هوليوود تستنكر إرهاب لاس فيغاس بإلغاء حفلاتها

الحادثة تعيد أفلام العنف المسلح إلى الواجهة

«بلايد رانر» الجديد لغى حفل افتتاحه
«بلايد رانر» الجديد لغى حفل افتتاحه
TT

هوليوود تستنكر إرهاب لاس فيغاس بإلغاء حفلاتها

«بلايد رانر» الجديد لغى حفل افتتاحه
«بلايد رانر» الجديد لغى حفل افتتاحه

أحدهم باع رشاشاً. الآخر اشتراه. يوم أمس اختار المشتري دخول محفل موسيقي ورش رصاصه على الموجودين. قتل من قتل وجرح من جرح ثم استخدم سلاحه ليقتل نفسه.
هوليوود لا تبعد عن لاس فيغاس أكثر من نصف ساعة بالطائرة (ونحو أربع ساعات بالسيارة) لكن التأثير واحد في كل مكان. هلع وخوف وتساؤلات حول المستقبل وسوق السلاح المفتوح برضا الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
الممثل مارك روفالو كتب على «تويتر»: «يوم بائس. بائس لأن هذا يحدث مرة بعد مرة. بائس لأن هذه الأرواح البريئة فقدت حياتها بسبب رشاش يحب العنف. بائس لأن لا شيء سيحدث للسيطرة على هذا الوضع». وشاركته الفنانة لادي غاغا في توجيه اللوم لتجارة السلاح: «هذا إرهاب واضح. الإرهاب لا يعرف عنصراً أو جنساً أو ديانة. أيها الديمقراطيون والجمهوريون توحدوا لضبط السلاح».
المخرجة آفا دوفيرني، التي حققت قبل عامين فيلماً ضد العنصرية كتبت معلقة على أوصاف الإعلام للمجرم: «هو ذئب منفرد. قاتل محلي. مسلح. أي تسمية وكل تسمية باستثناء أنه إرهابي. أتعجب لماذا».
لكن لا أحد فعلاً يعتقد أن الحادثة، على بشاعتها، ستكون المنطلق للتقدم في مسألة التجارة المفتوحة لبيع الأسلحة النارية. لقد برهنت عشرات العمليات والأحداث السابقة التي وقعت في الولايات المتحدة عن عجز الحكومات الموافقة على الحد من بيع السلاح للعموم. بضعة أفلام دارت حول هذا الموضوع لكنها مجرد أفلام تحمل تمنيات.
آخر هذه الأفلام كان «مس سلون» الذي افتتح مهرجان دبي الماضي وفيه تقلب جسيكا شستين الطاولة على من يريد الحفاظ على تجارة السلاح دون مساس. «بولينغ فور كولمباين» لمايكل مور (2002) كان أحد الأفلام الأهم في هذا الاتجاه. بنى المخرج موقفه استناداً على حادثة كلية كولمباين عندما توجه طالبان شابان إليها وحصدا أرواح أبرياء آخرين.
- إرهاب بوسطن
في هوليوود، ستختفي حفلات الغالا والبسط الحمراء في مطلع الويك - إند المقبل عند افتتاح فيلمين جديدين أحدهما هو Blade Runner 2049 وهو الفيلم الذي يتوقع له تبوؤ المركز الأول في الإيرادات، والثاني هو «مارشال». يأتي السبب من باب التعبير عن الحزن لسقوط الضحايا وكمواساة لأهاليهم، لكنه لا يبتعد عن الخوف من أن يتكرر الحدث عند باب صالة السينما التي ستشهد، كالعادة في هذه المناسبات، حشداً من المعجبين والفضوليين قد يغري أحدهم بارتكاب مجزرة أخرى، أو بالتسلل داخل الصالة وارتكاب ما يحلو لمخيلته المريضة ارتكابه.
وكما أن غالبية الحوادث الإرهابية الداخلية تم اقتباسها إلى شاشات السينما والأعمال التلفزيونية، فإن حادثة لاس فيغاس لا بد أنها ستتبلور فيلماً سينمائياً أو تلفزيونياً بعد سنوات قليلة. في الواقع، يوجد من بين العروض الحالية فيلم عن حادثة إرهابية موازية وقعت في مدينة بوسطن قبل ثلاثة أعوام عندما تم وضع متفجرة عند نهاية خط سباق الماراثون.
