خيارات محدودة للمقاتلين الأجانب بعد تحرير الرقة

مقاتلون أجانب في الرقة في مشهد أخير قبل اندحارهم («الشرق الأوسط»)
مقاتلون أجانب في الرقة في مشهد أخير قبل اندحارهم («الشرق الأوسط»)
TT

خيارات محدودة للمقاتلين الأجانب بعد تحرير الرقة

مقاتلون أجانب في الرقة في مشهد أخير قبل اندحارهم («الشرق الأوسط»)
مقاتلون أجانب في الرقة في مشهد أخير قبل اندحارهم («الشرق الأوسط»)

فقدت «داعش» بريقها وجاذبيتها بعد هزائمها المتتالية، في سوريا والعراق، وغدت طاردة بعد أن كانت دار هجرة، لتترك المقاتلين الأجانب فيها يبحثون عن ملاذ لهم بخيارات محدودة ومخاطر تظل محتملة، بعد أن كانت ملاذهم. في البداية نشير إلى تراجع أعداد المقاتلين إلى بضعة آلاف قليلة، خلال المعارك الأخيرة، قبل وبعد سقوط الرقة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الحالي، في يد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بعد مرور نحو أربعة أعوام على إعلان عاصمة لخلافة التنظيم المزعومة، وبعد عام من سقوط «دابق» التي كانت وعد حروب آخر الزمان، والتي جندت به «داعش» الآلاف من المقاتلين الأجانب لصفها، وجعلته اسما لمجلتها بالإنجليزية التي تستهدفهم، والتي توقفت لبعض الوقت بعد خسارتها لكثير من كوادرها.

بدأت عمليات قوات سوريا الديمقراطية في الرقة «قسد» في 6 يونيو (حزيران) 2017، حتى نجحت في السيطرة على معظم قرى وبلدات المحافظة، وبينما تنجح العناصر والكوادر المحلية التي انضمت للتنظيم في الذوبان في مجتمعهم أو العودة لمناطقهم، وهو ما حدث في ليبيا بعد سقوط سرت، حيث ذاب المقاتلون المحليون في بلادهم ووسط قبائلهم، بينما تم القبض على بعض الأجانب، وتوجه البعض بعملياته وخططه إلى مصر كما يرجح في تفسير بعض العمليات الأخيرة.
هكذا، يواجه المقاتلون الأجانب الذين عاشوا في جيتوهات «داعش» وكتائبها الموزعة على الجنسيات صعوبة بل استحالة في هذا الذوبان! لاختلاف اللغات والثقافات والأشكال، وأيضا للقسوة التي عرف بها كثير منهم وتمنع إمكانية التعاطف معهم في الآن نفسه، وهو ما يتضح في عدم شمول الاتفاق بالعفو عن الأجانب أو السماح لهم بخيار العودة السهلة، والذي قاده وتوسط فيه بعض وجهاء وشيوخ العشائر في المدينة، بل انحصر في المقاتلين المحليين وبعض المدنيين فقط.

تراجع في الأعداد
وصلت أعداد المقاتلين الأجانب عامي 2014 و2015 إلى 25 ألف مقاتل أجنبي هاجروا إليها من مائة دولة حتى وصلوا الأراضي التي تسيطر عليها «داعش» في سوريا والعراق، لكن هذه الأرقام تراجعت كثيرا، منذ بدايات 2016.
تراجعت أعداد المقاتلين الأجانب مع تراجع جاذبية الهزائم وفقدانه بريقه، منذ أواسط العام 2016 وصعود الخلافات الداخلية داخلها، فبينما كان التدفق عبر الحدود التركية السورية يصل إلى 2000 مقاتل شهريا وصل في يونيو سنة 2016 إلى 50 مقاتلاً فقط كل شهر حسب تقرير للاستخبارات الأميركية، ويرجح أنه يكاد ينعدم خلال الشهور القليلة الماضية.
سقط الحلم، وهمدت العاطفة الإيمانية، فأغلب المقاتلين الأجانب كانوا فارغين من العلم الديني، حسب دراسة حديثة لمكتب مكافحة الإرهاب في الأمم المتحدة صدرت في أغسطس (آب) الماضي 2017 وشملت 43 عنصرا عائدا لوطنه من 12 دولة مختلفة أغلبهم يعاني من نقص المعرفة الأساسية بالإسلام ومبادئه ولكن أغرتهم العاطفة، ووعود الخلافة المزعومة فقط.
ويثبت هذا النقص في المعرفة أن 25 في المائة من مقاتلي «داعش» كانوا من المتحولين الجدد إلى الإسلام، الذين لم يسبق لهم التعرف على الإسلام الوسطي، والتقطتهم عناصر «داعش» عبر الغرف والمواقع التفاعلية على شبكة الإنترنت، إغراء بدار الإسلام وتحقق يثرب الجديدة أو وعود الزواج للنساء والصغيرات بالخصوص كما شهدنا في حالة حسناء «داعش» الألمانية التي بلغت من العمر 16 عاما وقبض عليها في الموصل.

