اليمن.. «الاتجاه المعاكس»

اليمنيون قطعوا شوطا على طريق التسوية السياسية.. لكن التحديات قائمة بصيغ جديدة ومتعددة

اليمن.. «الاتجاه المعاكس»
TT

اليمن.. «الاتجاه المعاكس»

اليمن.. «الاتجاه المعاكس»

منذ أن وضعت الحرب أوزارها بين الأطراف السياسية في الساحة اليمنية، وجرى التوصل إلى اتفاق مصالحة تمثل في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة، تفاءل اليمنيون خيرا، وعادت الحياة إلى شبه طبيعتها في الشارع، وبدأت الحياة تدب من جديد في مؤسسات الدولة، وجرى انتخاب رئيس جديد للبلاد وتشكيل حكومة وفاق وطني، ودخل اليمنيون في حوار وطني شامل لحل مشكلاتهم. كل ذلك كان يصب في خانة «الخطوات الإيجابية»، ولكن في المقابل ظهرت إشكاليات عديدة، تشد البلاد في الاتجاه المعاكس.. حيث ظهرت تحديات أمنية بتزايد نشاط تنظيم القاعدة في أكثر من محافظة يمنية، واستهدافه عشرات الضباط والجنود من منتسبي المؤسستين الأمنية والعسكرية، بالاغتيال، خصوصا المنتمين لجهاز الأمن السياسي (المخابرات)، وانتهاء بالحرب المذهبية الضروس الدائرة منذ عدة أسابيع في شمال اليمن، التي انطلقت شرارتها من منطقة دماج بمحافظة صعدة بين الحوثيين والسلفيين، إضافة إلى النزعة الانفصالية في الجنوب ومطالبة العديد من المناطق بأقاليم خاصة في الشمال.. كل ذلك يطرح سؤالا مهما.. وهو: في أي اتجاه يسير اليمن؛ في طريق التسوية الشاملة والاستقرار، أم في اتجاه رياح التحديات العاصفة المعاكس؟

وصل مؤتمر الحوار الوطني الشامل في اليمن إلى محطاته الأخيرة. فبعد انطلاقته المتعثرة في 18 مارس (آذار) الماضي، بمشاركة معظم القوى السياسية اليمنية باستثناء بعض قوى الحراك الجنوبي، تلوح الآن في الأفق بوادر إيجابية، بالتوصل إلى مقررات ينتظر إعلانها قريبا؛ أهمها يتمثل في قيام دولة اتحادية، حيث تنحصر الخلافات الآن بشأن إقامة دولة من إقليمين (شمالي - جنوبي) أو من عدة أقاليم.
وتدور مفاوضات اللحظة الأخيرة في أروقة المؤتمر بين الفريق المصغر المسمى لجنة «8+8» وهم يمثلون الجنوب والشمال، في إطار فريق القضية الجنوبية. ويؤكد المسؤولون اليمنيون على ضرورة إنجاز المرحلة الراهنة والنجاح الكامل لمؤتمر الحوار الوطني.
يقول مصدر من داخل المؤتمر لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك العديد من القضايا التي تنتظر إعلان مواقفها النهائية، في سباق محموم مع عامل الزمن الذي يزحف باتجاه نقطة الوفاء بالاستحقاقات». وأشار إلى أن أبزر القضايا هي موضوع توزيع الأقاليم والعدالة الانتقالية، مشيرا إلى الانتهاء من موضوع العزل السياسي لمن شملهم قانون الحصانة الذي منح للرئيس السابق علي عبد الله صالح وعدد من كبار المسؤولين في نظامه، في ضوء المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، حيث ألغيت المادة الخاصة بالعزل واستبدلت بها مادة تشدد من شروط الترشح لمنصب رئيس الجمهورية وتقطع الطريق أمام القادة العسكريين في النظام السابق والحالي من الترشح للرئاسة. وجرى اشتراط مرور 10 سنوات على تركهم مواقعهم العسكرية قبل الترشح لمناصب عليا في الدولة، إضافة إلى اشتراط الشهادة الجامعية للترشح.
وأكد مسؤولون أن الحوار داخل فريق «8+8» تعثر بسبب خلافات حول القضايا المطروحة، وحول بعض الأسماء الممثلة التي جرى استبدال بعضها. وتؤكد المصادر أن هناك «إجماعا من كل الأطراف على أن تكون الدولة اتحادية من عدة أقاليم، ولكن لا يزال الحوار مستمرا حول عدد الأقاليم وآلية تقسيم السلطة والثروة على المستويات المحلية والإقليمية والوطنية».
يقول ياسر الرعيني، نائب أمين عام مؤتمر الحوار الوطني إن معظم فرق المؤتمر قدمت تقاريرها إلى رئاسة المؤتمر وإن فريق العدالة الانتقالية تبقت لديه بعض المواد التي لم يجر التوافق بشأنها، و«بالنسبة لفريق بناء الدولة أو الفريق المصغر، هناك إجماع على قيام الدولة الاتحادية، والنقاشات تدور فقط حاليا حول الأقاليم؛ إما إقليمان أو خمسة أقاليم».
وذكر الرعيني لـ«الشرق الأوسط» أن فريق التوفيق يعمل على حل كثير من القضايا الخلافية التي أحيلت إليه من الفرق، والتي لم يجر الاتفاق عليها. وأضاف: «الأمور تسير بوتيرة عالية، ونحن في اللحظات الأخيرة والحاسمة من أعمال مؤتمر الحوار الوطني الشامل». وبشأن الخلاف القائم حول ملامح الدولة، يؤكد الرعيني جازما الاتفاق على إقامة دولة اتحادية من أجل الحفاظ على اليمن موحدا، وأن البت في موضوع الأقاليم مسألة وقت وقد يجري البت فيها خلال أيام معدودات.
وضمن القضايا التي تدور بشأنها نقاشات حادة في مؤتمر الحوار، قضية ما يسمى «العدالة الانتقالية»، أو «جبر الضرر لمن تضرروا خلال الصراعات السابقة». وفي هذا السياق تطرح مراحل زمنية لتصفية آثار الصراعات في الشمال والجنوب، ومن ضمن المقترحات أن يجري احتساب التعويض للضحايا في الشمال منذ ما بعد ثورة 1962. وفي الجنوب لمرحلة ما بعد عام 1972.
والخلافات ما زالت قائمة حول تسمية القضايا والتواريخ بخصوص العدالة الانتقالية، و«الفريق يعدها مسألة شكلية لا أقل ولا أكثر» كما يقول الرعيني.
وتشارك مكونات الأحزاب السياسية بما فيها حزب الرشاد السلفي، وجماعة «أنصار الله» وهم الحوثيون، وبعض فصائل الحراك الجنوبي، في المؤتمر، وهو ما يعد نقطة إيجابية في طريق التسوية السياسية.
وخلال الأشهر الماضية من انعقاد المؤتمر، عمد المشاركون إلى إصدار اعتذار رسمي من حكومة الوفاق الوطني، للجنوب وصعدة، جراء الحروب التي شنها النظام السابق على تلك المناطق من البلاد، وذلك في ضوء توصيات مؤتمر الحوار بهدف الدفع بعجلة الحوار والمفاوضات نحو الأمام.
لكن التشنجات ظلت باقية لتمثل معضلة كبيرة تواجه مخرجات الحوار الوطني.
وتدفع فصائل الحراك الجنوبي الأخرى التي لم تشارك في الحوار، في اتجاه المطالبة بعودة دولة الجنوب، وفك الارتباط مع الشمال، حتى إن بعض هذه القوى تذهب إلى التأكيد على أن فك الارتباط جرى فعليا، وأن الجزء الجنوبي من البلاد يخضع للاحتلال، حسب تعبيرهم.
وفي هذا الصدد، يؤكد صلاح الشنفرة، نائب رئيس المجلس الأعلى للحراك الجنوبي أن «الحراك ليس معنيا بالحوار مع صنعاء أو بما سيتمخض عنه من قرارات». وقال الشنفرة لـ«الشرق الأوسط» إن «الحوار يخص المتحاورين في الجمهورية العربية اليمنية.. وإننا في ثورة في الجنوب وسنمضي فيها حتى تحقيق أهدافها باستعادة الدولة الجنوبية المنهوبة».
غير أن بعض الأوساط السياسية اليمنية أكدت لـ«الشرق الأوسط» أن «مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل سوف تكون ملزمة للجميع حتى الذين لم يشاركوا في المؤتمر، وأن المجتمع الدولي الذي يشرف على التسوية السياسية في اليمن لن يقبل بوجود بؤر توتر في اليمن تعيد أجواء الحرب بعد المشوار الطويل الذي قطعته دول الخليج والولايات المتحدة وغيرها من الدول من أجل تجنيب اليمن شبح الحرب الأهلية».
وحسب ما هو مخطط له، فإن من المقرر وعقب الانتهاء من تقارير فرق العمل الميدانية حول جملة القضايا الخلافية وحسمها من قبل لجنة التوفيق، أن يجري الانتقال إلى الجلسات العامة للنقاشات الأخيرة من أجل اختتام هذه المرحلة الأهم من عمر الحوار الوطني، ثم الانتقال إلى مرحلة كتابة الدستور الجديد.
ويدور حديث في الساحة اليمنية عن إمكانية تمديد المرحلة الانتقالية لخمس سنوات مقبلة من أجل استيفاء قيام الدولة الاتحادية وتقسيم الأقاليم. لكن معظم الأطراف والأوساط ترفض التعليق على صحة هذه الأنباء، حيث من المقرر أن تنتهي المرحلة الانتقالية في فبراير (شباط) المقبل، بتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، غير أن المراقبين يؤكدون أن الفترة المتبقية ليست كافية لإنجاز كل الاستحقاقات كالتقسيم وكتابة الدستور وغيرها من الإجراءات المترتبة على إنهاء الفترة بالشكل المطلوب.
ويؤكد المبعوث الدولي إلى اليمن جمال بن عمر أن نهاية فترة حكم الرئيس عبد ربه منصور هادي ترتبط بإنهاء المسائل العالقة والخاصة بالتسوية السياسية وليست بموعد زمني محدد.

