سمات المتطرفين... من التاريخ إلى الراهن

من الغيبة الزمانية إلى الوعي اللاتاريخي

غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
TT

سمات المتطرفين... من التاريخ إلى الراهن

غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)
غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ ومنها «داعش»... ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية سمة ثابتة في الفتن القديمة والمعاصرة على السواء («الشرق الأوسط»)

لا يظهر المتطرف تطرفه مرة واحدة، بل يحاول عبر أقنعة متعددة جذب وتجنيد مستهدفيه، وهكذا يطرح نفسه داعية رسالياً لإصلاح العالم والأمة، كما يطرح ما يؤمن به حلا خلاصيا موعودا لكل مشكلات الحياة الخاصة والعامة، ولكن بعض التأمل يكشف زيف وأزمات ما يدعو إليه. وقد عرض وكشف كثير من كتب التراث كثيرا من سمات وصفات المتطرفين عبر التاريخ، كالمبالغة في الشكليات والطقوس، والتعصب للرأي، والتجرؤ، واتهام المختلف، كما اهتمت الدراسات المعاصرة بتحليل جوانب التطرف النفسية والفكرية والاجتماعية بوصفه ظاهرة فرضت حضورها وخطورتها على الجميع شرقاً وغرباً.
سنحاول فيما يلي جمع السمات التاريخية التي عرفت عن المتطرفين والغلاة وعن ظاهرتهم في التاريخ الإسلامي، وهو ما يكشف التشابه الشديد بين ذهنيات وجماعات التطرف والغلو وعناصرها عبر التاريخ.
* السرية والغموض: غلب الغموض على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ، ويبدو أمر انطلاقها بمعزل عن العلن وبسرية، سمة ثابتة في الفرق والفتن القديمة والمعاصرة على السواء، حيث تتأسس فجأة في ليل غامض بعيدا عن إجماع الأمة وعن شهودها وعن صحيح دينها ومعلومه بالضرورة، وقد قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إذا رأيت قوماً يتناجون في شيء من الدين دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة».
ولم يكن الحديث عن ابن سبأ وحده غريبا في القرن الأول، بل كان الحديث عن آخرين كذلك كان لهم دور كبير في إرباك الأمة والمجتمع والدولة. لقد تحدث الأشعري في «مقالات الإسلاميين» وغيره في ترجمة القدري معبد الجهني، عن رجل يدعى سوسن، لم يذكر عنه سوى أنه من العراق ووصفه بأنه كان أول من تسبب في نشوء القدرية والقول بخلق القرآن الكريم.
كذلك نجد هذا الغموض في شخصيات هذه الفرق، فلم يكن الخارجون على رأسها من زمان الفتن رموزا معروفة محل تقدير في مقامات الناس، علما ومعرفة وزهدا وتقوى، بل ينكر كثير من المؤرخين السنة والشيعة مثلا كون أحد من الخوارج كان صحابيا، ويؤكدون أنه لم يكن بينهم صحابي، ورغم رد هؤلاء بأن عبد الله بن وهب الراسبي الذي ولاه الخوارج إمارتهم كان صحابيا، فإن الواضح أنه لم يكن أحد منهم من رموز الصحابة أو أعلام الأمة أو كبارها!
* الغيبة الزمانية: يحيا المتطرفون دائما غيبة زمانية، لا تدرك التاريخ ولا حركته أو قوانينه، فلا ينتبهون لأحوال الأمة؛ قوتها وضعفها، بل تختزل الأمة في أفرادهم وجماعاتهم وتنظيماتهم فقط.
ليس فيهم الحسن بن على رضي الله عنهما، الذي أخرج عنه ابن سعد وابن أبى شيبة والبيهقي في «الدلائل»، عن الشعبي، قال: لما سلم الحسن بن علي (ر) الأمر إلى معاوية، قال له معاوية: فتكلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال إن هذا الأمر تركته لمعاوية إرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. ثم استغفر ونزل».
وأخرج البيهقي، عن الزهري قال: خطب الحسن - رضي الله عنه - فقال: أما بعد؛ أيها الناس: إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله تعالى قال لنبيه: (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون)، إلى قوله: (ومتاع إلى حين)».
هذا التواضع والتنازل عن حق النفس وإدراك حال الأمة والإصرار على وحدتها وعدم فتنتها وتفكيكها، ليست أهدافا رئيسية عند تنظيمات التطرف العنيف، فهي تختزل الأمة في وصفها دون سواها، ودون إدراك زمنيتها، ولا واقع الأمة وما تحتاجه من حولها.
