السرطان... إصاباته القاتلة تهدد كل مناطق العالم

«نحن نستطيع... أنا أستطيع» شعار حملة التوعية بمخاطره في يومه العالمي

السرطان... إصاباته القاتلة تهدد كل مناطق العالم
TT

السرطان... إصاباته القاتلة تهدد كل مناطق العالم

السرطان... إصاباته القاتلة تهدد كل مناطق العالم

يصادف الرابع من فبراير (شباط) اليوم العالمي للسرطان الذي ينظمه سنوياً الاتحاد الدولي لمكافحة السرطان؛ بهدف رفع الوعي العالمي من مخاطر المرض عبر الوقاية وطرق الكشف المبكر للمرض والعلاج. ويتمثل الهدف الرئيسي في تقليل أعداد الإصابة والوفيات بالسرطان إلى أدنى حد بحلول عام 2020، وتحمل الحملة التي أطلقها الاتحاد الدولي لمكافحة السرطان، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية لأعوام 2016 - 2018 شعار (نحن نستطيع... أنا أستطيع).
تشير أحدث التقديرات إلى احتمال حدوث 23.6 مليون إصابة بالسرطان حول العالم بحلول عام 2030، ووفق الإحصاءات المتوافرة عن المرض، فقد أصيب به 14.1 مليون إنسان حول العالم عام 2012، كان 40 في المائة منها في دول العالم متوسطة وقليلة الدخل.
ويحتل سرطان الرئة المرتبة الأولى في أكثر 10 أنواع شائعة من السرطان حول العالم، ويليه سرطان الثدي، ثم سرطانا الأمعاء والبروستاتا. ويشيع سرطان الرئة أكثر بين الرجال في كل مكان في العالم؛ إذ تشخص به حالة واحدة من كل 10 حالات، وقد ظلت سرطانات الرئة والثدي والأمعاء (وضمنها سرطان الشرج)، والمعدة، والبروستاتا منذ عام 1975 من أكثر حالات التشخيص الشائعة بالمرض. ووفقاً للتقديرات، فإن 32.5 مليون مصاب بالسرطان ظل حياً في غضون 5 سنوات سبقت تسجيله عام 2012، وتحتل فرنسا الموقع الأول في عدد الإصابات بين الرجال بواقع 385 حالة لكل 100 ألف رجل، بينما تحتل الدنمارك الموقع الأول في عدد الإصابات بين النساء - 328 لكل 100 ألف، في حين حل لبنان أولاً عربياً بـ200 حالة.
ووفقاً لمقاييس العمر المعيارية، فإن معدلات حوادث الإصابة بالسرطان لدى الرجال تتفاوت بأربع مرات بين منطقة جغرافية وأخرى في العالم، وفي حين تبلغ أعداد الإصابات 79 حالة من كل 100 ألف شخص في أفريقيا الغربية، فإنها تزداد إلى 365 لكل 100 ألف رجل في أستراليا ونيوزيلندا. أما بين النساء، فإن معدلاتها تتفاوت بثلاث مرات، وتتراوح بين 103 حالات لكل 100 ألف منهن في جنوب ووسط آسيا، و295 لكل 100 ألف في أميركا الشمالية.
- إحصاءات عربية
وفقاً للإحصاءات المتوافرة، فإن معدلات الإصابة في الدول العربية تتفاوت بمقدار الضعف بين أقلها وأكثرها إصابة. وفي لبنان، سجلت 200 حالة سرطانية لكل 100 ألف نسمة، تبعتها مصر 152.04، ثم سوريا 145.91، ثم العراق 135.27 حالة لكل 100 ألف شخص. وتبلغ أعداد الإصابات في الأردن 155.4، وفي فلسطين 145.73 لكل 100 ألف شخص.
وفي دول الخليج سجلت 102.12 حالة في الكويت، و92.52 في الإمارات العربية، و91.06 حالة في السعودية، و82.05 في عمان لكل 100 ألف شخص، بينما سجلت في السودان 91.1 حالة، وفي اليمن 80.36 حالة لكل 100 ألف شخص. وسجلت في ليبيا 124.12، وفي الجزائر 123.49، وفي المغرب 117.84، وفي تونس 110.57 حالة لكل 100 ألف شخص.
ووفقاً للعلماء، يوجد نحو 200 شكل متنوع من السرطان، وهو مجموعة من الأمراض التي تتميز خلاياها بالنشاط العدائي المتمثل في تكاثر خلاياه وانقسامها، ثم قدرتها على الانتشار، وغزوها مناطق أخرى من الجسم؛ ولهذا تسمى الأورام الخبيثة تمييزاً لها عن الأورام الحميدة التي تنمو في إطار محدود ولا تقوم بغزو الأنسجة المجاورة.
ولا يزال السرطان من أكثر الأمراض المستعصية التي لم ينجح الأطباء في علاجها نهائياً، رغم الأبحاث الرائدة في هذا المجال. وتشير الإحصاءات إلى أن معدل الوفيات بسبب السرطان انخفض في الولايات المتحدة بـ26 في المائة منذ عام 1991، ويعزى هذا إلى الاختبارات والعلاجات التي طبقت على السرطانات الرئيسية: الرئة والثدي والبروستاتا والقولون. إلا أن معدل الوفيات ارتفع بـ2.7 في المائة سنوياً عند النساء وبـ1.6 في المائة عند الرجال نتيجة إصابات سرطان الكبد بين عامي 2011 – 2015. وعزت جمعية السرطان الأميركية هذا إلى ارتفاع معدل مرض التهاب الكبد «سي».
