«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي (4): سينما لبنانية تثير الإعجاب والنقد‬

زياد الدويري وقت التصوير
زياد الدويري وقت التصوير
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي (4): سينما لبنانية تثير الإعجاب والنقد‬

زياد الدويري وقت التصوير
زياد الدويري وقت التصوير

عندما اختار المخرج الراحل مارون بغدادي اللجوء إلى بلد آخر غير لبنان الحرب في الثمانينات، انتقل للعيش والعمل في فرنسا وحقق أفلامه اللاحقة كلها هناك (مثل «دانتون» و«الرجل المحجب» و«حروب صغيرة»). بذلك تبنّـى المدرسة الأوروبية في الإخراج وأقام صرحاً من الأعمال لم يتوقف إلا بموته في سن مبكرة إثر حادثة وقعت له في بيروت.
المخرج زياد الدويري، الذي نشاهد له على شاشة مهرجان ڤينيسيا الحالي «القضية 23»، ترك لبنان، بعد فيلمه الناجح «بيروت الغربية» (1989) إلى الولايات المتحدة. دخلها مصوراً ثم مديرا للتصوير إلى أن استطاع إنجاز فيلمه «ليلى تقول» سنة 2004، أي قبل ثماني سنوات من عودته إلى العناوين الكبيرة عندما قام بتصوير «الهجوم» في فلسطين المحتلة وإسرائيل.
السينما التي تبناها زياد الدويري لم تكن بطبيعة الحال فرنسية، بل أميركية وهي ما يقدمه في فيلميه الأخيرين المذكورين: «الهجوم» و«القضية 23». والبحث الذي بدأه في «الهجوم» حول هوية إنسان فلسطيني يعيش داخل إسرائيل، مستمر وإن انتقل إلى لبنان للبحث عن هويتين مفقودتين عوض واحدة: هوية اللبناني في الوضع الاستثنائي القائم والدائم في وطنه، وهوية الفلسطيني الذي ولد في أحد مخيمات لبنان ونشأ فيها، ولا يزال بلا هوية ذات انتماء وطني.
- كلاهما ضحية وكل منهما ينفي عن الآخر أنه ضحية
في «القضية 23»، هناك ياسر الفلسطيني (كمال الباشا) وهو معيّـن من قبل البلدية لمعاينة احتياجات شارع يقع في أحد الأحياء المسيحية من صيانة وأعمال وإزالة مخالفات. طوني (عادل كرم) يسكن الطابق الأول من البناية وحين يسمع لهجة ياسر الفلسطينية يتعمد دلق الماء عليه وعلى رئيسه اللبناني اللذين كانا يعاينان مزراباً مكسوراً لشرفة طوني. يطلب اللبناني من طوني السماح لهما بخلع المزراب المكسور وتركيب مزراب جديد كامل. يرفض. يباشران العمل على أي حال؛ لأن ذلك من مهامهما. لكن طوني يعود بمطرقة ويهوي على المزراب الجديد ويكسره، ما يقابله ياسر بشتيمة.
طوني يطلب اعتذاراً عن الكلمة. ياسر يجدها كبيرة عليه. لكن طوني مشبّـع بالأفكار التي تشربها من «حكيم» حزب «القوات اللبنانية» ومن خطابات بشير الجميل الذي كان يردد أن على كل الفلسطينيين الرحيل من لبنان «ليبحثوا عن وطن آخر» كما نسمعه يقول. ليس أن الأحداث تدور في زمن الحرب الأهلية، بل بعدها (أيام الهواتف الجوالة الحديثة).
الأمور تتطوّر عندما يهاجم طوني ياسر بعدما رضي الثاني بالاعتذار. يقول له: «يا ريت شارون محاكم عن بكرة أبيكم». عند هذه الكلمة يصوّب له ياسر لكمة قوية في المعدة تكسر لطوني ضلعين. تدخل القضية المحكمة ويأمر القاضي بإطلاق سراح ياسر لأن الاعتداء الذي وقع كان وليد اللحظة. طوني يستأنف. محكمة أخرى يتم نصبها ومعظم الفيلم بعد ذلك يدور في قاعتها.
