اغتيال صحافية هندية يثير احتجاجات ومظاهرات

انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ساهم في زيادة حدة المضايقات

اغتيال صحافية هندية يثير احتجاجات ومظاهرات
TT

اغتيال صحافية هندية يثير احتجاجات ومظاهرات

اغتيال صحافية هندية يثير احتجاجات ومظاهرات

تسبب اغتيال الصحافية غاوري لانكيش في إثارة موجة غضب عارمة اجتاحت البلاد وفي قيام مسيرات احتجاجية ضمت الآلاف احتجاجاً على ما اعتبروه محاولات لتكميم الأفواه الحرة في مجتمع يفترض أنه ديمقراطي علماني.
وقتلت غاوري برصاص أطلقه مجهولون خارج منزلها أثناء خروجها من سيارتها بمدينة بنغالور الهندية التي يماثل نشاطها وادي السليكون بالولايات المتحدة. وأشارت التقارير إلى أن مهاجميها كانوا ينتظرونها على الطريق السريع لحين عودتها من العمل وأنهم أمطروا زجاج سيارتها بوابل من الرصاص ليردوها قتيله في الحال ثم فروا من المكان.
لم تكن غاوري أول صحافية هندية تلقي حتفها بتلك الطريقة البشعة. فالصحافية التي ماتت عن عمر ناهز 55 عاما طافت دول العالم وحظيت باحترام كبير ونشرت كتاباتها على نطاق واسع. كانت غاوري قد بدأت عملها بصحيفة تصدر باللغة الإنجليزية قبل أن تعود مجددا إلى منطقة بنغلاروا لتدير صحيفة «لانكيش باتريك» التي أسسها والدها الشاعر والأديب الكبير بي لانكيش بمدينة كارناتكا. عندما صدرت للمرة الأولى في الثمانيات، استطاعت الصحيفة تغيير المشهد الإعلامي في المنطقة بأسرها بأسلوبها الساخر من الساسة وبانتقائها للموضوعات التي تشغل البسطاء والفلاحين أكثر مما تهم سكان الحضر.
ورثت غاوري لانكيش الصحيفة عام 2000 عقب وفاة والدها. وانتقلت ملكية الصحيفة ومسؤولية محتواها إلى غاوري لتعكس من خلالها آراءها الجريئة في الشأنين الاجتماعي والسياسي، وكانت تميل إلى اليسار وكثيرا ما دافعت عن القضايا التقدمية وانتقدت رئيس الوزراء ناريندرا مودي والتيار الهندوسي الشعبوي اليميني المتشدد الصاعد وحزبه «بي جي بي». وسرعان ما حققت صحيفتها انتشارا كبيرا وترددت أراؤها في أرجاء مدينة كرانتكا لتصبح شوكة في حلق الساسة المحليين للحد الذي دفع اثنين لمقاضاتها وتمكنا من استصدار أحكام قضائية ضدها.
ترهيب عبر وسائل التواصل
فبينما قامت بعض الكيانات الصحافية بالتظاهر للتعبير عن غضبها لمقتل غوري لانكيش، وجه رجل تهديدات لخمس صحافيات وكاتبات عبر موقع «فيسبوك». ومن ضمن تلك الصفحات صفحة باسم «فيكرام أديتا رانا» الذي نشرت الكثير من التهديدات عقب اغتيال لانكيش. وفي أحد تلك التهديدات، قال صاحب الصفحة: «ليس لدي ذرة من تعاطف تجاهها. كنت أتمنى لو أنهم أمطروها بوابل من الرصاص ودمروا شقتها». وامتدح صاحب صفحة «فيسبوك» القتلة قائلاً: «هذا أفضل عقاب على ما ألحقته تلك الصحافية المزعومة من أضرار بشعبنا». وفي تعليق آخر، كتب نفس الشخص: «ليكن اغتيال غاوري لانكيش عبرة لأعداء القومية الذين يتنكرون في هيئة صحافيين ونشطاء. أتمنى ألا يكون ما حدث نهاية المطاف وأن يكون حلقة في سلسلة من الاغتيالات تطال أعداء القومية مثل شوبا دي، وأرونداتي روي، وساغريكا غوس، وكافيتا كريشان وشيلا راشد وغيرهم من أعداء القومية. فهناك قائمة اغتيالات طويلة».