الفيلم هو «أقوى» (Stronger) لديفيد غوردون غرين الذي يروي فيه حكاية جف بومان، الذي فقد ساقيه في الانفجار لكنه ساعد في الكشف عن المتهمين كونه لاحـظهما وحفظ ملامحهما. جاك جيلنهال يقوم بالدور الذي ربما أفضى به إلى حلبة الأوسكار المقبل.
في العام الماضي كنا شاهدنا فيلماً آخر عن هذا الموضوع ذاته هو Patriots Day الذي حققه بيتر بيرغ من بطولة مارك وولبيرغ. هذا دار حول رجل البوليس، مارك وولبرغ، الذي نشط في تتبع آثار الفاعلين مباشرة بعد الحادثة.
الأرقام المتاحة تؤيد هوليوود في إنتاجاتها لأفلام تروي مثل هذه المذابح. أكثر من 83 أميركياً يسقط قتيلاً للعنف المسلح في الولايات المتحدة كل يوم. هذا لجانب نحو 60 أميركياً آخرين يسقطون جرحى. ومنذ حادثة كولمباين المشار إليها تعددت حوادث إطلاق النار في المدارس والكليات والجامعات. الأرقام تفيد بأنه من العام 2012 (عندما وقعت حادثة مماثلة في بلدة ساندي هوك أودت بحياة 20 طالباً) فإن أكثر من مائة حادثة عنف فردية أو جماعية مماثلة وقعت في مؤسسات تعليمية أخرى.
- انجراف
لحين، جرى لوم السينما على استشراء العنف. لكن إذا ما كان «صائد الغزلان» لمايكل شيمينو (1978) دفع حفنة من الناس لتجربة لعبة الروليت الروسية (وضع رصاصة واحدة في بكرة مسدس ثم الرهان على حياة أو موت من سيضع فوهة المسدس على صدغه) فإن الحروب المستعرة والإرهاب المنتشر حول العالم - وانطلاقاً - من حادثة نيويورك سنة 2001 لا علاقة له بأي فيلم أو تيار سينمائي. بعض المرتكبين يكره السينما وربما لم يشاهد فيلماً منذ أن بلغ السادسة عشرة من العمر.
ما هو حاصل بالتحديد، هو حالة انفصام حادة عاشتها هوليوود منذ الأزل.
ففي الوقت الذي ينتمي معـظم السينمائيين إلى خطي اليسار والليبرالية اللذين عادة ما يعارضان حمل السلاح وشيوع اقتنائه، لا تتوقف الأفلام التي تقدس العنف كسبيل لإثارة الحوافز العاطفية لدى المشاهدين. كل تلك الأفلام القائمة على حوادث قتل مسلحة وعمليات عصاباتية وإرهابية نرى فيها الموت يحصد من القتلى أكثر مما يمكن لرشاش أو مسدس خزنه من رصاصات هي تذاكر مبيعة لجمهور راغب.
أكثر من ذلك، نجد أن معظم النجوم وصل إلى ما وصل إليه من شهرة أو مكانة بسبب أدوار حول أبطال مسلحين ينجرفون في القتل تحت مبدأ أو آخر لا فرق إذا ما كان مصيباً أو مخطئاً. هذا يشمل كلينت إيستوود، هاريسون فورد، أرنولد شوارتزنيغر، بروس ويليس، صامويل ل. جاكسون، توم كروز، روبرت داوني جونيور، سلفستر ستالون، ستيفن سيغال، رايان رينولدز والكثير سواهم.
- قوة الماغنوم
المسدس كان دوماً مثار إعجاب المتلقين. عندما يتقلد الممثل مسدسه تعرف أن المواجهة مقبلة وترتفع درجة توقعاتك. عندما يفتح البطل درجاً في منزله ليخرج مسدساً كان وعد نفسه بأن لا يلمسه مرّة ثانية تعلم أنه سيدخل معركة مقبلة فيزداد حماسك. أطفال أفلام سام بكنباه يشهدون العنف ماثلاً أمامهم فيتشربونه. يمارسونه (مشهد أطفال يحرقون عقرباً في مطلع «المجموعة المتوحشة» The Wild Bunch) أو يحلمون بارتكابه (مشهد توجيه طفل مسدس ماء إلى وجه ستيف ماكوين في فيلم «الهروب»).
