سمات المتطرفين... من التاريخ إلى الراهن

من الغيبة الزمانية إلى الوعي اللاتاريخي

غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
TT

سمات المتطرفين... من التاريخ إلى الراهن

غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)

لا يظهر المتطرف تطرفه مرة واحدة، بل يحاول عبر أقنعة متعددة جذب وتجنيد مستهدفيه، وهكذا يطرح نفسه داعية رسالياً لإصلاح العالم والأمة، كما يطرح ما يؤمن به حلا خلاصيا موعودا لكل مشكلات الحياة الخاصة والعامة، ولكن بعض التأمل يكشف زيف وأزمات ما يدعو إليه. وقد عرض وكشف كثير من كتب التراث كثيرا من سمات وصفات المتطرفين عبر التاريخ، كالمبالغة في الشكليات والطقوس، والتعصب للرأي، والتجرؤ، واتهام المختلف، كما اهتمت الدراسات المعاصرة بتحليل جوانب التطرف النفسية والفكرية والاجتماعية بوصفه ظاهرة فرضت حضورها وخطورتها على الجميع شرقاً وغرباً.
سنحاول فيما يلي جمع السمات التاريخية التي عرفت عن المتطرفين والغلاة وعن ظاهرتهم في التاريخ الإسلامي، وهو ما يكشف التشابه الشديد بين ذهنيات وجماعات التطرف والغلو وعناصرها عبر التاريخ.
* السرية والغموض: غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ، ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية، سمة ثابتة في الفرق والفتن القديمة والمعاصرة على السواء، حيث تتأسس فجأة في ليل غامض بعيدا عن إجماع الأمة وعن شهودها وعن صحيح دينها ومعلومه بالضرورة، وقد قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إذا رأيت قوماً يتناجون في شيء من الدين دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة».
ولم يكن الحديث عن ابن سبأ وحده غريبا في القرن الأول، بل كان الحديث عن آخرين كذلك كان لهم دور كبير في إرباك الأمة والمجتمع والدولة. لقد تحدث الأشعري في «مقالات الإسلاميين» وغيره في ترجمة القدري معبد الجهني، عن رجل يدعى سوسن، لم يذكر عنه سوى أنه من العراق ووصفه بأنه كان أول من تسبب في نشوء القدرية والقول بخلق القرآن الكريم.
كذلك نجد هذا الغموض في شخصيات هذه الفرق، فلم يكن الخارجون على رأسها من زمان الفتن رموزا معروفة محل تقدير في مقامات الناس، علما ومعرفة وزهدا وتقوى، بل ينكر كثير من المؤرخين السنة والشيعة مثلا كون أحد من الخوارج كان صحابيا، ويؤكدون أنه لم يكن بينهم صحابي، ورغم رد هؤلاء بأن عبد الله بن وهب الراسبي الذي ولاه الخوارج إمارتهم كان صحابيا، فإن الواضح أنه لم يكن أحد منهم من رموز الصحابة أو أعلام الأمة أو كبارها!
* الغيبة الزمانية: يحيا المتطرفون دائما غيبة زمانية، لا تدرك التاريخ ولا حركته أو قوانينه، فلا ينتبهون لأحوال الأمة؛ قوتها وضعفها، بل تختزل الأمة في أفرادهم وجماعاتهم وتنظيماتهم فقط.
ليس فيهم الحسن بن على رضي الله عنهما، الذي أخرج عنه ابن سعد وابن أبى شيبة والبيهقي في «الدلائل»، عن الشعبي، قال: لما سلم الحسن بن علي (ر) الأمر إلى معاوية، قال له معاوية: فتكلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال إن هذا الأمر تركته لمعاوية إرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. ثم استغفر ونزل».
وأخرج البيهقي، عن الزهري قال: خطب الحسن - رضي الله عنه - فقال: أما بعد؛ أيها الناس: إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله تعالى قال لنبيه: (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون)، إلى قوله: (ومتاع إلى حين)».
هذا التواضع والتنازل عن حق النفس وإدراك حال الأمة والإصرار على وحدتها وعدم فتنتها وتفكيكها، ليست أهدافا رئيسية عند تنظيمات التطرف العنيف، فهي تختزل الأمة في وصفها دون سواها، ودون إدراك زمنيتها، ولا واقع الأمة وما تحتاجه من حولها.
* الكراهية والتشتت: كان الغلاة قديما يتفرقون ويتشرذمون؛ فرقا من فرق، وجماعات من جماعات، تزايد أخراها على أولاها، وجديدها على قديمها، في الغلواء والتطرف، والتوسط أيضا، فخرج الخوارج من الخوارج، كخروج النجدات على المحكمة ونافع بن الأزرق، كما خرج الخطابية من السبئية الأولى، وخرج القرامطة من دعوى المهدوية، حتى فارقوا الدين كله. وهكذا تستمر دائرة البحث عن الحقيقة والتطرف سائرة مستمرة، وهو ما يجعلنا نراه من سمات الجماعات المتطرفة في التاريخ والواقع منذ القديم، فهي تتشتت، وتتفرق وتتشقق فروعا وشظايا، يزايد بعضها على بعض في كل عصر، حتى تكون نهايتها جميعا بعد أن يبذل التطرف أنفاسه، أو يفقد قناعاته، أو ينهي بعضها بعضا!