المخاوف والقلاقل

من أبرز الأجواء المصاحبة لمؤتمر الحوار، هي المخاوف من التدخلات الإيرانية عبر دعم جماعة الحوثي وفصيل نائب الرئيس السابق علي سالم البيض، وبالتالي تؤكد أوساط يمنية أن «أي فشل للتسوية السياسية يعني السيناريو الأسوأ وهو الحرب الأهلية، وأن ذلك سيفتح المجال أمام تدخلات إقليمية لن تكون في صالح اليمن»، هذا في وقت تلوح فيه الدول العشر المشرفة على التسوية السياسية في اليمن باستصدار قرارات أممية تعاقب كل من يقوم بأعمال تؤدي إلى عرقلة التسوية.
وإضافة إلى المعضلات السياسية التي تقف حجر عثرة أمام إنهاء مؤتمر الحوار وحلحلة القضايا العالقة في التسوية السياسية، تشهد الساحة اليمنية مشكلة الملف الأمني ونشاط تنظيم القاعدة المتنامي في معظم المحافظات اليمنية، المتمثل في سلسلة الاغتيالات التي طالت أكثر من 100 ضابط في المخابرات والجيش خلال العامين الماضيين، غير أن ما أزم الأوضاع بشكل أكبر منذ نحو شهرين، هو الصراع المذهبي المسلح الذي اندلع في منطقة دماج معقل الجماعة السلفية في محافظة صعدة بشمال البلاد مع جماعة الحوثي التي تسيطر على المحافظة، واتساع رقعة المواجهات المسلحة إلى المناطق والمحافظات المجاورة بالقرب من الحدود اليمنية - السعودية، وتهديد «القاعدة» للحوثيين بالانتقام لمقتل السلفيين بالمئات في الحرب غير المتكافئة بين الطرفين.
ويستخدم الحوثيون المدفعية والدبابات والرشاشات الثقيلة في ضرب دماج السلفية، فيما يظل تسليح السلفيين أقل من ذلك بكثير حيث يقاتلون بأسلحة شخصية، هذا إضافة إلى أنهم محاصرون في منطقة تدين بالكامل للحوثيين سياسيا ومذهبيا وعسكريا.

أصوات الشباب

ورغم الإجماع على أهمية الحوار، فإن هناك بعض الأصوات التي تنتقد أداء مؤتمر الحوار الوطني؛ ومن هذه الأصوات الشباب، حيث يرى الناشط الحقوقي وضاح الجليل في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أنه جرى الالتفاف على موضوع الفيدرالية التي يراها نموذجا لشكل الدولة التي تحافظ على التنوع المجتمعي و«تحقق الثراء وتحافظ على الهويات الثقافية ضمن هوية وطنية جامعة، يتم إنتاج مسخ لها الآن في مؤتمر الحوار». وأضاف: «ما حدث في هذا المؤتمر كان التفافا على المنطق والحقيقة، فنحن نحتاج إلى فيدرالية تحمي مستقبلنا، لكن جرى إنتاج حلول ارتجالية تشي بنوايا سيئة للإساءة لهذا المفهوم أصلا».
ويعتقد الجليل أن «ما يحدث مؤخرا يأتي على خلفية خلافات ونزاعات بين أطراف ومراكز قوى تتصدر المشهد باسم أصحاب المصلحة الحقيقية وهم الشعب الذي قدم التضحيات من أجل إحداث التغيير». وقال إن «الخلافات قادت أولا إلى خرق النظام الداخلي لمؤتمر الحوار الذي صدر بقرار جمهوري، ومن ثم جرى تشكيل لجنة لصياغة حلول غير علمية أو غير موضوعية تقوم على فيدرالية مرتجلة ويجري صياغتها وفق أمزجة المتحاورين من ممثلي هذه القوى والأطراف التي تطمع لتكوين مراكز قوى جديدة على حساب القضايا المجتمعية التي لم يجر حلها في مؤتمر الحوار حتى الآن، ولا يبدو أن ثمة إمكانية لحلها حتى اللحظة».