مطلع فيلم «قناص أميركي» لكلينت إيستوود هو عبارة عن مشهد افتتاح يؤسس كيف تشرب المجند كريس كايل العنف صغيراً. وفي فيلم It الحالي يوصي أب ابنه بالقتل: أنت إما تقتل وإما تُقتل. لكن الفارق بين أفلام الأمس واليوم يكمن في أن أفلام الأمس كانت مزيجاً من الوله بالمسدس وازدرائه إلا في الحالات التي لا يعد فيها من الممكن عدم الاحتكام إليه.
في «حدة الـظهر» (High Noon) لفرد نمان (1952) يرمي الشريف غاري كوبر نجمته على الأرض احتجاجاً على مجتمع يشيح بوجهه خوفاً على حياته. جيمس ستيوارت في «ديستري يغزو ثانية» (Destry Rides Again) لجورج مارشال (1939) يحاول استخدام السلم وتحقيق القانون من دون سلاح ولو أنه في النهاية يلجأ إليه.
وكل فلسفة مسلسل «كونغ فو» (1972 - 1975) في السبعينات تقوم على أن بطله، ديفيد كارادين، ينتصر في كل مواقعه مستخدماً قبضتي يديه وحركات الكونغ فو في مواجهة الأشرار حاملي المسدسات.
كذلك كان حال البطل المنسي بيلي جاك (1971) الذي ينتصر على كل الأشرار بالطريقة نفسها ومن دون أن يطلق النار ولو مرّة واحدة.
تلك بعض الأفلام التي انضوت على دعوة بحد ذاتها سلمية وانتصرت لها. لكن المقابل حيث يكون الاعتماد على المسدس فضيلة ومبدأ سائداً وعليه أن يستمر أكثر عدداً بكثير. المسدس كان غالباً الحل الأمثل لإخماد نزاع ولانتصار الحق على الباطل والفضيلة على الرذيلة.
على نحو أعمق بقليل، هو دليل رجولة وعنفوان ذكوري إذا ما كان في يد البطل. هذا موحى به جيداً في مشهد لقاء بوني (فاي داناواي) بكلايد (وورن بيتي) في «بوني وكلايد» لآرثر بن. يلي هذا التوجه الكثير من القناعات الكثيفة حول اتخاذه سنداً لحامله.
في «رغبة موت» (Death Wish) يلجأ تشارلز برونسون إلى السلاح لكي ينتقم من العصابة التي قتلت زوجته واغتصبت ابنته. وبما أنه لا يعرف تلك العصابة وجهاً لوجه لا مانع لديه من معالجة فاشية للقانون فيبدأ بقتل كل من يراه يرتكب جريمة ما. تنتهي السلسلة بجزء خامس أسخف من الأول نرى فيه برونسون وهو يقتل عشرات الشبان الذين أثاروا الرعب في أوصال عجوز يهودي مسالم.
لكن أفضل من تعامل والمسدس على أساس أنه وسيطه لحل القضايا العالقة، حتى وإن لم تكن شائكة، كان كلينت إيستوود في «ديرتي هاري».
عبارته الشهيرة وهو يصوّب مسدسه للشرير (الأبيض أندرو روبنسون) ما زالت تثير الإعجاب: «أعرف ما تفكر به: هل أطلقت ست رصاصات أو خمس رصاصات فقط؟ حقيقة فإني خلال الحماس لم أحسب. لكن بما أن هذا المسدس من نوع ماغنوم 44 أقوى مسدس في العالم يستطيع أن يفصل رأسك عن جسدك، فإن السؤال الذي عليك أن ترد عليه هو (هل سأكون محظوظاً؟)».
ثم يختم بالقول: So do you feel lucky‪، ‬ punk.
ما يستمد عادة من أفلام هذه السلسلة (وسواها أيضاً) هو أن كلينت إيستوود (أو هاري القذر كما لقبه في الفيلم) لا يثق بالقانون الذي ينص على أن المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته، ولا بالمحامين الذين يتدخلون ويفرجون عن القتلة ولا بالميديا لأنها ليبرالية تميل إلى اتهام رجال البوليس بالعنف. لكن الثابت على أي حال هو أن كثيرين من البشر لم يعرفوا مزايا مسدس ماغنوم 44 إلى أن أعلن عنه كلينت إيستوود في ذلك الفيلم سنة 1971. والإحصاءات تقول إن نسبة مبيعاته بعد الفيلم ارتفعت بنسبة 80 في المائة عما كانت عليه قبله.


مقالات ذات صلة

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)