* الكراهية والتشتت: كان الغلاة قديما يتفرقون ويتشرذمون؛ فرقا من فرق، وجماعات من جماعات، تزايد أخراها على أولاها، وجديدها على قديمها، في الغلواء والتطرف، والتوسط أيضا، فخرج الخوارج من الخوارج، كخروج النجدات على المحكمة ونافع بن الأزرق، كما خرج الخطابية من السبئية الأولى، وخرج القرامطة من دعوى المهدوية، حتى فارقوا الدين كله. وهكذا تستمر دائرة البحث عن الحقيقة والتطرف سائرة مستمرة، وهو ما يجعلنا نراه من سمات الجماعات المتطرفة في التاريخ والواقع منذ القديم، فهي تتشتت، وتتفرق وتتشقق فروعا وشظايا، يزايد بعضها على بعض في كل عصر، حتى تكون نهايتها جميعا بعد أن يبذل التطرف أنفاسه، أو يفقد قناعاته، أو ينهي بعضها بعضا!
كذلك تتوزع جماعات العنف الديني، على عشرات الجماعات تصارع بعضها بعضا، ويقاتل بعضها بعضا. قد يجمعهم العدو الواحد كما كان في الحالة الأفغانية حتى جلاء السوفيات، لكن ما إن يخايلهم نصر حتى يتقاتلوا فيما بينهم على الزعامة والإمارة، كما حدث بعد جلاء السوفيات، وكما حدث أثناء وبعد الثورات العربية سنة 2011 خصوصا السورية منها، حيث ما لبث بعضهم يسيطر حتى قاتل بعضهم بعضا، وضاعت بهم ومعهم الثورة وألقها، وصارت بهم أزمة بعد أن كانت أملا في التغيير والإصلاح.
وقد لمح إلى هذه القاعدة في التشتت والتشرذم عبد القاهر البغدادي (المتوفى 429 هجرية) في كتابه «الفرق بين الفرق» حين قال: «الخوارج عشرون فرقة، وهذه أسماؤها المحكمة الأولى الأزارقة والنجدات والصفرية، ثم العجاردة المفترقة فرقا منها الخازمية والشعيبية والمعلومية والمجهولية».
وفي سياق صراع المتطرفين على الزعامة، ومن أجلها، لا ينتبهون لحال الأمة والواقع بالعموم، ويحيون غيبتهم الزمانية، ويرهقون المجتمع وهم يدعون إصلاحه، ويهزمون الأمة وهم يدعون انتصارها. وهكذا حارب الخوارج علياً رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين، وهو يحارب خارجا عليه. وكان القرامطة والحشاشون يحاولون ويستهدفون قتل صلاح الدين الأيوبي وهو يحرر القدس ويحارب الصليبيين وحده كفاية عن الأمة، حتى قيل إن صلاح الدين الأيوبي كان شديد الحرص والحذر منهم دائما كما يروي أحد أحفاده أبو الفداء في تاريخه.
* الانقراض التاريخي أو عزلة المصير: انقرضت فرق وجماعات كثيرة استمرت في تطرفها، بعد أن بلغت قمة التطرف والمغالاة والعنف ضد الأمة والجماعة، انقرضت بعدما ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولكن ضلت طريقها وانقرضت طريقتها، انقرض القرامطة وانقرضت الخطابية وانقرضت العلياوية، وانزوى بعضها الآخر منعزلا في زوايا زمان ما أو مكان ما، يحاول البقاء أمام أسئلة النقل والعقل. وقاعدة ذلك شرعا وعقلا، أنه «لا يعيش ولا يستمر في معارك الزمان والمكان إلا من يملك القوامة على الحياة وشرطها الوسطية: «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما». (سورة الفرقان - 67).
* التجرؤ على القتل وتجاوز المقامات: عدّ كثير من مؤرخي وفقهاء الإسلام «ذو الخويصرة» الذي انتقد النبي (صلى الله عليه وسلم)، قيل عند توزيع غنائم غزوة حنين وقيل عند خراج اليمن، أول المتطرفين وأول الخوارج، قال ابن الجوزي وابن حزم: أول الخوارج هو ذو الخويصرة. وقال ابن حزم: «هذا أول خارجي خرج في الإسلام، وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه» وقال الشهرستاني في الخوارج: «أولهم ذو الخويصرة، وآخرهم ذو الثدية».
وأصل حديث ذو الخويصرة ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويلك؛ ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه. قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم آيتهم، رجل إحدى يديه، أو قال ثدييه، مثل ثدي المرأة، أو قال مثل البضعة، تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه؛ جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فنزلت فيه: (ومنهم من يلمزك في الصدقات)».
روى الطبراني في «الأوسط» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه». ولكن المتطرفين في كل عصر يتجرأون على مقامات العلماء، ولا يسمعون لحججهم ويتهمونهم فيما شاءت وذهبت بهم أهواؤهم. لم يستمع الخوارج الذين أتوا من مصر لعثمان رضي الله عنه حين خطبهم، فشوشوا عليه، ولم يستمعوا أو يقتنعوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ في الأولى ولا في الثانية، ولا يستمع المتطرفون لنصائح العلماء، ويتجرأون على لحومهم؛ يأكلونها غيبة واتهاما وانتقاصا في كل زمن.