كل هذا والعلاقة بين طوني وزوجته الحامل تتوتر. هي ترى أنه لو لم يشتم الفلسطيني لما حدث ما حدث. ثم تتوتر أكثر عندما يدخل طوني المستشفى مرّة ثانية، هذه المرة بعدما جر آلة ثقيلة رغم إصابته السابقة فزادت حالته سوءاً.
إذ يكمل الفيلم متابعة القضية في المحكمة يحيطها بما تحيط الأفلام الأميركية المواضيع المعالجة درامياً به. هذا هو أحد التأثيرين المستمدين من تجربة العمل الهوليوودية، وهي تتعلق بالكتابة وتنفيذ المكتوب. ففي أحد المشاهد يستقبل رئيس الجمهورية اللبناني الاثنين في مكتبه ويحاول إنهاء الأمر بالحسنى. طوني يرفض. لا يرفض فقط، بل يرفع صوته على صوت رئيس الجمهورية ويحتد أمامه لأنه يرفض أن يُـعامل «الغريب» بامتياز ويُـعامل هو كما لو أنه من الدرجة الثانية. في الأفلام الأميركية، مثل هذا الموقف قد يمر، لكن في فيلم لبناني هو اقتباس لا يمكن تطبيقه من دون عواقب. ولا هو محتمل.
التأثير الآخر كامن في المنهج المتبع للمونتاج. اللقطات المتوالية ليست الوحيدة التي تدل على هذا التأثير، بل صياغة الفيلم بأجمله. هذا فيلم يسرد قصّـة أكثر مما يحلل وضعا. على ذلك، لا ريب في صدق ما يذهب إليه. اللبناني المسيحي الذي يجد نفسه مهدداً في وطنه، والفلسطيني المسلم الذي يعتبرها إهانة كبرى أن يواجه بعنصرية واضحة. يتنقل المخرج بين العائلتين قليلاً. يظهر اختلاف الرؤى بين أفراد العائلة كما بين الخصمين. ويزيد المخرج، في اقتباس آخر لأفلام أميركية (مثل Class Action سنة 1991) نكتشف أن محامي الدفاع عن طوني (كميل سلامة) هو والد محامية الدفاع عن ياسر (دياماد بو عبود). هذا يجعل الفيلم أكثر سخونة، لكن ربما أقل واقعية مما يجب.
كل ذلك يؤدي إلى فتح ملفات سياسية وإلقاء نظرة على بعض التاريخ: الفلسطينيون الذين هاجروا وطنهم وأصبحوا لاجئين في أوطان سواهم. ثم المسيحيون الذين تعرضوا للقتل في الدامور وتم تهجيرهم من أراضيهم وممتلكاتهم. إنه تاريخ لا ينتهي ولا يبدأ، بل يستمر. الفلسطينيون ضحايا والمسيحيون ضحايا والعدالة العالمية مفقودة.
يحسن الدويري تقديم شخصياته جميعاً، خصوصاً شخصيتيه الأساسيّـتين. طوني الذي طلب الاعتذار، لكنه انطلق من مفاهيم حزبية منغلقة، وياسر الذي عمد إلى العنف، مستفيداً من استعداد الدولة للأخذ بعين الاعتبار مشاكل الفلسطينيين غير المحلولة.
يستعين الدويري بمدير تصويره في فيلم «الهجوم» توماسو فيوريللي الذي يستخدم أسلوباً طيعاً: الكاميرا ثابتة غالباً حين يطلب المشهد ذلك، ومتحركة كما لو كانت كاميرا إخبارية (ريبورتاجية) في مشاهد أخرى، كما مشهد الخناقة الكبيرة بين أنصار ياسر وأنصار طوني خارج المحكمة.
- «الشهيد»... يبحث في الأضداد
«الشهيد» هو فيلم لبناني آخر معروض في قسم رسمي إنما خارج المسابقة الأولى اسمها «بيانل كوليدج». قسم خاص بالأعمال الشبابية الأولى. المخرج هو مازن خالد الذي اختار نصاً يربط المجتمع الحاضر وحدوده المغلقة بطلب الحرية التي تتراءى كالأفق وتبقى بعيدة.