كذلك تتوزع جماعات العنف الديني، على عشرات الجماعات تصارع بعضها بعضا، ويقاتل بعضها بعضا. قد يجمعهم العدو الواحد كما كان في الحالة الأفغانية حتى جلاء السوفيات، لكن ما إن يخايلهم نصر حتى يتقاتلوا فيما بينهم على الزعامة والإمارة، كما حدث بعد جلاء السوفيات، وكما حدث أثناء وبعد الثورات العربية سنة 2011 خصوصا السورية منها، حيث ما لبث بعضهم يسيطر حتى قاتل بعضهم بعضا، وضاعت بهم ومعهم الثورة وألقها، وصارت بهم أزمة بعد أن كانت أملا في التغيير والإصلاح.
وقد لمح إلى هذه القاعدة في التشتت والتشرذم عبد القاهر البغدادي (المتوفى 429 هجرية) في كتابه «الفرق بين الفرق» حين قال: «الخوارج عشرون فرقة، وهذه أسماؤها المحكمة الأولى الأزارقة والنجدات والصفرية، ثم العجاردة المفترقة فرقا منها الخازمية والشعيبية والمعلومية والمجهولية».
وفي سياق صراع المتطرفين على الزعامة، ومن أجلها، لا ينتبهون لحال الأمة والواقع بالعموم، ويحيون غيبتهم الزمانية، ويرهقون المجتمع وهم يدعون إصلاحه، ويهزمون الأمة وهم يدعون انتصارها. وهكذا حارب الخوارج علياً رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين، وهو يحارب خارجا عليه. وكان القرامطة والحشاشون يحاولون ويستهدفون قتل صلاح الدين الأيوبي وهو يحرر القدس ويحارب الصليبيين وحده كفاية عن الأمة، حتى قيل إن صلاح الدين الأيوبي كان شديد الحرص والحذر منهم دائما كما يروي أحد أحفاده أبو الفداء في تاريخه.
* الانقراض التاريخي أو عزلة المصير: انقرضت فرق وجماعات كثيرة استمرت في تطرفها، بعد أن بلغت قمة التطرف والمغالاة والعنف ضد الأمة والجماعة، انقرضت بعدما ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولكن ضلت طريقها وانقرضت طريقتها، انقرض القرامطة وانقرضت الخطابية وانقرضت العلياوية، وانزوى بعضها الآخر منعزلا في زوايا زمان ما أو مكان ما، يحاول البقاء أمام أسئلة النقل والعقل. وقاعدة ذلك شرعا وعقلا، أنه «لا يعيش ولا يستمر في معارك الزمان والمكان إلا من يملك القوامة على الحياة وشرطها الوسطية: «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما». (سورة الفرقان - 67).
* التجرؤ على القتل وتجاوز المقامات: عدّ كثير من مؤرخي وفقهاء الإسلام «ذو الخويصرة» الذي انتقد النبي (صلى الله عليه وسلم)، قيل عند توزيع غنائم غزوة حنين وقيل عند خراج اليمن، أول المتطرفين وأول الخوارج، قال ابن الجوزي وابن حزم: أول الخوارج هو ذو الخويصرة. وقال ابن حزم: «هذا أول خارجي خرج في الإسلام، وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه» وقال الشهرستاني في الخوارج: «أولهم ذو الخويصرة، وآخرهم ذو الثدية».
وأصل حديث ذو الخويصرة ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويلك؛ ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه. قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم آيتهم، رجل إحدى يديه، أو قال ثدييه، مثل ثدي المرأة، أو قال مثل البضعة، تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه؛ جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فنزلت فيه: (ومنهم من يلمزك في الصدقات)».
روى الطبراني في «الأوسط» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه». ولكن المتطرفين في كل عصر يتجرأون على مقامات العلماء، ولا يسمعون لحججهم ويتهمونهم فيما شاءت وذهبت بهم أهواؤهم. لم يستمع الخوارج الذين أتوا من مصر لعثمان رضي الله عنه حين خطبهم، فشوشوا عليه، ولم يستمعوا أو يقتنعوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ في الأولى ولا في الثانية، ولا يستمع المتطرفون لنصائح العلماء، ويتجرأون على لحومهم؛ يأكلونها غيبة واتهاما وانتقاصا في كل زمن.