الهجوم على الأمم المتحدة

وتشهد الساحة اليمنية ومنذ عدة أيام هجوما سياسيا وإعلاميا لاذعا ضد المبعوث الأممي إلى اليمن، جمال بن عمر وبالأخص من قبل حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يتزعمه الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وانتقل الهجوم إلى تحت قبة مجلس النواب (البرلمان)، حيث شن أعضاء البرلمان من حزب المؤتمر هجوما شديد اللهجة على المبعوث الأممي وعدوه وصيا على اليمن ولم يعد وسيطا دوليا.
وفي هذا الصدد، يقول ياسر اليماني، القيادي في حزب المؤتمر الشعبي، لـ«الشرق الأوسط» إن «الأمور تسير في اليمن وفقا لما يخطط له الإخوان المسلمون بالتعاون، مع الأسف الشديد، مع مندوب الأمين العام للأمن المتحدة جمال بن عمر الذي كان وسيطا وتحول بقدرة قادر، والإخوان المسلمون، إلى وصي على اليمن الذي يسير نحو الفوضى التي جرى التخطيط لها». ويضيف اليماني أن اليمن «يحكم اليوم بأسوأ قيادة وحكومة عرفها التاريخ اليمني المعاصر، حكومة فشلت في ضبط المخربين.. للأسف اليمن يعيش خارج نطاق التغطية السياسية والأمنية والاقتصادية.. نحن لا نتشاءم، ولكن نقول إن اليمن يسير نحو الـ(لا دولة) ونحو الفوضى، خاصة أننا شارفنا على انتهاء الفترة المقررة للمرحلة الانتقالية، دون أي تقدم يذكر من قبل حكومة الوفاق التي للأسف جاءت لنهب وتدمير ما تبقى في اليمن».
ويردف القيادي المؤتمري لـ«الشرق الأوسط» أنه و«بعد الفشل الذي فشلته الحكومة وبن عمر في إنجاح العملية السياسية من خلال الفترة الانتقالية.. يحاولون اليوم وضع بدائل أسوأ من ذي قبل ويسعون إلى التمديد لأنفسهم، وحل مجلس النواب، وإحلال مؤتمر الحوار بدلا منه.. وهذه هي الكارثة المقبلة لليمن والأشقاء في الخليج، النار التي سوف تشتعل في اليمن ستصل إلى الجيران في الخليج، خاصة أن الإخوان المسلمين تحولوا في اليمن إلى مؤخرة للإخوان المسلمين في المنطقة ومصر، فالامتداد أصبح من اليمن من تمويل مادي وبشري».
وفي أول تعليق له على الهجوم الذي يتلقاه من بعض الأطراف في الساحة اليمنية، قال جمال بن عمر لـ«الشرق الأوسط» إنهم يلاحظون أن «هناك حملة ممنهجة ضد الأمم المتحدة والعملية السياسية في اليمن»، وإن هذه الحملة «تشن من قبل أطراف متخوفة من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي لطالما تكلم بصوت واحد ولا يزال، والمجتمع الدولي مستعد لاتخاذ ما يلزم من إجراءات ضد معرقلي العملية السياسية. وفي الحقيقة تلقيت اتصالات من عدد كبير من قيادات (المؤتمر الشعبي) والتقيت آخرين منهم.. استنكروا جميعا الحملة الممنهجة التي تستهدف الأمم المتحدة وأبدوا تقديرهم لدورها في التسوية السياسية وفي تقريب وجهات النظر بين مختلف الأطراف». وأكد المبعوث الأممي لـ«الشرق الأوسط» أن «الأمم المتحدة تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، وليست لديها مصالح خاصة، بل هدفها الأساسي إنجاح مؤتمر الحوار والعملية السياسية لإيصال اليمن إلى بر الأمان، والمؤتمر الشعبي شريك أساسي في التسوية وفي العملية السياسية، ونتمنى أن يواصلوا التعاون مع باقي الأطراف للمشاركة في صنع مستقبل أفضل لليمن».

مخاوف سياسية

ينظر كثير من المواطنين اليمنيين بتفاؤل حذر إلى مجريات مؤتمر الحوار الوطني، حيث عبر بعض المواطنين الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» عن مخاوفهم من أن تكون مخرجات الحوار بداية إلى إعادة تشطير البلاد مرة أخرى، حيث ينظر بعض اليمنيين إلى الفيدرالية على أنها نوع من أنواع الانفصال، ويرجع محللون سياسيون ذلك إلى مرحلة ما بعد قيام الوحدة اليمنية والأزمة السياسية مطلع عقد تسعينات القرن الماضي، حيث كان يطرح أن الفيدرالية تعني الانفصال. وتظل آفاق مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، إذا حظيت بالإجماع، هي أكبر المنجزات في نظر آخرين، لكن التطورات الراهنة سياسيا وأمنيا واقتصاديا تحير معظم المراقبين في استقراء مستقبل اليمن وإلى أين يتجه، فيما المواطنون يضعون أيديهم على قلوبهم خوفا من الغد المجهول.



صراعا «الكتلة الأكبر» و«الثلث المعطل» يفتحان باب التأويلات في بغداد

صراعا «الكتلة الأكبر» و«الثلث المعطل» يفتحان باب التأويلات في بغداد
TT

صراعا «الكتلة الأكبر» و«الثلث المعطل» يفتحان باب التأويلات في بغداد

صراعا «الكتلة الأكبر» و«الثلث المعطل» يفتحان باب التأويلات في بغداد

في انتخابات عام 2010، حال تفسير سابق للمحكمة الاتحادية العليا في العراق دون تمكن «القائمة العراقية» بزعامة إياد علاوي، رئيس الوزراء الأسبق، من تشكيل الحكومة آنذاك. ثم حال «الثلث المعطّل» في انتخابات 2021 دون تمكن زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر من تشكيل حكومة غالبية سياسية... الأمر الذي جعله ينسحب من الانتخابات ويسحب معه نوابه الـ73 الذين كانوا فازوا بأكبر عدد من المقاعد آنذاك.

