانت قدسية أُمِّية، إلا أنها ارتقت إلى مستوى المسؤولية عندما اشتدت الحاجة لوجودها.
وجاء ذكر الجدات العظام في كتاب يحمل عنوان «حاكمات بهوبال» من تأليف شاهاريار خان وزير خارجية باكستان الأسبق، وهو حفيد آخر «بيغوم» حكمت ولاية بهوبال.
سيكاندار بيغوم
نشأت سيكاندار (1844 - 1868)، ابنة قدسية، نشأة ملكية كريمة، الأمر الذي قضى على المطالب الذكورية المتتالية بحكم البلاد. كانت بنيتها الجسدية قوية وشبيهة بمحاربات الأمازون في أميركا الجنوبية، وكانت من أبرز المصلحين في القرن التاسع عشر، شهدت بهوبال فترة حكمها عصراً ذهبياً.
تميّزت سيكاندار بقوة شخصيتها، وكانت ترتدي زي الأمراء المسلمين، وتمتطي ظهر الخيل من دون البرقع، وكانت تمارس رياضة البولو، وتخرج في رحلات لاصطياد النمور إلى جانب خبرتها الكبيرة في مبارزة السيف. تمكنت من إعادة تنظيم الجيش الذي تولت قيادته بنفسها. أيدت الطرف المنتصر في تمرد عام 1857، وصارت نجمة كثير من الاحتفاليات البريطانية التي كانت تُعقَد للحكام الهنود. كانت أول حاكمة هندية تخرج في رحلة الحج إلى مكة. وكانت أول من يتم قبولها رسميّاً كوصية على عرش بهوبال.
قالت عابدة سلطان، إحدى المنحدرات من سلالة بهوبال الحاكمة إنّ «سيكاندار بيغوم التي عُرفت بحماسها الشديد للإصلاح القضائي والتعليم، كانت ذات نزعة عدائية واضحة. فبعدما رفع زوجها الساخط عليها السيف في وجهها، صارت رياضتها المفضلة هي إخافته وإرهابه برمي السهام وإطلاق النار، أو من خلال مسابقات الفرسان العنيفة».
شاهجهان بيغوم
انتقل الحكم بعد وفاة سيكاندار بيغوم إلى ابنتها شاهجهان (1868 - 1901). وعلى غرار والدتها، كانت قوية، وتمكنت من إصلاح إدارة الدولة، وقد عملت فعلاً على إصلاح نظام الضرائب والجيش والشرطة والقضاء والسجون. وتمكنت من توسيع الرقعة الزراعية، وأنشأت شبكات الرّي والأشغال العامة على نطاق واسع. غير أنّها أبدت تناقضاً واضحاً مع شخصية والدتها القوية. وعلى الرغم من أن سنوات حكمها الطويلة قد شهدت معارضة مستمرة من كل من البريطانيين والرعايا الهنود إثر النفوذ الظاهر لزوجها الذي لا يحظى بنفس شعبيتها، فإنها تركت علامة كبيرة في الهندسة المعمارية والموسيقى والشعر والفنون، كما أنّها ألَّفَت كثيراً من الكتب.
اكتسبت شاهجهان سمعة جيدة في تحويل بهوبال إلى ولاية نموذجية. وكانت حاضرة في البلاط الإمبراطوري البريطاني في دلهي عام 1877. وخلال سنوات حكمها التي بلغت 49 عاماً أنشأت ثاني أكبر مسجد في آسيا (تاج المسجد)، وقد كلّفت بإنشاء أول مسجد في بريطانيا عام 1889. ارتبط اسمها أيضاً بأقدم مؤسسة إسلامية، ألا وهي كلية محمد أنجلو الشرقية في عليكرة التي تبرعت لها بمنحة مالية كبيرة، وهي الكلية التي تحوّلت فيما بعد إلى جامعة عليكرة الإسلامية.