وتتعدد عوامل الخطر التي تقود إلى الإصابة بالسرطان؛ إذ يزداد خطر الإصابة مع التقدم في العمر ونتيجة التركيبة الجينية، والتعرض لعدد من العوامل الأخرى، منها عوامل ترتبط بأساليب الحياة الغذائية والمعيشية. وتتشابه عوامل الخطر في كل أنحاء العالم، ومنها: التدخين، وتناول الكحول، وحياة الكسل، والنظام الغذائي، والبدانة والسمنة، إضافة إلى العدوى. ويمارس التدخين حالياً نحو مليار شخص في العالم، وهو يتسبب في 33 في المائة من حالات الإصابة، وهو عامل الخطر الأكبر الذي يمكن التخلص منه، بينما يتسبب تناول الكحول في حدوث 12 في المائة من حالات الإصابة بالسرطان.
وأشارت أكبر دراسات لاحتمالات النجاة من السرطان نشرت على موقع مجلة «لانست» الطبية حديثاً، واعتمدت على بيانات من سجلات أمراض السرطان في 71 دولة تغطي 67 في المائة من سكان العالم بين الفترة 2000 و2014، إلى أن النجاة من السرطان تتوسع في دول عدة حتى بالنسبة لأكثر السرطانات خطراً، مثل سرطان الكبد والرئة. وبينما تحسنت معدلات تعافي الأطفال من أورام المخ في الكثير من الدول، وأظهرت الدراسة أن نسبة التعافي وصلت حتى عام 2014 إلى نحو 80 في المائة في السويد والدنمارك، بينما كانت النسبة أقل من 40 في المائة في المكسيك والبرازيل. وقال الباحثون: إن «هذه الفجوة ترجع على الأرجح إلى التفاوت في توفر خدمات تشخيص وعلاج المرض وجودتها».
- السعودية... سرطان الثدي أولاً بين النساء... واللوكيميا لدى الأطفال
ويحتل سرطان الثدي المرتبة الأولى والأكثر شيوعاً بين البالغين السعوديين من الإناث يليه الغدة الدرقية، بينما يحتل سرطان القولون والمستقيم المرتبة الأولى بين الذكور يليه اللمفاوي، ويحتل سرطان ابيضاض الدم (اللوكيميا) المرتبة الأولى بين السرطانات العشرة الأكثر شيوعاً بين الأطفال السعوديين، يليه سرطان الدماغ والجهاز العصبي للذكور والإناث.
وأوضح الدكتور عمر الشريف، استشاري أمراض الدم والسرطان والأورام لدى الأطفال ورئيس قسم أورام الأطفال في مدينة الأمير سلطان الطبية العسكرية، لـ«الشرق الأوسط»، أن الإصابة بالسرطان في ازدياد، ولا يوجد للإصابة به سبب معروف، لكن توجد بعض المسببات التي تؤدي إلى الإصابة به، وهي: المواد والمسرطنات الكيميائية، والإشعاع، والخلل الهرموني والطفرات الجينية، إضافة إلى العامل الوراثي. وأوضح الشريف، أن تناول الأكل غير الصحي واستخدام الأجهزة الإلكترونية لوقت طويل بشكل عام وللأطفال بشكل خاص أحد أهم الأسباب التي أكدت النظريات العلمية أنها مسببه للإصابة بالسرطان، مشدداً على ضرورة منع الأطفال دون سن الثالثة من استخدام الأجهزة الإلكترونية وتقنين استخدامها للأطفال حتى سن 14 سنة.
وتروي لـ«الشرق الأوسط» الدكتورة سامية العمودي، مؤسس ورئيس وحدة التمكين الصحي والحقوق الصحية في كلية الطب في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، تجربتها مع المرض التي حفزتها لإصدار سلسلة من الكتيبات لنشر الوعي وافتتاح عيادة عن الحقوق الصحية الإنجابية لمرضى السرطان، وقالت: «دخلت عالم السرطان في 2006، وتحولت مناحي حياتي الصحية والمجتمعية والنفسية وحتى الاقتصادية، وأصبت به مرة أخرى في عام 2015». وتضيف: «اكتشفت في هذه الفترة أن عالم السرطان مثل المغارة التي بها الكثير من السراديب التي أجهلها، ساقتني لتعلم معنى منظومة العمل المتكامل، ودخلت عالم التمكين الصحي والحقوق الصحية».
وأوضحت استشاري الأشعة التشخيصية الدكتورة فاطمة زينهم، أن سرطان الثدي أكثر إصابة بين النساء في السعودية عن سرطان عنق الرحم، وأن نسبة انتشاره في تصاعد عالمياً، مبينة أن اكتشافه مبكراً يؤدي إلى الشفاء الكامل منه، بينما مراحله المتقدمة تتطلب التدخل الجراحي. وقالت: «السرطان مرض عائلة لا مرض فرد، فأبعاده ليست فقط صحية، بل اجتماعية ونفسية، وأيضاً اقتصادية».