في عام 2010، كانت «القائمة العراقية»، التي تشكّلت من قوائم في غالبيتها سنية - وإن كان زعيمها إياد علاوي شيعياً - فازت بأكبر عدد من مقاعد البرلمان العراقي (92) مقعداً في حين حصل ائتلاف «دولة القانون» بزعامة نوري المالكي على (89) مقعداً.

وبالتالي، بينما كان ينبغي، وفق الدستور، أن تشكل «القائمة العراقية» بوصفها الفائزة بأكبر عدد المقاعد، فإن قائمة المالكي، التي حلّت في المرتبة الثانية، قدّمت في حينه شكوى للمحكمة الاتحادية التي خرجت «بتفسير» جديد تحوّل إلى عُرفٍ سياسي يقضي بأن «الكتلة الأكبر» هي التي «يُمكن» بعد إعلان النتائج أن تكون القائمة صاحبة أكبر عدد من المقاعد، أو تلك التي تشكّل بعد إعلان النتائج الكتلة الأكبر داخل البرلمان.

لا نص دستورياً حول «الثلث المعطل»

وبشأن «الثلث المعطل»، يقول خبراء قانونيون لـ«الشرق الأوسط» إن «الثلث المعطّل» لا يستند إلى نصّ في الدستور العراقي أو في قوانين الانتخابات. ويوضح الباحث القانوني سيف السعدي أن هذا المفهوم «ابتُكر سياسياً من قبل قوى (الإطار التنسيقي) الشيعي لمنع تمرير انتخاب رئيس الجمهورية (آنذاك)، وبالتالي، تعطيل تكليف رئيس الوزراء». وأردف أن «هذا الأسلوب لا ينسجم مع أحكام الدستور التي تحدّد آليات واضحة لتشكيل الحكومة».

من جانبه، يقول الخبير القانوني علي التميمي إن «الدستور العراقي لا يتضمّن أي إشارة إلى الثلث المعطّل، وإنما هي ممارسة سياسية تظهر عند اختيار رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء».

ويتابع أن انتخاب رئيس الجمهورية يتطلب تصويت ثلثَي أعضاء مجلس النواب؛ أي ما لا يقل عن 220 نائباً، وفي حال غياب هذا النصاب لا يمكن المضي بعملية الانتخاب، ما يؤدي إلى تعطّل تشكيل الحكومة.

ويضيف التميمي أن «الثلث المعطّل يعكس خلافات سياسية أكثر ممّا يعبّر عن قاعدة دستورية»، مشيراً إلى أن «تحقيق نصاب الثلثين يتطلّب توافقاً بين عدة كتل برلمانية». ويستطرد موضحاً: «المحكمة الاتحادية سبق لها أن أصدرت قراراً استثنائياً بهذا الشأن، لكن الأصل الدستوري هو انعقاد الجلسة بالغالبية المطلقة (النصف زائد واحد)، ومن الممكن طلب تفسير جديد من المحكمة لإزالة الغموض حول هذه المسألة».

للعلم، في انتخابات عام 2021، حاول مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، الذي كانت قائمته فازت بأكثر المقاعد - بحصوله على 73 مقعداً - تشكيل حكومة غالبية سياسية مع كل من الحزب «الديمقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود بارزاني وحزب «تقدم» بزعامة محمد الحلبوسي. غير أن القوى الشيعية - آنذاك - حالت دون تمكينه من تشكيل الحكومة، بأن وضعت ما يُعرف بشرط «الثلث المعطل»، الذي لا وجود له في الدستور العراقي، حائلاً دون انتخاب رئيس الجمهورية الذي يحتاج إلى ثلثي أعضاء البرلمان.

وفي حين أدى ذلك إلى انسحاب الصدر من المشهد السياسي كلّه، وتحوّله إلى المعارضة لكن من خارج البرلمان، فقد رشّحت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي محمد شياع السوداني لتشكيل الحكومة.

الانتخابات الأخيرة

في الانتخابات التي انتهت بالأمس، يظلّ باب المفاجآت مفتوحاً على كل الاحتمالات، بينما بدا واضحاً التشظي داخل كتلة «الإطار التنسيقي» الشيعي في أعقاب انشقاق ائتلاف «الإعمار والتنمية» بزعامة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني عنها، ليس بإرادته بل بإرادة قوى «الإطار» نفسه.

ثم إنه مع توقّع كثيرين ازدياد الموقف تعقيداً أكثر فأكثر من قبل السوداني حيال قوى الإطار، وبالعكس، يؤكد هؤلاء بقاء كل الاحتمالات قائمة. ذلك أن السوداني أظهر تفوقاً واضحاً في الانتخابات المنتهية بحصوله على 45 مقعداً برلمانياً، وهو - بناءً عليه - الأول من حيث حجم الكتل والقوائم؛ إذ إنه يتقدّم بفارق كبير نسبياً عن أقرب خصومه من داخل «البيت» الشيعي، أي ائتلاف المالكي. وهو ما يعني أنه سيكون لاعباً قوياً في حال أراد تشكيل الحكومة عبر تشكيله الكتلة الأكبر.

ومع أن الحسابات الأولية تظهر أن قوى «الإطار التنسيقي» مجتمعة قد تتمكن من «تجميع» الكتلة الأكبر من حيث العدد متفوقة على السوداني، فإن الأخير وبسبب كونه صاحب أكبر عدد المقاعد، وكونه مَرضياً عنه أميركياً، لا تبدو فرصه في المناورة من أجل كسب ولاية ثانية مستبعدة أبداً. أضف إلى ذلك أن بعض قوى «الإطار التنسيقي» ليس لديها «فيتو» على السوداني بل لديها خلافات معه يمكن تسويتها عبر التفاوض ومنحها ما تريد من مناصب وامتيازات في الحكومة المقبلة في حال شكلها السوداني، الذي حظي بمباركة أميركية مبكّرة بعد يوم واحد من إعلان النتائج.

سافايا يشعل المنافسة

سارع مارك سافايا، مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترمب للعراق، إلى إشادة مبكرة بنتائج الانتخابات العراقية. وقدّم «تهانيه الخالصة» للشعب العراقي بمناسبة استكمال الانتخابات البرلمانية الأخيرة بنجاح، مقدماً شكره إلى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.

وقال سافايا في تصريح له نشره عبر حسابه الرسمي، إن «الشعب العراقي أثبت مرة أخرى التزامه بالحرية وسيادة القانون وبناء مؤسسات دولة قوية»، مشيداً بـ«حرص رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وحكومته على إجراء الانتخابات في وقتها وبسلاسة»، ومعتبراً أن «ذلك دليلٌ واضح على أن العراق يسير في طريق الازدهار والسيادة».

أيضاً، أكد المبعوث الأميركي - وهو عراقي الأصل - أن «الولايات المتحدة تبقى ملتزمة بقوة بدعم سيادة العراق وجهود الإصلاح والحد من التدخلات الخارجية والمجاميع المسلحة... وتظل تتطلع إلى العمل مع الحكومة العراقية لتعميق الشراكة الاستراتيجية في مجالات الأمن والطاقة والتنمية والمساهمة في بناء مستقبل مستقر ومزدهر لجميع العراقيين».