مقالات ذات صلة

«طالبان» حليف غير متوقَّع في مكافحة الإرهاب

تحليل إخباري يقف أعضاء «طالبان» التابعون لوزارة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في نقطة تفتيش على طول طريق على مشارف ولاية هرات... 4 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

«طالبان» حليف غير متوقَّع في مكافحة الإرهاب

بعد 3 سنوات على خروج الائتلاف الغربي من أفغانستان وسط فوضى عارمة مع سيطرة «طالبان» على كابل، باتت الحركة محاوراً غير متوقَّع في مكافحة الإرهاب.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
أوروبا عناصر من الشرطة الألمانية المختصة بمكافحة الإرهاب (غيتي)

تحريك دعوى قضائية في ألمانيا ضد 3 مراهقين للاشتباه بإعدادهم لهجوم إرهابي إسلاموي

حرك الادعاء العام الألماني دعوى قضائية ضد 3 مراهقين من ولاية شمال الراين-ويستفاليا بتهمة الإعداد لهجوم إرهابي إسلاموي.

«الشرق الأوسط» (دوسلدورف )
شمال افريقيا الرئيس التونسي قيس سعيّد في اجتماع قبل أيام حول ملف الهجرة غير النظامية مع وزير الداخلية خالد النوري وكاتب الدولة للأمن سفيان بالصادق (من موقع الرئاسة التونسية)

تونس: إيقافات ومحاكمات لتونسيين وأفارقة متهمين بتهريب البشر

كشفت مصادر أمنية وقضائية رسمية تونسية أن الأيام الماضية شهدت حوادث عديدة في ملف «تهريب البشر» من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء نحو تونس.

كمال بن يونس (تونس)
شؤون إقليمية مجلس الأمن القومي التركي برئاسة إردوغان أكد استمرار العمليات العسكرية ودعم الحل في سوريا (الرئاسة التركية)

تركيا ستواصل عملياتها ضد «الإرهاب» ودعم الحل السياسي في سوريا

أكدت تركيا أنها ستواصل عملياتها الهادفة إلى القضاء على التنظيمات الإرهابية في سوريا إلى جانب تكثيف جهود الحل السياسي بما يتوافق مع تطلعات ومصالح الشعب السوري.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا قوات باكستانية خلال دورية في بيشاور (وسائل إعلام باكستانية)

فشل جهود الحكومة الباكستانية في منع تصاعد العنف بالبلاد

استمر العنف في الارتفاع بمقاطعتين مضطربتين في باكستان مع مواصلة الجيش المشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب في شمال غربي وجنوب غربي البلاد

عمر فاروق (إسلام آباد )

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.