- لبنان: التلوث وسوء إدارة الملفات الصحية يرفعان إصابات السرطان
وتتزايد في لبنان، على نحو مقلق، معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية، في طفرة يردها المختصون أولاً إلى نسب التلوث العالية التي تضرب لبنان، إضافة إلى مخاطر أخرى تتعلق بسلامة الغذاء. وما يزيد من قلة الهيئات المتابعة للمرض في لبنان، هو إصابة فئات عمرية أصغر من المعدل الطبيعي المعتاد. وتطغى في لبنان، ملفات عدة يحذر المختصون من أنها مسؤولة عن ارتفاع احتمالات الإصابة بالمرض، أولها ملف النفايات الذي يشغل اللبنانيين منذ 3 أعوام، وسياسيات الحكومات في التعاطي معها. فالنفايات التي غزت شوارع لبنان، حينها، لم تختف من طبيعته، وكانت العاصفة الطبيعية الأخيرة التي ضربت لبنان الشهر الماضي قد فضحت علنية رمي منظم للنفايات في مجاري الأنهر التي رمتها في البحر، ليستيقظ اللبنانيون على مشهد غريب للنفايات تغزو الشاطئ شمال بيروت. أما تلوث نهر الليطاني، فهو مسؤول بدوره عن زيادة الحالات السرطانية على طول مجرى النهر الأطول في لبنان، في حين تتكفل المبيدات الزراعية بمزيد من الحالات مع تقارير تحدثت عن مبيدات محرمة دولياً تم تهريبها إلى لبنان.
وقد أطلق وزير الصحة العامة غسان حاصباني، الأسبوع الماضي البروتوكولات الطبية للأمراض السرطانية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وتحدث حاصباني عن «التطور الكمي للأمراض السرطانية»، موضحاً أن احتمالات الإصابة بالسرطان انتقلت من 100 إصابة لكل 100 ألف مواطن عام 2006 إلى 200 إصابة، وحالياً إلى نحو 300 إصابة، وفي عام 2016 سجل 13 ألف إصابة جديدة، ويتزامن ذلك مع تطور الكلفة.
وقد كشف السجل الوطني لداء السرطان في وزارة الصحة في لبنان ارتفاعاً مضطرداً في نسبة إصابة اللبنانيات بسرطان الثدي. فاستناداً إلى الإحصاءات الأخيرة التي تم إجراؤها في عام 2015، تم تسجيل 2473 إصابة بسرطان الثدي في لبنان، في مقابل 1993 إصابة في العام 2010.
أما الخطير، فهو أن هذا السرطان الذي يصيب عادة سيدات في عقدهن الرابع وما فوق، يصيب في لبنان فتيات وسيدات في عقديهن الثاني والثالث. وتقول مديرة برنامج مكافحة السرطان في وزارة الصحة العامة الدكتورة فاديا إلياس: إن «النسبة المصابة من العمر الشاب في لبنان هي أعلى بكثير من النسبة المصابة من العمر الشاب في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.» وتبقى هذه الأرقام للأشخاص الذين يعالَجون على نفقة وزارة الصحة في حين أن البعض الآخر يتلقى العلاج على نفقته الخاصة.
- مصر: الاكتشاف المتأخر يزيد الوفيات
ولا يدرك أغلب المصريين إصابتهم بالمرض إلا في المراحل المتأخرة، التي يصعب معها الشفاء؛ وهو ما يفسر الانطباع السائد بأن نسب الإصابة بالسرطان منتشرة في مصر، رغم أنها أقل من الدول المتقدمة، كما يقول الدكتور حسين خالد، عضو اللجنة القومية للأورام بمصر والعميد الأسبق لمعهد الأورام القومي. ويوضح خالد لـ«الشرق الأوسط»، أن «أرقام السجل القومي تسجل 113 حالة جديدة مصابة بالمرض لكل 100 ألف نسمة سنوياً، وهو معدل طبيعي قياساً بالبلدان الأخرى النامية، التي تراوح معدلات الإصابة بها وفق أرقام منظمة الصحة العالمية ما بين 100 و300 حالة لكل 100 ألف نسمة، في حين أن المعدلات تراوح في الدول المتقدمة ما بين 300 و500 حالة لكل 100 ألف».
ويخلص خالد إلى القول: إن «معدلات الإصابة بالمرض لا تزال في المنطقة الخضراء الآمنة»، لكنه يخشى في الوقت ذاته من «ازديادها مستقبلاً إذا لم ننجح في السيطرة على مسبباته». ويضيف: إنه «مع التقدم الكبير الذي حدث في علاج فيروس (سي) بمصر، من المتوقع أن تنخفض معدلات الإصابة بسرطان الكبد الذي يحتل حالياً المرتبة الأولى في معدلات الإصابة بالسرطان في الرجال (39 حالة تقريباً لكل 100 ألف من الرجال)، وما نأمله هو أن ننجح في السيطرة على المسببات الأخرى للمرض».