هذا، وبينما كان الثنائي الأميركي - الإيراني يدخل على خط اختيار رئيس الوزراء خلال الانتخابات البرلمانية السابقة في العراق بدءاً من أول انتخابات عام 2005 وإلى آخر انتخابات عام 2021 - التي لم يفلح فيها زعيم التيار الصدري الفائز الأول في تشكيل حكومة غالبية سياسية - فإنه، في ظل تراجع الدور الإيراني خلال الفترة الأخيرة، يرى مراقبون أن ثمة مخاوف تساور قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي من أن تنفرد واشنطن هذه المرة بتحديد شخصية رئيس الوزراء المقبل، لا سيما أن واشنطن، وطبقاً لمضمون رسالة سافايا، تريد إكمال ما بدأته على صعيد الشراكة السياسية الاقتصادية مع رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني.

وفي هذا السياق، يقول الدكتور غالب الدعمي، أستاذ الإعلام في جامعة الكوفة لـ«الشرق الأوسط»، إن «التكهن بالسيناريوهات المقبلة يبدو صعباً حتى الآن، لكن مع ذلك يمكن القول إن رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني لا يزال هو الأكثر ترجيحاً... وإذا تمكن من إقناع بعض أطراف (الإطار التنسيقي) الشيعي فسيصار إلى تكليفه؛ لأن لا فيتو دولياً على السوداني بعكس أوضاع منافسين آخرين يمكن أن يكونوا مقبولين من الخارج لكن عليهم اعتراضات كبيرة من بعض قوى الداخل».

ويضيف الدعمي: «مع هذا، يبقى هناك منافسون آخرون للمنصب من بينهم رئيسا الوزراء السابقان حيدر العبادي ومصطفى الكاظمي. كذلك، فإن السيناريوهات متباينة حيث لا يستبعد أن يكون أحد قادة الأجهزة الأمنية مطروحاً هو الآخر لمنصب رئيس الوزراء مع أن المتغيرات الإقليمية والدولية يمكن أن تكون حاكمة في هذا السياق أيضاً».

من جهته، وخلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، يرى الدكتور صلاح العرباوي، رئيس حركة «وعي» الوطنية، أنه «قد لا يكون هناك جديد في هذه الانتخابات»، لكنه يرجح إمكانية إجراء انتخابات مبكرة نظراً لوضع التيار الصدري القلق، وأن «هذه الانتخابات لم تأت بأي جديد، حيث إن التنافس كان قوياً بين قوى (الإطار التنسيقي) الشيعي... ومن بين الملامح الأخرى لهذه الانتخابات هي غياب شبه تام للقوى المدنية والليبرالية والحركات المنبثقة عن (تشرين)».

وبحسب الدكتور العرباوي، «قوى (الإطار التنسيقي) الشيعي ستجتمع فيما بينها لتشكيل الكتلة الأكثر عدداً مثل كل انتخابات، وقد نشهد خلال شهر مارس (آذار) المقبل تشكيل الحكومة الجديدة وربما لن يكون السوداني رئيسها... لكن الأهم من ذلك كله هو ترتيب عودة آمنة للتيار الصدري، وذلك لن يكون إلا بإجراء انتخابات مبكرة؛ لأن التيار لن يستمر وجوده خارج أروقة السلطة طويلاً».

مارك سافايا مبعوث الرئيس الأميركي إلى العراق سارع

إلى الإشادة مبكراً بنتائج الانتخابات

صراع ومنافسات

على صعيد متصل، سجّل هذه المرة ارتفاع نسبة المشاركة في هذه الانتخابات؛ إذ بلغت 65 في المائة، وفق المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وهو ما يمثل فارقاً كبيراً عن آخر انتخابات، تلك التي أجريت عام 2021. فيومها بلغت النسبة 40 في المائة، ما يشير إلى قفزة كبيرة من حيث المشاركة الشعبية رغم غياب أكبر تيار شيعي معارض (أي التيار الصدري).

في المقابل، أظهرت نتائج الانتخابات تراجعاً واضحاً للتيارات المدنية. ذلك أن ما أدى إلى زيادة نسبة المشاركة هو التنافس الداخلي بين المكوّنات «الشيعية والسنية والكردية»، بعدما انتقل الصراع من صراعات «بين» المكوّنات إلى صراع «داخل» المكونات. وهذا ما جعل كل حزب أو تجمع يحشد أكبر عدد من التابعين له للمشاركة في الانتخابات من أجل إحداث فارق على صعيد نسب المشاركة.

وللعلم، كان رئيس تحالف «البديل» عدنان الزرفي، النائب في البرلمان والمرشح السابق لرئاسة الوزراء، الذي لم يتمكن تحالفه من الحصول على مقعد في البرلمان الحالي قد أعلن أنه خاض معركة انتخابية غير متكافئة. وأضاف في بيان له بعد إقراره بالخسارة: «لقد خضنا معركةً انتخابية غير متكافئة بين المال السياسي واستغلال السلطة في مواجهةِ مشروع مدني رافعته الانتخابية الوحيدة قناعة الناس ببرنامج (البديل) وإيمانهم بالتغيير».

ومن ثم، دعا المفوضية إلى «ممارسة دورها على أعلى وجه، ومحاسبة كُلِّ من سعى لتشويه العملية الانتخابية من خلالِ شراء الأصوات العلني والموثق في محافظة النجف، وتبادل العيارات النارية بين أنصار المرشحين، فهذه تعتبر (دگة سياسية) تمس جوهر العملية الديمقراطية وإرادة الناخب الحر».

وفي حين لم يحالف الحظ رئيس البرلمان العراقي، محمود المشهداني، الذي كان يحمل «الرقم واحد - بغداد» ضمن «قائمة السيادة» لنيل مقعد في البرلمان العراقي، صرّح لـ«الشرق الأوسط» بأن العراق «تخطى العقبة الأولى بإجراء الانتخابات في موعدها المحدد دون تأخير... أما التحدي الثاني الذي اجتزناه فيتمثل في سير العملية الانتخابية بانسيابية عالية وروح ديمقراطية، مع تسجيل خروق قليلة جداً تكاد لا تذكر». وهذا قبل أن يضيف: «تحديد نسبة المشاركة النهائية يتطلب انتظار انتهاء اليوم الانتخابي... والمرحلة المقبلة تتطلب الانتقال من الصراع على السلطة إلى بناء الدولة»، معتبراً أن هذا الهدف يحتاج إلى «حكومة كفاءات في ظل أمن مزدهر واقتصاد ناجح، لا حكومة قائمة على الولاءات السياسية».