الصحافيات الهنديات
قالت أوشا راي، إحدى أوائل الصحافيات في الهند، في مقال نشر بمعهد «بريس إنستيتيوت أوف إينديا»: «استمرت مهنة الصحافة حكرا على الرجال حتى حقبة الستينات، وكانت الصحف والمجلات ترفض تعيين الصحافيات. كان الناس يحدقون فيهن وكانت التساؤلات تثار عن قدرتهن على الاستمرار في هذا العمل الشاق». وبعد أن تغيير المجتمع الهندي وظهرت مدارس الصحافة، بدأت النساء في التسلل إلى قاعات الدراسة ببطء وعلى استحياء وكن يفضلن الدروس المسائية وكن يخترن الأقسام الهامة مثل السياسة والعلاقات الخارجية إلى أن وصلن للمناصب القيادية.
لكن صراع الصحافيات مع التفرقة لم ينتهِ بعد، فالصحافيات الهنديات يواجهن مختلف التهديدات التي تصاحب مهنة البحث عن الخبر، بدءا من الاعتداءات الجسدية إلى الترهيب، وكذلك يواجهن التيار المناوئ للنساء في تلك المهنة، ناهيك بالتحرش.
فطبيعة التهديدات التي تتلقاها الصحافيات لكتابتهن فيما يهم الشأن العام التي تتسبب في كثير من الضيق للنافذين غالبا ما تكون جنسية. في ذات الصدد، تتذكر غيتا سيشو، مستشارة التحرير بموقع المراقبة الإعلامية «ذا هوت» ومقرها مومباي والعضو بلجنة حماية الصحافيين، حالة شبيهة تعرضت فيها صحافية بولاية أنغرا للاغتصاب عقابا على أدائها لعملها.
ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، باتت المشكلة أكثر تشعبا. فبالإضافة إلى التحرش الجنسي، بات النساء يتعرضن للتعقب عبر «فيسبوك» و«تويتر» وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي بسبب مواقفهن السياسية بل والاجتماعية أيضا.
وبينت سونال ميهروتا، الصحافية الكبيرة بقناة «إن دي تي في» الإخبارية، أنه «نظرا لما توفره تلك المواقع من خواص تسهل التخفي والتنكر، يقدم أصحاب الصفحات المجهولة على قول ما لا يستطيعون قوله في وجهك مباشرة، لقد لعنوا أصلي وحسبي، واستخدموا ألفاظاً تمس حتى أعضائي الحساسة، ولم يتركوا منطقة في جسدي إلا وتعرضوا لها بأقذع الألفاظ».
والشهر الماضي، كانت المحررة ببرنامج «أنديا توداي» إيلما حسن تستضيف سيدة مسلمة بجامعة أليغرا الإسلامية عندما قام عدد من الرجال بمقاطعة البث المباشر وتهدديها.
وفي حادثة منفصلة، تعرض منزل صبرا مانيام المحررة بموقع «سكور إن» الإخباري للرشق بالحجارة إثر تغطيتها الإخبارية من مدينة بوستار بولاية تشاتسغرا بوسط البلاد. وأعقب ذلك تهديدات مستمرة دفعتها إلى مغادرة بلدتها.
والعام الماضي، تلقت سيندو سوري كومار، مقدمة البرامج بقناة أسيانت نيوز تي في، أكثر من 200 مكالمة هاتفية على هاتفها المحمول تضمنت جميعها تهديدات وسبابا من مجهولين نعتوها بـ«العاهرة» بعد أن انتشر رقم هاتفها من خلال تطبيقات «واتساب» وسط مجموعة لم تتوانَ عن التحرش بها.
وفي المقابل، قالت مقدمة البرنامج إن «حرية الحصافة في الهند تمر بمنحدر خطير، والإعلام العالمي يشاهد الطريق الذي تسير فيه الهند. أين حرية التعبير التي كفلها الدستور في الهند؟».