مقالات ذات صلة

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

صحتك استهلاك الأطعمة التي تحتوي على «أوميغا 3» و«أوميغا 6» مثل الأسماك الزيتية يقلل معدل خطر الإصابة بالسرطان (جمعية الصيادين الاسكوتلنديين)

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

وجدت دراسة أن استهلاك «أوميغا 3» و«أوميغا 6»، وهي الأحماض الدهنية التي توجد في الأطعمة النباتية والأسماك الزيتية، قد يؤثر على معدل خطر الإصابة بالسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فطر "الزر الأبيض" قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا (رويترز)

نوع من الفطر يبطئ نمو سرطان البروستاتا... تعرف عليه

أكدت دراسة جديدة أنَّ فطر «الزر الأبيض» قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا عن طريق إعاقة نمو الورم، ودعم الخلايا المناعية المقاومة للسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك حقن فيتامين سي عبر الوريد تتيح تحقيق مستويات مرتفعة لا يمكن الوصول إليها عبر الأقراص الفموية (جامعة أيوا)

فيتامين سي يحسن نتائج علاج سرطان البنكرياس

كشفت دراسة سريرية أميركية عن نتائج وُصفت بـ«الواعدة» لعلاج سرطان البنكرياس المتقدم باستخدام فيتامين سي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
صحتك أطباء يحاولون إسعاف مريضة بـ«كورونا» (رويترز)

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

كشفت دراسة جديدة، عن أن الإصابة بفيروس كورونا قد تساعد في مكافحة السرطان وتقليص حجم الأورام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك رجل مريض بالسرطان (رويترز)

هل يقلل التعافي من السرطان احتمالات الإصابة بألزهايمر؟

منذ سنوات، بدأ الباحثون وخبراء الصحة في دراسة العلاقة بين السرطان وألزهايمر، وما إذا كان التعافي من المرض الخبيث يقلل فرص الإصابة بألزهايمر.

«الشرق الأوسط» (لندن)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».