 

قوى «الإطار التنسيقي»... مستعجلة

من جانب آخر، ومع أن الطريق لا يزال طويلاً على تشكيل الحكومة المقبلة - سواء طبقاً للمُدد الدستورية التي تستغرق نحو أربعة أشهر أو الخلافات السياسية المتوقع أن تكون عنيفة - فإن قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي بدأت تعلن عن عزمها تشكيل «الكتلة النيابية الأكبر»، بعد التصديق على نتائج الانتخابات. وفي هذا مسعى واضح منها لعزل رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الفائزة كتلتُه بأكبر عدد من المقاعد؛ إذ أعلن مختار الموسوي، القيادي في منظمة «بدر» (إحدى مكوّنات «الإطار التنسيقي») في تصريح صحافي، أن «قوى (الإطار التنسيقي) ستعلن عن تشكيلها القائمة، أو الكتلة النيابية الأكبر، بعد تصديق النتائج الرسمية للانتخابات... فقوائم (الإطار التنسيقي) حصلت على أصوات ومقاعد تمكنها من المضي بالكتلة الأكبر التي يقع على عاتقها تسمية رئيس الحكومة الجديدة، وليس بالضرورة أن تكون مع ائتلاف الإعمار والتنمية (أي كتلة السوداني)».

مع ذلك، فإنه بالنسبة للمراقبين السياسيين، وبغض النظر عن دقة نسب المشاركة أو عدمها، فإن الفوز الذي حققه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني سيعيد ترسيم قواعد اللعبة داخل قوى «الإطار التنسيقي»، وهو بعدما تمكن من الوصول إلى منصب رئيس الوزراء في الدورة الماضية وهو يملك فقط مقعدين برلمانيين، فإنه حصل هذه المرة على 45 مقعداً. وهذا واقع يجعله لاعباً أساسياً داخل الفضاء الإطاري، ومنافساً لشغل منصب رئاسة الوزراء لدورة ثانية، وكان قد أعلن بوضوح عن هذه الرغبة.أخيراً، مع أن الأمور لا تبدو بهذه السهولة، فإن ما يساعد رئيس الوزراء على ذلك حصول متغيرات إقليمية ودولية لصالحه، أبرزها تراجع النفوذ الإيراني في العراق مقابل تزايد النفوذ الأميركي، وبالأخص، بعد دخول المبعوث الرئاسي الأميركي مارك سافايا على خط التكهنات والتأويلات بشأن تشكيل الحكومة العراقية العتيدة.


«ماما سامية»... طموح نسائي محاط بـ«فخ الديكتاتورية»

واصلت الرئيسة بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولةً الحفاظ على استقلال القرار التنزاني
واصلت الرئيسة بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولةً الحفاظ على استقلال القرار التنزاني
TT

«ماما سامية»... طموح نسائي محاط بـ«فخ الديكتاتورية»

واصلت الرئيسة بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولةً الحفاظ على استقلال القرار التنزاني
واصلت الرئيسة بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولةً الحفاظ على استقلال القرار التنزاني

قبل أربع سنوات، كان من الصعب تخيّل أن تتولى امرأة مسلمة من جزيرة زنجبار رئاسة دولة تنزانيا شرق القارة الأفريقية. إلا أن سامية صلوحو حسن، التي اكتسحت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اعتادت على المفاجآت والجدل المستمر. فقد بدأت رحلتها بطموح نسائي إصلاحي قادته صدفة إلى السلطة بعد وفاة الرئيس السابق جون ماجوفولي، لكنها، حسب مراقبين، تنزلق اليوم تدريجياً بصناديق الاقتراع نحو نفق يُخشى أن يتحول إلى «ديكتاتورية دامية».

بداية مشوار سامية صلوحو حسن (65 سنة) مع كرسي الرئاسة في تنزانيا كانت بمثابة حقبة انتقالية فرضها ظرف استثنائي لمدة 4 سنوات، إلا أنها حولت تلك الفرصة العابرة، أخيراً، إلى حضور لخمس سنوات أخرى، فارضة نفوذها عبر صناديق الاقتراع وسط احتجاجات دامية، في مشهد يختزل التحديات المستمرة في مشاهد الانتقال الديمقراطي الأفريقي.

في خطوات صلوحو حسن الأولى على أبواب القصر الرئاسي عام 2021، كان لقبها الشعبي «ماما سامية» ترميزاً للحكمة والاحترام الأمومي، وتفاؤلاً ببداية إصلاحات واعدة. ولكن مع مرور الوقت، فُقد هذا البريق تدريجياً، وتحوّلت صورتها من زعيمة معتدلة إلى شخصية مثيرة للجدل، تتهمها المعارضة بتكريس نهج الحزب الواحد وإعادة إنتاج سياسات القمع... بل حتى ذهب البعض إلى تشبيهها بالرئيس الأوغندي الراحل الجنرال عيدي أمين.

تجلّى هذا الأمر على نحو واضح بعد فوزها الساحق بنسبة 97 في المائة في انتخابات وُصفت بأنها «غير نزيهة» شهدت اعتقال عشرات المعارضين بتهم «الخيانة العظمى». ويرى محللون محليون أن الرئيسة ما عادت كما كانت عند توليها الحكم عام 2021. وهذه هي أيضاً رؤية المحلل السياسي التنزاني خليفة سعيد، رئيس تحرير منصة «تشانزو»، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «التوقّعات في الماضي كانت تدور حول ازدهار اقتصادي شامل وتعزيز التعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان، لكن هذه الآمال تبخرت خلال أربع سنوات من حكمها».

نشأة وسط أجواء متوترة

الأجواء المتوترة في تنزانيا راهناً لا تتباين كثيراً مع مرحلة تشكُّل الوعي المبكّر لرئيستها في مسقط رأسها، جزيرة زنجبار، حيث كانت تتبدّل ديناميكيات السلطة ويأخذ التغيير الاجتماعي مجراه.

وُلدت سامية صلوحو حسن يوم 27 يناير (كانون الأول) 1960 لأسرة مسلمة متواضعة - الأب يعمل مدرّساً - حين كانت جزيرة زنجبار تعيش اضطرابات سياسية متلاحقة. ولقد بلغت تلك الاضطرابات التاريخية ذروتها بثورة عام 1964 التي أطاحت بنفوذ سلطنة عُمان على الجزيرة، وأسفرت عن مذابح راح ضحيتها الآلاف، ومهّدت، من ثم، الطريق لاتحاد زنجبار مع تنجانيقا، «جارتها» الكبيرة على اليابسة الأفريقية، وبذلك «الاتحاد» ولدت دولة تنزانيا الحديثة.