المجتمع هو أزقة في بيروت، حيث يعيش بطل الفيلم الشاب حسّـان (حمزة مقداد) والحرية يرمز إليها البحر. الكبت الاقتصادي والمعيشي والجنسي والاجتماعي يكمن في تلك الحارات المتداخلة، والحرية تكمن في هذا البحر الواسع، لكن كلهم يمثلون بيروت. نقطة انطلاق رائعة لفيلم يبحث في الأضداد.
يبدأ «الشهيد» بكاميرا تجول فوق جسد حسّـان العاري. نراه جالساً بلا حراك ثم تبحر الكاميرا فوق جسده قبل أن يستيقظ من النوم على صوت والديه يطلبان منه النهوض للبحث عن عمل. والده يريد أن يسعى له عند أبو مصطفى. لكن حسّـان، الذي يدافع عن سبب تركه عمله الأخير بالقول إنه كان مهيناً، يخبره بأنه سيبحث عن العمل بنفسه. ثم يقول لوالدته إنه سيبدأ البحث غداً.
أما اليوم (والفيلم يقع في نهار واحد) فسيقضيه على البحر برفقة الشباب. أحدهم محمد هو أكثر إعجاباً وحباً بحسّـان. وهناك مشهد يجلسان فيه على إحدى صخور البحر يبث فيه حسان بعض متاعبه ويرى أن حاملي السلاح (من دون ذكرهم) أفضل من حالتهما لأنهم على الأقل لديهم ما يقومون به، أما هو، يضيف «لا شيء».
بعد قليل ينهض حسان من مكانه ويصعد الشارع المطل على البحر ليقفز إليه من علو كبير. مهما كان الدافع، فإن النتيجة أن القفز من ذلك الارتفاع قضى عليه. يتم انتشال جثته من قبل أصدقائه والآخرين المتواجدين.
ثلث الساعة الأخيرة تقع في البيت مجدداً وتصوّر مراسم الحزن والألم العاصف بوالديه خصوصاً بوالدته. هنا، وإلى جانب البكاء والندب يورد الفيلم ثلاث مشاهد غنائية. يكاد ذلك أن يطيح بما سبق من حيث إنه التفاتة صوب خط مختلف. صحيح أن الأغاني ليست استعراضات من نوع «الميوزيكال» لكنها تتدخل في نص لم يبدأ على هذا النحو. هي، من حسناتها القليلة، إنها مصوّرة كما لو كانت أداء مسرحياً (النساء بملابس الحداد السوداء على خلفية سوداء أيضاً).
يلي ذلك خمس دقائق لمشهد غسل الميت الذي يقوم به أصدقاؤه. الأغاني ومشهد الغسل يثيران لدى المشاهد الأجنبي (كل من في القاعة باستثناء هذا الناقد) إعجاباً كبيراً بفيلم يوفر مطالعة الطقوس في مثل هذه الحالات.
إلقاء الممثلين في أكثر من مشهد هو عثرة في غير محلها، لكن المخرج يضم المشاهد إلى لبنة الفيلم القائمة على معالجة فنية في مكانها الصحيح معظم الوقت.
ما يبدو أمراً مستغرباً أن يُـعامَـل حسان شهيداً. مفهوم الشهادة تغير هذه الأيام بتعدد وكثرة استخدام الكلمة، وهذا معروف. لكن هل يشمل من مات غرقاً وبظروف لا علاقة لها بالشهادة؟ حسب الفيلم، نعم. المخرج يسأل ويجيب ضمناً «أليس الغارقون في البحر شهداء حقيقيين كونهم مدفوعين من قِـبل المجتمع للحافة؟».
هذا غير مقنع والعلاقة واهية، وليس لها معنى كبير على نحو بصري، بل تبدو تبريراً للعنوان. رغم ذلك يسجل الفيلم نقاطاً عالية على صعيد بصرياته ومعالجته الكلية لحكايته التي تتحرك على وقع من الإيحاءات أكثر مما تريد سرد حكاية ما.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».