مقالات ذات صلة

تونس والسنغال تتراجعان في تقرير «مراسلون بلا حدود» السنوي لحرية الصحافة

العالم العربي تونس والسنغال تتراجعان في تقرير «مراسلون بلا حدود» السنوي لحرية الصحافة

تونس والسنغال تتراجعان في تقرير «مراسلون بلا حدود» السنوي لحرية الصحافة

أظهر التقرير السنوي لحرية الصحافة لمنظمة «مراسلون بلا حدود»، اليوم الأربعاء، أن تونس والسنغال كانتا من بين الدول التي تراجعت في الترتيب، في حين بقيت النرويج في الصدارة، وحلّت كوريا الشمالية في المركز الأخير. وتقدّمت فرنسا من المركز 26 إلى المركز 24.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم غوتيريش يندد باستهداف الصحافيين والهجوم على حرية الصحافة

غوتيريش يندد باستهداف الصحافيين والهجوم على حرية الصحافة

ندّد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش اليوم (الثلاثاء)، باستهداف الصحافيين، مشيراً إلى أنّ «حرية الصحافة تتعرّض للهجوم في جميع أنحاء العالم». وقال في رسالة عبر الفيديو بُثّت عشية الذكرى الثلاثين لـ«اليوم العالمي لحرية الصحافة»، إن «كلّ حرياتنا تعتمد على حرية الصحافة... حرية الصحافة هي شريان الحياة لحقوق الإنسان»، وفقاً لما ذكرته وكالة الصحافة الفرنسية. وأضاف أن «حرية الصحافة تتعرّض للهجوم في جميع أنحاء العالم»، مشيراً إلى أنّه «يتمّ استهداف الصحافيين والعاملين في الإعلام بشكل مباشر عبر الإنترنت وخارجه، خلال قيامهم بعملهم الحيوي.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
العالم صحافي ليبرالي في الصين يواجه تهمة «التجسس»

صحافي ليبرالي في الصين يواجه تهمة «التجسس»

ذكرت جمعية تعنى بالدفاع عن وسائل الإعلام أن تهمة التجسس وجهت رسمياً لصحافي صيني ليبرالي معتقل منذ عام 2022، في أحدث مثال على تراجع حرية الصحافة في الصين في السنوات الأخيرة، حسبما أفادت «وكالة الصحافة الفرنسية». كان دونغ يويو، البالغ 61 عاماً والمعروف بصراحته، يكتب افتتاحيات في صحيفة «كلارتي» المحافظة (غوانغمينغ ريباو) التي يملكها الحزب الشيوعي الحاكم. وقد أوقف في فبراير (شباط) 2022 أثناء تناوله الغداء في بكين مع دبلوماسي ياباني، وفق بيان نشرته عائلته الاثنين، اطلعت عليه لجنة حماية الصحافيين ومقرها في الولايات المتحدة. وقالت وزارة الخارجية اليابانية العام الماضي إنه أفرج عن الدبلوماسي بعد استجو

«الشرق الأوسط» (بكين)
العالم العربي المغرب: أربعة من وزراء الإعلام السابقين يرفضون لجنة مؤقتة لمجلس الصحافة

المغرب: أربعة من وزراء الإعلام السابقين يرفضون لجنة مؤقتة لمجلس الصحافة

بدا لافتاً خروج أربعة وزراء اتصال (إعلام) مغاربة سابقين ينتمون إلى أحزاب سياسية مختلفة عن صمتهم، معبرين عن رفضهم مشروع قانون صادقت عليه الحكومة المغربية الأسبوع الماضي، لإنشاء لجنة مؤقتة لمدة سنتين لتسيير «المجلس الوطني للصحافة» وممارسة اختصاصاته بعد انتهاء ولاية المجلس وتعذر إجراء انتخابات لاختيار أعضاء جدد فيه. الوزراء الأربعة الذين سبق لهم أن تولوا حقيبة الاتصال هم: محمد نبيل بن عبد الله، الأمين العام لحزب «التقدم والاشتراكية» المعارض، ومصطفى الخلفي، عضو الأمانة العامة لحزب «العدالة والتنمية» المعارض أيضاً، والحسن عبيابة، المنتمي لحزب «الاتحاد الدستوري» (معارضة برلمانية)، ومحمد الأعرج، عضو

«الشرق الأوسط» (الرباط)
المشرق العربي «الجامعة العربية» تنتقد «التضييق» على الإعلام الفلسطيني

«الجامعة العربية» تنتقد «التضييق» على الإعلام الفلسطيني

انتقدت جامعة الدول العربية ما وصفته بـ«التضييق» على الإعلام الفلسطيني. وقالت في إفادة رسمية اليوم (الأربعاء)، احتفالاً بـ«يوم الإعلام العربي»، إن هذه الممارسات من شأنها أن «تشوّه وتحجب الحقائق». تأتي هذه التصريحات في ظل شكوى متكررة من «تقييد» المنشورات الخاصة بالأحداث في فلسطين على مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما في فترات الاشتباكات مع القوات الإسرائيلية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)