أهدت تنزانيا في ثوبها الجديد فرصاً حياتية مهمة لرئيسة المستقبل، إذ كانت من بين قلةٍ من الفتيات اللواتي واصلن التعليم في زمنٍ كانت الفرص محدودة للنساء. إذ درست في مدارس زنجبار، ثم تلقّت تدريباً عالياً في الإدارة العامة والاقتصاد في معاهد بينها معهد إدارة التنمية (جامعة مزومبي حالياً) في تنزانيا، ثم واصلت تعليمها فحصلت على دبلوم دراسات عليا من جامعة مانشستر البريطانية، ثم ماجستير في التنمية الاقتصادية ضمن برنامج مشترك بين جامعة جنوب نيوهامبشاير الأميركية وجامعة تنزانيا المفتوحة.

هذا المسار الأكاديمي منحها قاعدة صلبة مكّنتها من العمل في مؤسسات حكومية وبرامج الأمم المتحدة، قبل أن تدخل البرلمان وتشغل مناصب وزارية مختلفة، إلى أن اختارها الرئيس ماغوفولي - من حزب الثورة (اليسار المعتدل الاشتراكي) - نائبةً له عام 2015.

رئيسة لتنزانيا

لكن في مارس (آذار) 2021 بعد وفاة ماغوفولي (61 سنة) المفاجئة، وجدت صلوحو حسن نفسها - من دون أي حسابات مسبقة - على قمة السلطة. بالفعل، أقسمت في حينه اليمين الدستورية، وغدت أول امرأة تترأس تنزانيا، ما يعني أنها لم تصل مباشرة عبر صناديق الاقتراع، بل على وقع الصدمة الوطنية.

ورغم الشكوك الأولى حول قدرتها على القيادة، بادرت الرئيسة الجديدة إلى طرح سياسة «آر إس 4» التي تضمنت نهجاً رباعياً يتمثل في المصالحة، والصمود، والإصلاح، وإعادة البناء، محاولةً طي صفحة إرث سلفها الثقيل.

لقد حاولت الـ«ماما سامية» إظهار انفتاح معلن، وطيّ صفحة الماضي عبر رفع القيود عن الإعلام وتسهيل عمل المعارضة. كذلك أطلقت لجنة للإصلاح السياسي للتشاور مع المجتمع المدني، كما أفرجت عن بعض المعتقلين السياسيين، وفتحت قنوات حوار مع الخصوم، فبدت في بداياتها وكأنها تبشّر بعصر جديد من الانفتاح والديمقراطية.

اقتصادياً، وضعت صلوحو مسألة التنمية في صدارة أولوياتها، وركّزت على مشاريع البنية التحتية والطاقة، وسعت لجذب الاستثمارات الأجنبية رافعةً للنمو الذي حقق نمواً ملحوظاً، بيد أن الفقر والبطالة كانا يطالان نحو نصف السكان، في بلدٍ يعتمد بشكل كبير على الزراعة والخدمات والسياحة.

ومن جهة ثانية، تواكبت جهود الرئيسة الاشتراكية مع إطلاق سلسلة مبادرات لمواجهة تغير المناخ وتعزيز الأمن الغذائي، فضلاً عن برامج لتمكين النساء والفتيات وتشجيع الشباب على المشاركة في الحياة العامة. هذه السياسات الاجتماعية ساعدت في الحفاظ على قاعدة دعم نسائية وشبابية، رغم اتساع الهوة بينها وبين الطبقة السياسية المعارضة.

السياسة الخارجية وسط التنافس القاري

على صعيد السياسة الخارجية، انتهجت صلوحو حسن نهجاً حذراً ومتوازناً. فقد أدانت الحرب على غزة، ودعت إلى وقف فوري لإطلاق النار، لكن من دون التحرك الجنائي المباشر على غرار جنوب أفريقيا أو الانخراط المباشر في جهد دبلوماسي في الصراع، مؤثرة دعم الحلول الدولية السلمية. وعملت على تعزيز علاقات بلادها مع دول خليجية، خصوصاً سلطنة عُمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، ووقّعت معهما مذكّرات تفاهم اقتصادية وتجارية عزّزت حضور تنزانيا الإقليمي.

في الوقت نفسه، واصلت بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولة الحفاظ على استقلال القرار التنزاني وتجنّب التبعية لأي محوَر دولي.

هذا التوازن ساعدها في جذب استثمارات ومساعدات تنموية، لكنه لم يُخف الانتقادات الغربية المناوئة لخطها السياسي، بذريعة «سجّلها في مجال الحريات السياسية»، لا سيما من جانب واشنطن.

ومع اقتراب نهاية ولايتها الأولى، بدا أن الصورة «الإصلاحية» للرئيسة الاشتراكية تهتزّ في الغرب على الرغم من المؤشرات الاقتصادية الجيدة، ففي استطلاع أجرته مؤسسة «أفروباروميت» وشمل 2400 مواطن، أظهر أن 68 في المائة من التنزانيين يقدرّون مستوى أداء الحكومة بين «الجيد والجيد جداً» في تحسين الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم.

إذ ترى مصادر غربية أن الأرقام في الاستطلاع نفسه كشفت أن الإصلاح الاقتصادي لم يتوازَ مع تحسن مماثل في الحريات العامة، بدليل أن 75 في المائة ممن استُطلعت آراؤهم أعربوا عن خوفهم من الانتقام إذا تكلّموا عن الفساد. وبينما قال 61 في المائة إنهم يشعرون بحرية نسبية في التعبير، قال 58 في المائة إنهم يفضّلون الحذر في النقاشات السياسية.

صدام مع الغرب

بالفعل، في الأمتار الأخيرة من ولايتها الرئاسية الأولى، دخلت سامية صلوحو حسن في أول صدام مع الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، بعد دعوات لإجراء تحقيق مستقل في مقتل المعارض علي محمد كيباو، الزعيم السابق لحزب «تشاديما» اليميني، الذي عُثر على جثته المشوّهة في دار السلام، لكنها ردت بلهجة حاسمة قائلة «نحن لسنا هنا ليُقال لنا كيف ندير بلادنا».

وهنا، حسب المحلّل التنزاني خليفة سعيد، بدا أن الرئيسة «تُظهر تراجعاً في الثقة بالنفس، وتعتمد بشكل متزايد على الأجهزة الأمنية بدلاً من الحلول السياسية، وتتعامل مع النقد كعداء شخصي». وكذلك تتبدل ملامح صورة الرئيسة «من أنجيلا ميركل أفريقيا إلى زعيمة متهمة بالقمع وإقصاء خصومها»، وفق الباحث محمد الجزّار في دراسة لمركز «قراءات أفريقية».

وبالتالي، يرى البعض أن الانتخابات الرئاسية التنزانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي «رسخت» صورة هذا التحوّل السلبي؛ إذ استُبعد أبرز المرشحين المعارضين واعتُقل بعضهم، ما جعل السباق الرئاسي شبه محسوم لصالح حزب الثورة (تشاما تشا مابيندوزي) الاشتراكي الحاكم.