مقالات ذات صلة

«طالبان» حليف غير متوقَّع في مكافحة الإرهاب

تحليل إخباري يقف أعضاء «طالبان» التابعون لوزارة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في نقطة تفتيش على طول طريق على مشارف ولاية هرات... 4 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

«طالبان» حليف غير متوقَّع في مكافحة الإرهاب

بعد 3 سنوات على خروج الائتلاف الغربي من أفغانستان وسط فوضى عارمة مع سيطرة «طالبان» على كابل، باتت الحركة محاوراً غير متوقَّع في مكافحة الإرهاب.

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)
أوروبا عناصر من الشرطة الألمانية المختصة بمكافحة الإرهاب (غيتي)

تحريك دعوى قضائية في ألمانيا ضد 3 مراهقين للاشتباه بإعدادهم لهجوم إرهابي إسلاموي

حرك الادعاء العام الألماني دعوى قضائية ضد 3 مراهقين من ولاية شمال الراين-ويستفاليا بتهمة الإعداد لهجوم إرهابي إسلاموي.

«الشرق الأوسط» (دوسلدورف )
شمال افريقيا الرئيس التونسي قيس سعيّد في اجتماع قبل أيام حول ملف الهجرة غير النظامية مع وزير الداخلية خالد النوري وكاتب الدولة للأمن سفيان بالصادق (من موقع الرئاسة التونسية)

تونس: إيقافات ومحاكمات لتونسيين وأفارقة متهمين بتهريب البشر

كشفت مصادر أمنية وقضائية رسمية تونسية أن الأيام الماضية شهدت حوادث عديدة في ملف «تهريب البشر» من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء نحو تونس.

كمال بن يونس (تونس)
شؤون إقليمية مجلس الأمن القومي التركي برئاسة إردوغان أكد استمرار العمليات العسكرية ودعم الحل في سوريا (الرئاسة التركية)

تركيا ستواصل عملياتها ضد «الإرهاب» ودعم الحل السياسي في سوريا

أكدت تركيا أنها ستواصل عملياتها الهادفة إلى القضاء على التنظيمات الإرهابية في سوريا إلى جانب تكثيف جهود الحل السياسي بما يتوافق مع تطلعات ومصالح الشعب السوري.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا قوات باكستانية خلال دورية في بيشاور (وسائل إعلام باكستانية)

فشل جهود الحكومة الباكستانية في منع تصاعد العنف بالبلاد

استمر العنف في الارتفاع بمقاطعتين مضطربتين في باكستان مع مواصلة الجيش المشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب في شمال غربي وجنوب غربي البلاد

عمر فاروق (إسلام آباد )

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.