تقلص الخيارات
تحفز مستمر ودائم للخلايا النائمة وفلول العناصر المقاتلة المهزومة، ففي سوريا بعد سقوط الرقة تقوم قوات سوريا الديمقراطية، كما سبق أن قامت القوات العراقية بالبحث عن بعض «الخلايا النائمة» ومطاردة المشبوه فيهم، خصوصاً أن «الخلايا النائمة» في التنظيمات العنقودية كـ«داعش»، تفاجئ دائما أعداءها بما هو غير متوقع، كما تطارد «قسد» بعض العناصر التي رفضت الاستسلام وما زالت تتحصن داخل بعض الأماكن مع عائلاتها رغم محدودية الخيارات المتاحة أمامه في كل الأحوال، كذلك تتحفز دول المقاتلين الأجانب ومواطنهم الأصلية لمخاطر عودتهم بكل استعداد أمني، وتتوجس خيفة من كل من يمكن أن يكون مشتبهاً به، أكان مواطناً أصلياً أو مهاجراً، وقد قامت ألمانيا بعد قرار المحكمة العليا بتهجير عدد من اللاجئين لشبهة الإرهاب خلال الأسابيع القليلة الماضية.
إن أوضاع المقاتلين الأجانب أخطر بكثير من المواطنين المحليين، فالأخيرون يمكن إدماجهم أو اندماجهم واختفاؤهم وسط مجتمعاتهم، هذا ما حدث بعد تحرير الموصل في يونيو سنة 2017 بعد سقوط سرت بيد قوات مصراتة في ليبيا في أكتوبر الماضي، ويبدو أنه ما سيحدث في سوريا بعد الرقة ولكن المقاتلين الأجانب أمامهم إما العودة لبلدانهم وإما مواصلة الحرب إن استطاعوا أو الاستسلام.
يبدو أن الموقف صعب وتضاربت الأنباء بخصوص الأجانب، ورغم ظهور تقارير كثيرة تشير إلى خروج بعض المقاتلين الأجانب في إطار الاتفاق الأخير وتصريحات بعض المسؤولين المحليين في الرقة، فإن المجلس المدني بالرقة، الذي يضم ممثلين عن العشائر، في 15 أكتوبر 2017، نفى خروج هؤلاء وأكد أن «المقاتلين الأجانب ليسوا ضمن اهتمامات المجلس المدني ولجنة العشائر، ولا يمكن الصفح عنهم»، مضيفاً أن «المستسلمين هم فقط سوريون وعددهم مع عوائلهم 275 شخصاً».
ولن يتكرر هذا المرة اتفاق «حزب الله» و«داعش» على السماح لمجموعات من مقاتلي «داعش» للدخول إلى الحدود السورية مع العراق، رغم رفض العراق وإعلان تحفظه والنقد الدولي لهذا التصرف الغريب، وهو ما حدا بالتحالف الدولي للحرب على «داعش» على لسان المتحدث باسمه العقيد رايان ديلون، غداة «تحرير الرقة» أن يؤكد أن «التحالف لن يسمح للمقاتلين الأجانب في (داعش) بمغادرة الرقة»، بما يعني - كما ذكر تحليل لمركز المستقبل للدراسات المتقدمة في أبوظبي - أن القوى الدولية المنخرطة في الحرب ضد التنظيم تبدي اهتماماً خاصاً بتلك القضية، التي ترى أنها فرضت تداعيات مباشرة على أمنها خلال المرحلة الماضية، بعد العمليات الإرهابية التي وقعت في كثير من العواصم الغربية، على غرار باريس وبروكسل ولندن. ويبدو أن ذلك سوف يسهم بدوره في تحديد الخيارات المتاحة أمام المقاتلين الأجانب الذين ما زالوا موجودين داخل الرقة.
إن الجميع يتوجس خيفة من عودة المقاتلين الأجانب الذين يتميزون بكفاءات عالية، وبعضهم من قيادات «داعش» الأساسية، والأكثر قدرة على تنفيذ عمليات إرهابية غير تقليدية كالعمليات الانتحارية أبرز ما استخدمه التنظيم من أسلحة، أو قدرتهم على التجنيد والتشبيك كدور يوسف الهندي وزير صحة «داعش» الذي ظهر في فيديو له قبل فترة ويدعى «أبو مقاتل الهندي»، الذي جند عددا كبيرا من الأطباء من الهند وباكستان وسريلانكا للعمل مع القطاع الصحي لـ«داعش»، ويعتبر مع طبيب هندي آخر من ولاية كيرلا المسؤول الرئيسي عن عدد من عمليات «داعش» في الهند خلال الأسابيع الأخيرة.
ولم تكن العمليات الإرهابية التي نفذها «داعش» في أوروبا وخاصة فرنسا والولايات المتحدة وغيرها إلا عبر عدد من المقاتلين الأجانب الذين تمكنوا من العودة لبلدانهم الأصلية، كما تعاني مصر من عودة بعض المقاتلين المنسوبين لـ«داعش» من ليبيا ومن سوريا والعراق. إن الجميع يتحسب ويشعر بالخطر من عودة المقاتلين الأجانب كما يشعر به جبهات عدائهم في الداخل السوري والعراقي.