بل بعد إعلان فوز صلوحو حسن بنسبة 97 في المائة، اندلعت احتجاجات عنيفة في عدة مدن أسفرت عن مقتل مئات، وتفجرت معها إدانات من الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية.

هكذا تحوّلت الرئيسة التي كانت تُوصف ذات يوم بـ«أمل الإصلاح» إلى شخصيةٍ تواجه اتهامات بالقمع والفساد السياسي، وتدشن ولايتها الثانية حاملةً ثلاثة ملفات ثقيلة:

الأول: ترميم الثقة السياسية بعد تراجع الحريات وتضرّر صورتها الدولية.

الثاني: تحقيق وعود الإصلاح الدستوري والإفراج عن قادة المعارضة لتهدئة الداخل.

الثالث: معالجة الأزمات المعيشية في ظل البطالة والفقر وتحديات المناخ.

ثم إن صلوحو حسن تواجه تحدياً خارجياً يتمثّل في «الموازنة» بين علاقاتها مع القوى الكبرى وحماية الهوية الأفريقية والإسلامية لبلادها، وسط تصاعد الانتقادات من الحكومات الغربية.

أخيراً، فإن المفارقة وسط هذا الزخم السياسي الدرامي والتوازنات المعقدة تظل في بقاء الرئيسة التنزانية محافظة على خصوصية حياتها الأسرية بعيداً عن الأضواء؛ إذ لم يظهر زوجها حافظ أمير أو أبناؤها الأربعة في الإعلام، كما لم تُدْلِ هي بتفاصيل دقيقة عن حياتها اليومية مع زوجها أو أسلوب إدارة شؤون المنزل.

واليوم، وبينما تدخل «ماما سامية» ولايتها الرئاسية الثانية، يبدو المشهد السياسي التنزاني وكأنه رقعة شطرنج مليئة بالمخاطر... وترى هي نفسها أمام مفترق حقيقي بين طموح الإصلاح الذي وعدت به، وفخ القمع الذي يتهمها الغرب بالانزلاق فيه.


الانتخابات الرئاسية تهزّ صورة تنزانيا «المستقرة»

عنف ما بعد الانتخابات في تنزانيا (آ ب)
عنف ما بعد الانتخابات في تنزانيا (آ ب)
TT

الانتخابات الرئاسية تهزّ صورة تنزانيا «المستقرة»

عنف ما بعد الانتخابات في تنزانيا (آ ب)
عنف ما بعد الانتخابات في تنزانيا (آ ب)

مع أن تنزانيا بقيت لعقودٍ نموذجاً للاستقرار السياسي، بل موضع فخر لوجود امرأة في الرئاسة، يرى مراقبون أن الانتخابات الأخيرة «قلبت» هذه الصورة رأساً على عقب.

إذ اكتسحت الرئيسة سامية صلحو حسن نتائجها، في غياب منافسٍ حقيقي، لتصبح البلاد محور اهتمام الإعلام الدولي، ليس كقصة نجاح ديمقراطي، بل كساحة صراع دموي بين القمع القديم وأمل الشباب بالإصلاح.

كانت أجواء الانتخابات الرئاسية في تنزانيا مشحونة بشكل غير مسبوق، رغم الكلام عن تغييرات اقتصادية واسعة، إذ وصفتها صحيفة «لوموند» الفرنسية مبكّراً بأنها «بلا منافسة حقيقية»، على خلفية اعتقال المُعارض البارز توندو ليسو، ومنع حزبه اليميني «تشاديما» من الترشح، في مقابل هيمنة الرئيسة سامية صلحو حسن وحزبها - حزب الثورة - على المشهد العام، لتغدو المنافسة شكليّة أكثر منها حقيقية.

بل استبقت صحف غربية هذا المشهد الانتخابي مبكراً بتسليط الضوء على بنية السلطة والحكم في تنزانيا نفسها، إذ رأت صحيفة «الغارديان» البريطانية أن «الحزب الحاكم بنى، عبر عقود، شبكة تنظيمية متغلغلة في مؤسسات الدولة والمجتمع، تجعل من الصعب على أي منافس أن يتحداه بفاعلية». وكانت الملاحظة الأبرز لصحيفة «دويتشه تاغِس تسايتونغ» الألمانية، أن الرئيسة غضّت الطرف عن «شبكة النفوذ الأمني التي أسسها سَلَفها جون ماغوفولي، حيث لا يزال مُوالوه يمارسون التضييق على المعارضة، مما خنق الحياة السياسية قبل الانتخابات الأخيرة».

ومن ثم، حين أعلنت لجنة الانتخابات فوز الرئيسة صلحو حسن بولاية جديدة بنسبة كاسحة بلغت 97.7 في المائة من الأصوات، تفجرت احتجاجات، وأسفرت الاضطرابات - وفق أحدث تقديرات لمكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان - عن مقتل المئات، وسط اتهامات للقوات الأمنية بإخفاء جثث المتظاهرين.

وعلى وقْع قلق الأمم المتحدة من العنف والانتهاكات التي صاحبت الانتخابات التنزانية وتشكيك الاتحاد الأوروبي في نزاهة الاقتراع، بدا المشهد صادماً في الصحافة الغربية، كما جاء في تقارير وتعليقات لـ«لوموند» الفرنسية، والـ«نيويورك تايمز» الأميركية، والـ«واشنطن بوست» الأميركية، و«إل باييس» الإسبانية.

وفي تحليل عميق، ذهب «معهد الدراسات الأمنية في جنوب أفريقيا» إلى القول إن ما حدث في تنزانيا ليس معزولاً، بل هو جزء من «تحوّل جذري في نمط الانتخابات عبر قارة أفريقيا»، لافتاً إلى تكرر «السيناريوهات» نفسها في كوت ديفوار والكاميرون وموزمبيق، حيث يقود احتكار السلطة إلى احتجاجاتٍ متصاعدة. ومع حقيقة أن 65 في المائة من سكان أفريقيا دون سن الخامسة والثلاثين، يرى المركز البحثي الجنوب أفريقي أن «هذه التركيبة الديموغرافية الشابة تعيد صياغة الخطاب السياسي، وتجعل من تجاهل أصوات الأجيال الجديدة خطراً يفوق أي فوز انتخابي».

وبالفعل، جاء في تقديرات محللين أن «تنزانيا لن تعود بعد هذه الانتخابات إلى ما كانت عليه». وقد نقلت «الغاريان» البريطانية عن ديوس فالنتاين، الرئيس التنفيذي لمركز التقاضي الاستراتيجي (مقره في دار السلام بتنزانيا) قوله: «نحن أمام لحظة فاصلة، فإما نموذج جديد بالكامل، أو مستوى غير مسبوق من الإفلات من العقاب!».