سلطان جاهان بيغوم
كانت سلطان جاهان (1901 - 1926) آخر بيغوم ومعها ختمت سلالة حكم الأسرة بشخصيتها القوية. كانت من كبار المصلحين على نفي التقاليد والأعراف التي أرستها والدتها وجدتها من قبل. وأنشأت كثير من المؤسسات التعليمية في بهوبال، وأسست نظام التعليم الأساسي المجاني والإلزامي في عام 1918. وخلال فترة حكمها ركزت بشكل خاص على التعليم العام ولا سيما تعليم الإناث. بنت كثيراً من المعاهد الفنية والمدارس وزادت من أعداد المعلمين المؤهلين. ومنذ عام 1920 وحتى وفاتها، كانت المستشارة المؤسسة لجامعة عليكرة الإسلامية، وهي وحدها من شغل هذا المنصب الرفيع في الجامعة، وكانت تتحدث الإنجليزية بطلاقة.
انطلقت سلطان جاهان الحاكمة التي كانت ترتدي البرقع والعاشقة للسفر والترحال إلى مكة لتأدية فريضة الحج في عام 1904، وتحمّلت خلال الرحلة مشاق كبيرة لدى عبورها البحار والصحراء. حضرت مراسم تنصيب الملك جورج الخامس على عرش بريطانيا. وكانت الحاكمة الهندية الوحيدة التي زارت إنجلترا، ثم جالت في رحلة سياحية في كل من باريس وفيينا وبودابست.
وقد كتب سي إتش باين، المستشار التعليمي للبيغوم سلطان جاهان، مذكراته حول زيارتها إلى أوروبا قائلاً: «ازدحم ميناء مرسيليا بكثير من الصحافيين والمراسلين، واجتمع حشد كبير من المواطنين لمشاهدة (بيغوم). فقد كان الأمراء الهنود يمثلون هالة ضخمة من الغموض والسحر للأوروبيين. ولكن السيدة الحاكمة كانت من النوادر الكبيرة التي أثارت فضول كثيرين من الناس الذين جاءوا إلى رصيف الميناء لمشاهدتها. وتمكنت الشرطة الفرنسية من إخلاء الرصيف حتى تتمكن (البيغوم) من الدخول في عربة مغطاة والانتقال إلى محطة القطارات حيث استقلت واحداً مخصصاً لها بتكليف من الحكومة الفرنسية. وفي العاصمة باريس، أقامت (البيغوم) سلطان جاهان في فندق (ماجستيك). وكانت إدارة الفندق مؤهلة بشكل كامل وسمحت بتقسيم نصف مطبخ الفندق بحيث يتمكن طهاة البيغوم من تحضير طعامها وفقاً للتعاليم الإسلامية. وخلال حفل التتويج، أثارت البيغوم قدراً من التسلية الخفيفة بسبب البرقع الذي غطت به وجهها مع الأوسمة والنياشين التي كانت تزين ملابسها. ويبدو أنّها قد ضربت على وتر مؤثر بشكل خاص مع والدة الملك جورج الخامس، الملكة ألكسندرا التي توفي زوجها أخيراً، حيث تقاسمت معها فقدان ثلاثة من الأحبة، الزوج وابنتين بالغتين».
وكتب إيرا ماثور عن جدته الكبيرة البيغوم سلطان جاهان قائلاً: «عادت إلى إنجلترا في عام 1926، للتنازل عن العرش لصالح ابنها الصغير المفضل، حميد الله خان، بدلاً من ابنها الكبير، في خطوة لم يُسمع بها من قبل قطّ، وكانت غير قانونية كذلك في البلدان ذات الحكم الأميري. ولقد خلعت برقعها أمام الملك وقالت: (لم يسبق لرجل غريب أن اطلع على وجهي. ولقد خلعت برقعي لأنّني شقيقتك ولأنك أخي. إنّني أتنازل عن عرش البلاد لصالح ولدي حميد الله خان). وبعد قدر من الاستياء، رأف الملك بحالها. وبالتالي، وبعد قرن كامل من حكم النساء، انتقلت عباءة الحكم في بهوبال إلى أيدي الرجال. ولكنها كانت فترة قصيرة للغاية، إذ كتب حميد الله خان مرسوماً يقضي بانتقال الحكم بعد وفاته إلى ابنته. وكانت ابنته الكبرى عابدة سلطان قد هاجرت إلى باكستان، وتولت ابنته الصغرى ساجدة سلطان شؤون الحكم في البلاد».
ويُعتَبَر حكم السيدات في بهوبال من الفترات المفعمة بكثير من الأحداث التاريخية، وهي فترة تستحق الدراسة المتفحصة للوقوف على الفروق بين الحكم الذكوري والأنثوي في حياة البلاد والعباد.