ثلاثة بدائل ضيقة جداً
حدد «مركز المستقبل للدراسات المتقدمة» في أبوظبي عددا من البدائل الضيقة، لمصير المقاتلين الأجانب في سوريا بعد تحرير الرقة، انطلاقا من حرص «قوات سوريا الديمقراطية» على تأمين تحريرها وأمان خطر فلول «داعش»، في مسارات ثلاثة تمثل خيارات محدودة وبدائل ضيقة للتنظيم هي كما يلي حسب التحليل المشار إليه:
1 - مواصلة الانخراط في مواجهات مسلحة: خاصة في ضوء الأهمية الخاصة التي يبديها بعض مقاتلي التنظيم لمحافظة الرقة تحديداً، التي مثلت المعقل الرئيسي للتنظيم وعاصمته، بشكل سوف يدفع الكثير منهم إلى تفضيل البقاء داخل المدينة على الخروج منها إلى مناطق أخرى يسيطر عليها التنظيم. بل إن بعضهم قد يستمر في قتال عناصر ميليشيا «قسد» تجنباً للوقوع في الأسر.
2 - الهروب من المدينة: ربما يحاول بعض المقاتلين الأجانب الهروب من المدينة والانتقال إلى المناطق الأخرى التي يوجد بها التنظيم أو إلى أي منطقة أخرى، خاصة أن بعضهم لم ينضم إلى الأخير بسبب توجهاته الفكرية، وإنما لاعتبارات أخرى يأتي في مقدمتها الحصول على موارد مالية. ومن هنا، فإن هذا الفصيل قد يسعى إلى تجنب خياري الأسر أو القتل، من خلال العمل على البحث عن مسارات للخروج من المدينة، إلا أنه قد يواجه صعوبات في هذا السياق بسبب الحصار الذي تفرضه ميليشيا «قسد» على المدينة.
3 - الاستسلام لميليشيا «قسد»: لا سيما أن الأخيرة نجحت في السيطرة على معظم أنحاء المحافظة، وقد أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان بالفعل إلى أن ما بين 130 إلى 150 مقاتلاً أجنبياً استسلموا لميليشيا «قسد» قبل انتهاء المعارك. وترجح تقارير كثيرة أن تقوم الميليشيا الكردية بفتح قنوات تواصل مع الدول التي ينحدر منها هؤلاء المقاتلون من أجل البحث في الآليات المتاحة لإعادتهم إليها من أجل محاكمتهم.
لا شك أن ظاهرة «المقاتلين الأجانب» وعودتهم أو «العائدين من مناطق الصراع»، تهدد العالم أجمع، وليس فقط أعداءهم المحليين، وقد انتبه الاتحاد الأوروبي لذلك في أكثر من مرة خلال الشهور الماضية حسب عدد من التقارير، ولكن نظن أن فلول «داعش» التي فقدت كل أساس جاذبية لها، المكان والزمان، سيكونون أقل خطرا من العائدين من أفغانستان عقب الجهاد الأفغاني أو فروع «القاعدة» التي لم تستغرق ولم تعد منسوبيها بمثل ما ادعت «داعش»، ويبدو أن دراسة مكتب مكافحة الإرهاب بالأمم المتحدة الأخيرة تثبت أن جميع من عادوا هم في مرحلة المراجعة والندم أكثر منهم في مرحلة التحفز لعمليات جديدة، بعد سقوط التنظيم ودولته المزعومة، ولكن لا ينفي هذا الاستعداد لاحتمال الخطر.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».